نصري الصايغ في مواجهة ثقافية للطائفية اللبنانية
إذا كانت آفة المجتمعات العربية في انقسامها عصبويات ما قبل وطنية وما قبل قومية، إثنية وطائفية ومذهبية، فإن آفة المجتمع اللبناني الكبرى تبقى في تركيبته الطائفية التي أربكت تاريخه خلال القرنين الماضيين، ودفعت جماعاته وفئاته في حروب عبثية أوصلته إلى حافة الهلاك.
هذه التركيبة لم يفلح لبنان من الإفلات من قبضتها، فخلال المئة عام الفائتة، كما رأى نصري الصايغ في «لبنان في مئة عام، انتصار الطائفية» (دار رياض الريّس 2018)، كان لبنان طائفياً بنسبة معقولة، أما اليوم في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، فقد باتت الطائفية في مرحلة التغوّل والتوحش.
تاريخياً، وفق المؤلف، نادراً ما كان لبنان لبنانياً وحسب. إنه ليس بهويته، بل بأهواء «شعوبه» لذا لا يعدو أن يكون التاريخ السياسي للبنان، هو تاريخ الصراعات الطائفية. فمنذ الولادة كان الكيان معتلاً، بلداً واحداً بثنائية متنابذة، ومنذ البدء خلت الساحة من العدل الطائفي. المحاصة موضع نزاع، المشاركة محط عراك، السلطة منصة اشتباك، الشارع رهن التحريض الطائفي. بلد واحد بشعبين لا يلتقيان إلا بعد تسوية ناقصة مرة تلو مرة في كيان معتل الولادة، معطوب الانتماء. الطائفية هي القاسم المشترك الذي عليه يختلفون. لذلك كان اللبنانيون دائماً في حاجة إلى من يفرض عليهم أنماط تعاملهم السياسي في أضيق حدود للحرية في دولة محتلة من الدويلات الطائفية، صاحبة الأمرة المبرمة على أتباعها. بينما اللآطائفيون ممنوعون من الوجود، واللبناني ملزم بأن يكون طائفياً ولو كان ملحداً. كي تكون لبنانياً عليك أن تكون طائفياً. كل الحقوق مقيدة بالطائفة، والحصول عليها يمر بالنفق الطائفي. العلمانيون صوت فقط. حركات التغيير كلام لا أكثر. هذا هو لبنان بعد مئة عام من حكم الطوائف الذي بلغ درجة الديكتاتورية، بحيث بات يعيش في انفصام تام مع نصوص الدستور والقوانين. الأمر الذي وأد الثقافة اللبنانية الفذة، وأفقد لبنان جاذبيته القديمة كبلد تنويري. فهل كانت صيغة الكيان منذ التأسيس محفوفة بأخطار الانزلاقات إلى الفتنة كلما عصفت في الإقليم عاصفة سياسية أو طغت قضايا عقائدية؟ ولماذا فشلنا في بناء الوطن اللبناني الذي حلم به نهضويونا؟
العلة في رأي المؤلف في أن لبنان مقيم في خارطة تهتز، وفي أن «شعوبه» شديدة الوثوق بروابطها العاطفية والدينية والعقدية. في حين أن الطائفية، كما تبدّت تاريخياً، وتحديداً منذ اندلاع الإمارة اللبنانية في جبل لبنان حتى زمننا الراهن، أثبتت أنها الأقوى، وأن انتصاراتها كانت مدوية. انتصرت على ابراهيم باشا، وعلى الوحدويين والقوميين، وفازت على الفرنسيين والبريطانيين والسوريين وأجلت الفلسطينيين عن لبنان، وهزمت الاحتلال الإسرائيلي.
