نجيب محفوظ .. ستمضي الحياة في الحديقة والناي والغناء (محمد شعير)
محمد شعير
مبكراً، انتبه نجيب محفوظ إلى الدور السياسي الذي يمكن أن تلعبه جماعة الإخوان المسلمين في السياسة بل وفي الدين أيضاً. كانت المرة الأولى التي تظهر فيها شخصية تنتمي إلى جماعة الإخوان في الرواية العربية لدى نجيب محفوظ، تحديداً في روايته «القاهرة الجديدة» التي صدرت عام 1934، أي بعد ست سنوات فقط من تأسيس الجماعة عام 1928، كانت الشخصية تحمل اسم مأمون رضوان، كتب محفوظ في روايته ساخراً منه: «الأستاذ مأمون رضوان إمام الإسلام في عصرنا هذا. وقديماً أدخل عمرو بن العاص الإسلام في مصر بدهائه، وغداً يخرجه منها مأمون رضوان بثقل دمه».. والمفارقة أن ما تنبأ به صاحب «أولاد حارتنا» يحدث في مصر الآن بالفعل. لم يكن محفوظ يضرب الودع وقتها، ولكنه كان يعرف حركة التاريخ ومكره أيضاً، إطلاعه الواسع على الجماعة وظروف تأسيسها (في الإسماعيلية المسيطر عليها سيطرة كاملة من الاحتلال الإنكليزي وقتها) أتاح له أن يقرأ المستقبل. وكان محفوظ ينفر بشدة بحكم تكوينه الليبرالي من أي جماعة ترى أنها تمتلك الحقيقة المطلقة. وقد حاول العديد من أصدقاء محفوظ بعد انتشار أفكار الجماعة وبزوغ نجم حسن البنا أن يقنعوه بأن «يأخذ فكرة عن الجماعة»، حاول ذلك بقوة الروائي وناشر محفوظ عبد الحميد جودة السحار، بل حدد له موعداً مع حسن البنا ولكن عميد الرواية اخبره أنه كان ينفر بشكل فطري من التنظيمات المغلقة، التي تقترب في بنائها من الفاشية. وكان يرى أن جماعة الإخوان ومصر الفتاة مجرد تنظيمات «فاشية وانتهازية في الوقت ذاته»، لذا نفر منهما مفضلا الانضمام إلى الوفد. قال له السحار: تعال قابل البنا وبعدين احكم. ولكن محفوظ لم يكن «يطيق هذه السيرة أبداً».
لم يتغير موقف محفوظ حتى عندما التحق واحد من معارفه بالجماعة، بل صار مفكرها الأبرز فيما بعد. سيد قطب الذي ربطته بالعميد علاقة قوية، وقدم تقريباً رواياته الأولى للوسط الثقافي. قطب يكبر محفوظ بخمس سنوات فقط، وكان ناقداً أدبياً وروائياً وشاعراً، كانت أناشيده مقررة على طلبة المدارس حتى منتصف الستينيات، عندما تم القبض عليه، كما أنه كتب رواية هامة «أشواك» تقترب أن تكون سيرة ذاتية يشرح فيها معاناته النفسية بعد قصة حب فاشلة تخللها لقاءات غرامية وجنسية.
مع سيد قطب
لم تكن علاقة محفوظ وقطب علاقة تلميذ بأستاذه، إذ لم يكن عميد الرواية يخفي أنه تلميذ لاثنين الشيخ مصطفى عبد الرازق، وسلامة موسى، أخذ من الأول – كما يقول رجاء النقاش: «نظرته المستنيرة إلى التراث العربي والإسلامي، ومن الثاني التطلع إلى التجديد الحضاري، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية ورد الاعتبار للجذور القديمة للشخصية المصرية». لذا يمكن اعتبار علاقته بقطب علاقة احترام لا صداقة أو تلمذه.
وكما كان مأمون رضوان أحد أبطال «القاهرة الجديدة» ثقيل الظل، تحول قطب بالنسبة إلى محفوظ إلى شخص ثقيل الظل بعد انضمامه إلى جماعة الإخوان، وقد وصف ذلك ببراعه في روايته «المرايا» حيث حمل قطب في الرواية اسم عبد الوهاب إسماعيل: «إنه اليوم أسطورة، وكالأسطورة اختلفت فيه التفاسير، وبالرغم من أنني لم الق منه إلا كل معاملة كريمة أخوية إلا أنني لم ارتح لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين….»، ويضيف محفوظ: «وبالرغم من أن عبد الوهاب إسماعيل لم يكن يتكلم في الدين، وبالرغم من تظاهره بالعصرية في افكاره وملابسه وأخذه بالأساليب الإفرنجية في الطعام وارتياد دور السينما، إلا أن تأثره بالدين وإيمانه بل وتعصبه لم تخف عليّ. اذكر كاتباً قبطياً شاباً أهداه كتاباً له يحوي مقالات في النقد والاجتماع، فحدثني عنه فقال: إنه كاتب مطلع حساس وذو أصالة في الأسلوب والتفكير. فسألته ببراءة متى تكتب عنه. فابتسم ابتسامة غامضة وقال: «لن اشترك في بناء قلم سيعمل غداً على تجريح تراثنا الإسلامي بكافة السبل الملتوية»..وأضاف: «لا ثقة لي في أتباع الأديان الأخرى»!
