نزار شقرون يؤرخ لميلاد اللوحة في الوطن العربي
لم يعرف العرب الرسم على الحامل (أو المسند) أو بالزيت على القماش، إلا مع بدايات القرن العشرين، مما أسهم في تشكيل حركة تشكيلية وليدة مع مطلع هذا القرن، سرعان ما تأثر بها الفنانون التشكيليون في معظم البلدان العربية، الأمر الذي دعا د. نزار شقرون إلى طرح أسئلة كثيرة لا تتعلق بالظروف التاريخية التي حفت بظهورها فحسب، وإنما بالمشكليات التي رافقتها أيضا.
ويقصد باللوحة هنا؛ اللوحة القماشية الزيتية التي ظهرت في عصر النهضة الأوروبية، وحولت معنى الممارسة التصويرية وأعطت مفهوما جديدا للفنان المصور في حدود المنعطف الانطباعي، ومنه إلى مغامرة الفن الحديث.
ويحدثنا المؤلف عن مرحلة “التبني” حيث قام أفراد في البداية بإعلان الرغبة في تبني الشكل الفني الغربي كتعبير عن انسداد أفق “الفن الإسلامي” الذي تمثل في المنمنمات والأرسومات. ولكن هنا يواجه الفنان العربي معضلات كثيرة فقد تبنى شكلا فنيا مرتهنا بتطور التقنية الغربية، وهذا ما يفيد بقاءه في حدود التابعية التقنية، ثم إنه تبنى الشكل دون وعي بخطورة المفاهيم، وتصف سيلفيا نايف الفنان العربي في هذه المرحلة بأنه جاهل بالمفاهيم، وهو ما جعل الأعمال الفنية العربية مفتقرة إلى الإبداعية.
ويؤكد بدر الدين أبوغازي على هذا الرأي قائلا: إن هذه الفنون لم تبدأ كما بدأ الأدب الحديث مرتبطا بتراثه، متصل الحلقات به، وإنما جاءت بداياتها وثيقة الصلة بالغرب، أخذت عنه الوسائل والأشكال لإقامة فن تشكيلي حديث، ولم تربط الأقطار العربية هذا الوعي الجديد بالتجربة العربية التشكيلية في عصورها المختلفة بل مضت في اتجاه نقيض لها”.
وفي فصل بعنوان “الاستشراق الفني” يقول المؤلف إنه لا يمكن لنا أن نغفل عن حقيقة أن اللوحة المسندية ظاهرة جديدة على الثقافة العربية؛ فالتقاليد البصرية العربية لم تشهد هذا النمط من التصوير، وإن كانت قد تلمست طرقا وأنواعا أخرى لعل أبرزها فن المنمنمات وفن الأرسومات (الرسم على الزجاج) وهما النوعان البارزان رغم اختلاف المنشأ وأسبابه، ولكنهما عبرا عن رؤية للتصوير جديرة بالتفحص”.
ويميز نزار شقرون بين نوعين من الرسامين الاستشراقيين؛ نوع يعتمد على خياله وهو من أثر الأدب الرومانسي، مثل لوحة “ساردانبال” لدولاكروا، ولوحة “الجواري التركيات” لأنجر. ونوع يستخدم الرؤية الحسية المباشرة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر بفضل حركة التجارة والتوسع الاستعماري مثل أعمال الرسام جان إيتيان ليوتار الذي أول من دشن رسوم الاستشراق حين أُرسل في مهمة لدى الباب العالي، فاكتشف الشرق ورسم سلسلة من اللوحات تجسد أوروبيات بلباس شرقي.
ويطرح المؤلف سؤالا مهما في نهاية هذا الفصل وهو: هل كان المصور العربي يباشر ممارسته الفنية بعينه أم بعين الاستشراق؟
ويقر المؤلف بأن مصر سبقت البلدان العربية في انفتاحها على الغرب الأوروبي بسبب الحملة الفرنسية إليها (1798 – 1802) وساعدها ذلك على التنصل التدريجي من الحكم العثماني. وفي مجال الفن التشكيلي أصبح هناك سياقان: السياق الرسمي، وغير الرسمي للفن، حيث خلقت المعارض الفنية التي نظمت في مصر ابتداء من سنة 1891 اهتماما بهذه الثقافة البصرية الجديدة لدى فئات قليلة من الشعب المصري، وتمثلت هذه الفئات في شرائح بعض المثقفين والأثرياء الذين اعتبروا قبول واحتضان اللوحة المسندية في محيطهم نوعا من التباهي والوجاهة لإظهار انتمائهم إلى ثقافة الحداثة.