طالما تمّ تأصيل الطائفية في الفكر والتاريخ اللبنانيين لإسباغ المشروعية الإيديولوجية على التكوينات الطائفية ونزاعاتها المتناسلة والمتجددة عبر التاريخ اللبناني. فلكل طائفة تاريخ يخصها، في حين أنه ليس للبنان تاريخ لبنانين حتى أن المؤرخين اللبنانيين كتبوا تاريخاً يتناسب وطوائفهم ومذاهبهم. في هذا السياق، شدّد مؤرخون على» اللبنانية «بما تعنيه من استبعاد للتاريخ العربي والإسلامي، فمدوا الكيان اللبناني إلى الفينيقيين، في حين أنه لم يكن موجوداً بصيغته هذه إلا لحظة ولادته في 1920، وقد عبّر عن هذه النزعة عدد من المفكرين الموارنة أمثال جورج قرم، فيما تمسّك المسلمون بانتمائهم للعروبة وأنكروا شرعية الموقف الانفصالي للبنان عن محيطه. ما يبرر التساؤل: هل لبنان هو وطن أو مشروع وطن لم يجمع أهله _طوائفه_على هويته، ودوره في محيطه رغم الإعتقاد السائد أنهم أمة واحدة ومجتمع موحد؟ كيف ومتى تحولت الطوائف مشاريع سياسية؟ ألا تكفي مئة عام لتبيان هشاشة الكيان وليس نهائية لبنان؟
يذهب الصايغ الى أن الطائفية حالة مزمنة في التاريخ إلا أن تحولها من قضية إيمانية إلى قضية سياسية بدأ مع العهد المعني عبوراً بالعهد الشهابي وصولاً الى انفجار لبنان بعد القائمقاميتين ودخول الطائفية في المشهد السياسي وتصدرها الكيان، إذ قبضت على الدولة وجعلتها في خدمتها. لكنها فشلت في تأليف وطنن وفي صيانة دولة وفي تكوين هوية وطنية، واستعاضت عنها بالهويات الموروثة والرثة. وليس أكثر دلالة على فشل الطائفية من إخفاقها في إنجاز مشروع الزواج المدني الإختياري بعد عقدين على طرحه في مجلس الوزراء، حيث أجمعت على رفضه المرجعيات الدينية من كل الطوائف، ورأت فيه تهديداً للقيم الروحية والخلقية والإنسانية.
هكذا استمرت الطائفية في الهيمنة على المجتمع اللبناني، على رغم فشلها في تحقيق الأمنن حتى لأتباعها، فضلاً عن فشلها في تحقيق الديمقراطية والعدالة والحرية والكرامة والسيادة للوطن والمواطنين اللبنانيين، ما يؤكد أن الطائفية غير قادرة على بناء وطن بل هي تبني كيانات متجاورة في أفضل الأحوال او كيانات متناقضة في معظم الأحوال فالأوطان والقوميات لا تبنى على مكوّنات ما قبل قومية كالدين أو العنصر أو المذهب أو العرق.
لكن كيف السبيل الى تجاوز «الطائفية البغيضة»، وصولاً إلى الانتماء المواطني والقومي؟
سؤال إشكالي يربك المؤلف ويضعه كما كل العلمانيين العرب إزاء خيارات تتراوح بين الطوبى والاستحالة، إذ تتناقض الرؤى والتصورات. فقول المؤلف «إن الديموقراطية هي نصف الطريق إلى التغيير والإصلاح إن التغيير لا بد منهن وهو آت بلا شك وحاصل لا محالة، وإن ذلك يتم عبر إعلان اليأس من السلطةن وخلق نواة منفصلة عنها تبتدع وسائل ميدانية تستجيب لتحديات الواقع «قول طوباوي مثالي بينه وبين الواقع ما لا يحد من العوائق والتناقضات. فكيف سيتم ذلك وما هو المدخل اليه ومن هي الكتلة الجماهيرية القادرة على تنفيذه في مجتمع طائفين أعلن المؤلف غير مرة، يأسه من إمكان إصلاحه؟ من ذلك قوله «اللاجدوى هي صفة كل تحرك لتحسين الوضع أو لتغييره بأدوات الواقع… لا تحسين ممكناً ولا تغيير في لبنان، لا غد له، مسيرته منذ الاستقلالن هي مسيرة التراجع «فيما نرى أن طرح تصورات وأفكار واقعية ومتواضعة قد يكون أكثر جدوى من الترجح بين أقصى درجات الطوبى أو اليأس. فحبذا لو طرح علمانيونا خططاً ومشاريع كتلك التي طرحها نهضويونان مثل الحد من الأمية وإنصاف المرأة ومراقبة السلطة السياسية والأخذ بمبادئ الأديان السمحاء في الرحمة والعدل والشورى والتكافل الاجتماعي. أما كان ذلك أجدى من جلد الذات أو انتظار غودو العلمانية الجذرية الذي قد لا يأتي أبداً؟
لا بد كذلك من لفت المؤلف إلى أن العروبة، وإن لم تكن اختراع المسيحيين وحدهم، إلا أنها قد تجلت في شكلها الأرحب والأعمق منذ خمسينات وستينات القرن التاسع عشر عند المسيحيين أمثال فارس الشدياق وبطرس وسليم البستاني وفرنسيس المراش وأديب اسحق، وذلك قبل الكواكبي في آخر ذلك القرن وأول القرن العشرين.
صحيفة الحياة اللندنية