وكان آخر لقاء جمع محفوظ وقطب في منزل الأخير بحلوان في عام1964، عقب خروجه من السجن بعفو صحي، رغم معرفة محفوظ بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن أن تسببه من متاعب أمنية: في تلك الزيارة تحدثنا في الأدب ومشاكله, ثم تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة, وكانت المرة الأولى التي ألمس فيها بعمق مدى التغيير الكبير الذي طرأ على شخصية سيد قطب وأفكاره.. لقد رأيت أمامي إنسانا آخر.. حاد الفكر.. متطرف الرأي.. يرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقاً من فكرة الحاكمية لا حكم إلا لله.. وسمعت منه آراءه من دون الدخول معه في جدل أو نقاش.. فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب؟! يضيف محفوظ: في تلك الزيارة كان مع قطب مجموعة من أصحاب الذقون، لم يكن قطب يشبه صديقي القديم الذي عرفته فيه، وأردت أن اكسر حدة الصمت الثقيل فقلتُ دعابة عابرة، وافترضتُ أن اساريرهم ستنفرج وسيضحكون، ولكنهم نظروا إلي شزراً، ولم يضحك أحد حتى سيد نفسه، وعندها غادرت البيت صامتاً، وشعرت بمدى التحول الذي طرأ عليه».
إذن نحن هنا أمام نموذجين، كلاهما باحث عن حقيقة ما، لكن قطب كان صاحب مشوار مليء بالانقلابات والتغيرات الحادة، كل مرة يصل إلى طريق يجد أنه مسدود، سواء أكان في أحضان السلطة…أو يشعر بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، التي تجيز له أن يكفر المجتمع كله.
بينما على الجانب الآخر كان محفوظ شخصاً مختلفاً. استطاع طوال سنوات عمره، التي قاربت قرناً من الزمان، وبعد رحيله أيضاً، أن يحافظ على تأثيره وفاعليته، ليصبح رمزاً عابراً للسنوات والعصور.
عايش محفوظ التقلبات السياسية والمنعطفات الحاسمة، الثورات والأنظمة والحروب، من النكسة الى الاستنزاف وحرب أكتوبر، من ثورة 19، إلى ثورة يوليو 52 إلى كامب ديفيد، ومن نوبل إلى الخنجر الغادر الذي جاءه من الخلف. استطاع أن يصمد في وجه التقلبات والعواصف والتغيرات التي أصابت المجتمع والثقافة، صموده في وجه الحقد الأصولي. تبدلت الموضة وانقلبت المعايير الجمالية، وتغيرت الأسماء، وانسحب كتّاب كبار إلى متحف «التاريخ»، فيما ظل محفوظ في مكانه، يثير الاهتمام والإعجاب والجدل الصاخب.
تكبد صاحب « الثلاثية» مشقة السفر في عالم الرواية طوال عقود بعد أن قاوم الشيخوخة تارة والسلطات تارة أخرى، وكتاب التقارير وصناع الطغاة، وسكاكين المتطرفين وكل الصعوبات التي كادت تحول بينه وبين الكتابة تارات وتارات. ربما تمتد حياته وتتسع سيرته لحداثة عربية ضلت دروبها. كيف كان الوطن؟ وكيف أصبح؟
لم يكن عمره قد تجاوز الرابعة عشرة عندما بدأ الكتابة بقصة طويلة اسماها (الأعوام) مقلداً فيها رائعة عميد الأدب العربي طه حسين (الأيام)…وعندما التحق بكلية الآداب اختار الفلسفة لدراستها، وظل مشتتاً لفترة بين الأدب والفلسفة حتى حسم أمره نهائياً بالإخلاص للكتابة الأدبية وحدها. باختصار قرر أن يتخذ من الكتابة حرفة رغم ما ستجره عليه من مشكلات تماماً مثل راوي رائعته (أولاد حارتنا)!
عبر الكتابة لم يبحث عن شهرة أو مجد أو مال وإنما متعته الشخصية وحدها. ولذا تكفل عبر أكثر من خمسين رواية ومجموعة قصصية بقطع الرحلة التي قطعتها أجيال من الروائيين الغربيين خلال أربعمئة عام. أحرق محفوظ مراحل تطور الرواية من التاريخية إلى الواقعية إلى الرمزية، ولم يعد أمام أبنائه وأحفاده إلا الاندماج في مسيرة الرواية العالمية كتفاً بكتف.