ويعرض المؤلف للنظام التعليمي في مصر في تلك الآونة، والبعثات الفنية والتجمعات الفنية، والسياق الفني في الإسكندرية ويتحدث عن مراسم الفنانين والهيئات الفنية، ويخصص أحد فصول الكتاب للجيل المصري الأول ورهانات البحث الفني من الاتباعية إلى البحث عن المحلية، ويتوقف عند تجربتي الفنانين يوسف كامل ومحمد ناجي، حيث اهتم يوسف كامل بالطبيعة في بيئته بمثل اهتمامه بالتعبيرات الإنسانية، وإن لاحظ بعض النقاد أنه من أبرز المختصين في تصوير الحيوانات والطيور، فإنه ركز أيضا على حياة الناس في الأسواق والأماكن القاهرية الشعبية.
أما محمد ناجي فقد كان على النقيض من يوسف كامل، فكان شخصية متعددة المشارب والوجوه فقد درس الحقوق في جامعة ليون الفرنسية ودرس الفنون في أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا وتقلد مسؤوليات كثيرة مثل إدارته لمدرسة الفنون الجميلة ولمتحف الفن الحديث والأكاديمية المصرية في روما، واشتغل بالنقد الفني في وقت مبكر.
ثم يعرض الكتاب لجهود راغب عياد وكان له مرسم ببيت الفنانين في حي القلعة بالقاهرة وسافر إلى روما في بعثة تبادلية مع زميله يوسف كامل، ويعتبر بعض الباحثين أن راغب عياد هو “سيد درويش” الفن التصويري المصري لقرابته من الناس وحياتهم.
أما محمود سعيد فقد انحدر من العائلة المالكة وساعدت نشأته المترفة انفتاحه على عالم التصوير، إذ تلقى في سن مبكرة دروسا على يد فنانة إيطالية، وتلقى دروسا في أكاديمية جوليان في باريس وتتلمذ على يد أنطوان بورديل، وجمع بين ما تعلمه في الإسكندرية وما درسه في باريس، ويجمع أكثر من باحث عربي على القيمة الخاصة التي تبوأها محمود سعيد ضمن أقرانه من الجيل الأول.
وعن اللوحة في السودان يتحدث د. نزار شقرون ويوضح أن الخمسينيات هي الحقبة الرئيسية لتكون ملامح فن سوداني منفتح على التجربة الغربية. وبرز خلالها الفنان إبراهيم الصلحي والفنان أحمد شبرين.
وفي العراق تأخر ظهور اللوحة المسندية عن تاريخ دخولها إلى دول عربية أخرى مثل مصر وتونس ولبنان، رغم ما زخرت به العراق من ثراء تصويري في تاريخها الحضاري الرافدي والإسلامي. وقد ظهرت اللوحة في العراق بشكل صدفوي وبتأثير عثماني، وبدأت مع الفنان نيازي مولوي بغدادي، ثم برز الفنان فائق حسن الذي أنشأ “جماعة البدائيين” إثر عودته من باريس سنة 1940 وعملت الجماعة على الخروج إلى الفضاءات المفتوحة للتصوير، ومتنت الصلة الإنسانية بين أعضائها حتى أصبحوا بمثابة العائلة الواحدة.
ثم يأتي بعد ذلك الفنان عبدالقادر الرسام الذي يعد أول من تنبى التصوير الغربي بشكل فعلي، ثم الفنان جواد سليم الذي اختار لفنه طريقا جديدا.
أما في تونس فقد شهد معهد قرطاجنة ولادة فن الصالون عام 1894 وبرز الفنان أحمد عصمان الذي يعد أول فنان تونسي يستخدم التقنية الأوروبية في الرسم في ستينيات القرن التاسع عشر. كما برز الفنان الهادي الخياشي الذي التزم بتصوير البورتريهات والمناظر الطبيعية، كما يبرز الفنانون عبدالوهاب الجيلاني ويحيى التركي وعبدالعزيز بن الرايس.
وفي الجزائر يبرز اسم محمد راسم الذي لم يساير اللوحة المسندية في بداياته وبقي وفيا للمنمنمة العربية الإسلامية، لكنه عاش متأثرا بتصوراتها التقنية واستفاد من الرسم الأكاديمي الغربي في معالجته للتشخيص في منمنماته.
وفي عام 1880 تأسست مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر والتي تعتبر من أقدم مدارس الفنون في المنطقة العربية وهي عبارة عن مدرسة حرة درّست الفنون الغربية مثل الرقص والموسيقى الكلاسيكية الغربية والتصوير. واستفاد منها الفنانون الجزائريون مثل أزوارو معمري وعبدالرحمن ساحولي.