محفوظ رجل الساعة، حسب وصف صديقه الكاتب الساخر محمد عفيفي، المنضبط رغم أنه يمارس أقصى أنواع اللعب في كتابته، صاحب الذاكرة المتوهجة، الحادة. حتى يومه الأخير لم تأخذ الأيام من ذاكرته شيئاً، بل كان في جلساته اليومية مع أصدقائه مثل شيخ صوفي، عباراته قليلة، مكثفة تلخص حكمة الكون، وتفيض بالدهشة، كما تعكس ضحكته الصافية التي ترتفع ين الحين والآخر استهزاء بذلك العالم التافه!
لم تفارقه النكتة حتى في أسوأ الأوقات بل لعله كان واحداً من أشهر ملوك القافية والقفشة التي لا تتميز فقط بالسخرية بل تكشف عن ذكاء حاد وبديهة حاضرة.
عندما سأله الحرافيش – كما يحكي جمال الغيطاني – في جلستهم الأسبوعية عن إحساسه لحظة الزلزال الذي أصاب مصر عام 1992 قال: (كنت أجلس في الصالة، شعرت به بقوة، وتطلعت إلى السقف منتظراً سقوطه، وسقوط برلنتي عبد الحميد في حجري)…وبرلنتي واحده من أشهر نجمات السينما في الستينيات تزوجت المشير عبد الحكيم عامر وتسكن الطابق العلوي من نفس العمارة التي يسكنها محفوظ!
وعندما زاره المفكر الفرنسي جارودي ذات مرة عام 1997، سأله: ماذا تكتب الآن؟
أجاب محفوظ بتلقائية: أكتب اسمي!
كانت زيارة جارودي له عقب محاولة الاغتيال التي تعرض لها عام 1994 بسبب روايته أولاد حارتنا وأصيبت اليد اليمنى، نتيجة طعنة مطواة في العنق سددها شاب غشيم لم يكن قد قرأ له حرفاً، وكان يتلقى علاجاً طبيعياً بانتظام، ويعاود التمرين على الكتابة مثل طفل، مكرراً كتابة اسمه آلاف المرات. ولم يكن صاحب الخنجر الذي امتد إلى رقبة محفوظ سوى سيد قطب نفسه صديق محفوظ الذي ترك تلاميذاً من الجهلاء، العنف والقتل والدم هو وسيلتهم الوحيدة للتغيير. الثورة كانت حلم محفوظ الدائم. بالتأكيد هو الأكثر فرحاً بها. هل تصله تفاصيلها؟
ربما لم يغادر محفوظ عالمنا. أتخيله يستيقظ في الصباح، يدخن سيجارته الأولى مع فنجان القهوة الأول، وفي الموعد المحدد يتجه إلي باب البيت ليفتح لقارئه الأول وكاتم أسراره عم صبري. يجلسان ليقرأ له الجرائد، ويخبره بآخر أخبار الدنيا. وفي المساء يرتدي ملابسه ويخرج ليلتقي الأصدقاء.. ويكون سؤاله الأول لهم: إيه آخر الأخبار؟
كل واحد يخبره بأمر من الأمور: الحقائق والشائعات. هو منصت باهتمام، قد لا يعلق، قد يتذكر شيئاً من التاريخ مشابهاً لما يستمع إليه، حادثة أو حكاية..وبعد أن يلم بكل التفاصيل والأبعاد..ينطق بحكمة مكثفة، أو نكتة وترتفع ضحكته الصافية وضحكات المحيطين به. هل تريد أن أخبرك بما جرى في حارتنا بعد غيابك؟ لعلك تابعت في عالمك الآخر ما جرى ويجري. لقد أيقن الشعب أن «عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة» كما كنت تقول دائما. شاهدنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب. لا لقد شاهدنا العجائب في «حارتنا»، ولكن مشرق النور لم يكتمل بعد، إنها الثورة التي حلمت بها، ودعوت لها، ويحاول الكثيرون حالياً الالتفاف عليها، ومحاصرتها. إسمك حاضر بقوة في الثورة، بعد أن خرجت الثعابين من جحورها، توجه إليك سمومها، يقولون ويقولون..يستعيدون تلك الاتهامات البالية، بالقطع ستقابل هذه الاتهامات بوداعة واستسلام. ربما تضحك.. وتتمنى أن «تمضي الحياة في الحديقة والناي والغناء» كما كنت تحلم في «أولاد حارتنا».. فهل تحقق الثورة حلمك الذي هو حلمنا جميعا؟!
صحيفة السفير اللبنانية