أما اللوحة في المغرب فقد غلب عليها الاتجاه الفطري، حيث عرف المغرب قبل اطلاعه على اللوحة المسندية موروثا تصويريا مهما أبيح فيه التصوير التشخيصي وخاصة الأرسومات الزجاجية التي حفلت بتصوير حكايات الكتب.
وييرز من الفنانين في المغرب أسماء مثل: محمد بن علي رباطي الذي يعتبر أول فنان تعامل مع اللوحة المسندية، ومحمد علال، وميلود الأبيض، والمحجوبي أحرضان، ومولاي أحمد الأدريسي، وسعيد آيت يوسف، وغيرهم.
وفي فلسطين تكاثر المصورون المقدسيون مثل إسحاق نعمة وميخائيل مهنا القدسي وإسحاق نقولا الأورشليمي وغيرهم ممن عربّوا الأيقونة البيزنطية، وشهدت القدس بحكم رمزيتها المقدسة توافدا للإرساليات الغربية التبشيرية التي بحثت عن تعميق حضورها وبسط هيمنتها على الحياة المقدسية، وبرزت محاولات لإقصاء صهيوني للفن الفلسطيني، وشهدت فلسطين “حركة فنية يهودية” مدعومة من قبل مؤسسات صهيونية غربية.
وأسهم المعرض العربي الأول المقام في القدس صيف عام 1933 في احتضان تجربة الفنانة زلفى السعدي التي مثلت الجناح الفلسطيني. وبدأ الفنانون الفلسطينيون يرسمون المأساة، وبرز نقولا الصائغ وتوفيق جوهرية ومبارك سعيد وداوود زلاطيمو وإسماعيل شموط الذي التحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة وافتتح الرئيس جمال عبدالناصر معرضه الشخصي، فأعطى دفعا جديدا للفنان الشاب كي يواصل مسيرته الفنية.
أما اللوحة في سوريا فقد توزعت بين التنوع الجمالي وحضور البعد الوطني، حيث أشرت المرحلة العثمانية في نهايتها إلى ولادة فن اللوحة المسندية حيث ظهر الفنانون الأوائل ليعلنوا عن بداية ممارسة جديدة للفن لم يعرفها التراث الفني السوري رغم معرفته لفن التصوير على الزجاج.
وبرز في سوريا المصور الأب يوسف الحلبي، وتوفيق طارق وعبدالوهاب أبو السعود وسعيد تحسين ومحمود جلال وأدهم إسماعيل ونصير شورى. ومن الملاحظ أن البدايات السورية ترددت بين اتجاهين مهمين هما الواقعية والانطباعية. وكانت القاهرة مركز استقطاب لأكثر من فنان سوري مثل ناظم الجعفري وصبحي شعيب.
ويؤكد د. نزار شقرون على عبارة عفيف بهنسي أن الفن التشكيلي في لبنان أقدم ظهورا من غيره في باقي البلاد العربية، حيث بدأ ظهور المحترفات ومدارس تأطير الفنانين فدرس مصطفى فروخ سنة 1924 بالمعهد الملكي للفنون الزخرفية في روما، ودرس قيصر الجميل في أكاديمية جوليان بباريس. وبرز اسم حبيب سرور الذي عاصر الفن المصري وتحديدا مدرسة الإسكندرية لما حل في مصر، ولم يعد إلى لبنان إلا سنة 1890 حيث تفرغ للتدريس في مدرسة الصنائع العثمانية.
أضف إلى ذلك فناني المهجر من أمثال جبران خليل جبران وجورج داوود القرم الذي كتب عن الفنانين محمود سعيد وكلود مونيه وأنيس فليحان.
أما اللوحة في الأردن فيؤكد الكتاب أن الأردن عاش ظروفا استثنائية في مستوى حركته التشكيلية أقرب إلى وضعية الفن التشكيلي الفلسطيني، وكانت هناك أصول أجنبية لبدايات متواضعة، وظهر فنانون يبحثون عن هوية من بينهم أحمد نعواش ومهنا الدرة الذي يجمع الباحثون في الفن الأردني على اعتباره أول رائد للحركة التشكيلية الأردنية لتميزه بأسلوب فردي.
ويخلص شقرون في نهاية كتابه “نشأة اللوحة في الوطن العربي” – الصادر عن سلسلة “كتاب الدوحة” وجاء في 196 صفحة – إلى أن الممارسات التشكيلية بقيت أسيرة النخب والطبقات الموسرة، وهو ما تسبب في انغلاق عالم التشكيل منذ البداية، ولعل تبعاته لا تزال قائمة إلى اليوم. وعلى الرغم من إسهام المؤسسات الرسمية في الإحاطة بالفنانين من خلال إنشاء المدارس الفنية والبعثات إلا أن الفن التشكيلي بقي مهمشا في الواقع العربي.
ميدل إيست أون لاين