كتاب “السينما المصرية والأدب.. قصة حب” لأمير العمري
في كتابه “السينما المصرية والأدب.. قصة حب” الصادر عن دار أفاق للنشر بالقاهرة يأخذنا الناقد السينمائي المصري أمير العمري في رحلة بديعة بين عالمي الأدب والسينما، ومع صفحات الكتاب التي تقطر جمالاً وروعة نتأكد أن النقد في أساسه فعل إبداعي، اكتشاف، تنوير، نبوءة وحالة تتسامى فيها الذائقة الجمالية وتنتج فناً كرحيق الزهور.
يرسم العمري بين السينما والأدب جسوراً مزدانة بالورود كالتي يقف عليها العشاق يتلون قصص عشقهم، يتوقف عند محطات أدبية وسينمائية هامة شكلت وجدان الفن المصري لعقود طويلة. شارحاً ذلك الارتباط الفريد بين النص الأدبي وصناعة الفيلم بعد أن وضع يده على جوهر تلك العلاقة، فنجاح أيّ عمل سينمائي مأخوذ عن نص أدبي كما يرى المؤلف مرهون بقدرة كاتب السيناريو على صياغة أفكار العمل الأدبي درامياً دون أن يهدم أو يغير هذه الأفكار وبذلك يكون المخرج الذي يملك بصيرة فنية ووعيا وأدوات قادراً على تجسيدها بصرياً بنجاح وتقديم عمل يحمل قيمة فنية، ويستشهد المؤلف بكُتاب سيناريو نجحوا في استخلاص وتطوير أفكار الرواية والتعبير عن فلسفتها، وقدموا أعمالاً ربما تفوقت على النص الأدبي، مثل محسن زايد في “السقا مات”، وإبراهيم الموجي في “أصدقاء الشيطان”، ورأفت الميهي في “شيء في صدري” وغيرهم.
وفي المقابل يتخذ المؤلف من فيلم “ورد مسموم” مثالا لتسطيح العمل الأدبي وتدميره وإفراغه من مضمونه وأفكاره، كما يُرجع العمري القطيعة التي حدثت بين السينما المصرية والأدب في الآونة الأخيرة إلى قلة كتاب السيناريو الذين يمكنهم تطويع الأدب للغة سينما. وحول تأثير الأدب على السينما يرى العمري أن السينما لم تثر نفسها بالأدب فقط بل أثرت نفسها بالاستعانة بالفنون البصرية والتعبيرية الأخرى كالتصوير والرسم والموسيقى والفنون التشكيلية، ويؤكد أن العلاقة بين الأدب والسينما علاقة متوازنة لم تكن حباً من طرفٍ واحدٍ فكما أثرى الأدب السينما فكريا أثرت السينما الأدب وفتحت الطريق للأدباء ليصلوا إلى الناس، كما تأثر هؤلاء الأدباء في كتابتهم بتقنيات السينما مثل المونتاج والتداعيات والإيقاع السريع ولغة الكاميرا. ويؤكد العمري أيضا أن الأعمال المهمة في تاريخ السينما هي التي استفادت من الأفكار والصور الأدبية، ولكن بعض منتجي الفيلم قاموا بإحداث تغييرات جوهرية تمس جوهر الرواية فأفسدوها، وذلك لأن رؤية المخرج أو كاتب السيناريو تتدخل في صياغتها عناصر أخرى ترتبط بتجربته الشخصية في الحياة ورؤيته للفن بشكل عام، كما ترتبط أيضا بظروف الإنتاج وحدوده وقيوده وبالرقابة المفروضة على السينما وهى أكثر من الرقابة المفروضة على الأدب بسبب التأثير الجماعي الكبير للفيلم.
فالرواية يكتبها الأديب وحده لتعبر عنه وحده، وينشرها لفرد يقرأها وحده، ويعيش معها بخياله الشخصي، أما الفيلم فهو منتج فني يشترك في إنتاجه فريق فني كبير من الفنيين والمبدعين، كما أنه منتج تجاري يعرض على الجمهور.
يتناول المؤلف في كتابة الذي يأتي في 366 صفحة من القطع المتوسط عشرين فيلماً مقتبساً عن عشرين رواية لأحد عشر كاتبا من أهم كتاب الرواية والقصة في مصر مثل نجيب محفوظ، إحسان عبدالقدوس، يوسف السباعي، طه حسين ويوسف إدريس وغيرهم.
وقد أخرج هذه الأفلام عدد من أهم مخرجي السينما المصرية مثل بركات وحسين كمال وصلاح أبوسيف وعاطف الطيب وغيرهم، ورغم أن هذه الروايات والأفلام قد قتلت بحثاً على يد نقاد الأدب والسينما طوال السنوات الماضية إلا أن العمري يعيد إليها الحياة وينعش قلبها وينقل لها نبضه وحسه الجمالي لتحيا من جديد وتعطينا أسرارها التي لم نعرفها من قبل.
في هذا الكتاب ينسج العمري رؤاه النقدية بخيوط من لغة أدبية شاعرية لا تتخلى عن سموّها وسلاستها الإبداعية. يسخّرها لوصف براعة الصورة وعمق النص الأدبي، ملتزما بمنهج يحترم الفوارق الفنية بين هذين الجنسين وغاية تبحث عن تقديم الجديد والمغاير، وحين يبدأ حديثه عن النص الروائي نجده يملك مفاتيح النقد الأدبي فيحدثنا دون تقعير عن الراوي العليم ومتعدد الأصوات والمشارك وعن سرديات الأحلام وتيار الوعي وازدواج خطوط السرد وتوازي مساراته، وتأثير الزمان والمكان على البيئة السردية ولا يتوقف العمري عند هذه المصطلحات النقدية التقليدية فقط لكنه ينطلق منها لتكوين منظور أكثر ارتباطاً بأساليب النقد الحداثي، أما فيما يخص فنون صناعة الصورة فنحن أمام ناقد متفرد أعطته السينما سرها منذ زمن بعيد فصار ينطق بسحرها ويكتب بحبر أطيافها.
من زاوية أخرى لو تأملنا بعض عناوين فصول الكتاب (فشل الحلم بالتغيير- قسوة الواقع – شهوة الرغبة في الصعود – الثورة تلتهم أبناءها – الخوف يأكل الروح – ثنائية السجين والسجان – فزع البرجوازي – بعد الهزيمة وقبل العبور) نجدها وكأنها قراءة للتغيرات التي طرأت على تركيبة الإنسان المصري في ظل عهود سياسية متلاحقة.
فالعمرى هنا لا يتخلى عن حسه الثوري وفكره الطليعي، فعدد كبير من الأعمال التي اختارها في كتابه تدور حول تيمة القهر السياسي مثل أفلام “الكرنك” و”ليل وقضبان” وشيء من الخوف، والقهر الطبقي مثل أفلام “دعاء الكروان” و”قاع المدينة” و”النداهة” و”الرجل الذي فقد ظله”، لكنه يعود ويتناول أفلاما ترتكن لأفكار إنسانية وفلسفية كبرى مثل “الشحات” و”السقا مات” و”أصدقاء الشيطان”. وفي هذا التنوع تكمن عبقرية هذا الكتاب الممتع الذي لا يعد دراسة أدبية وسينمائية فقط بل دراسة سياسية واجتماعية للواقع المصري منذ عصر ما قبل ثورة يوليو.
وبعد الانتهاء من قراءة هذا الكتاب تجد نفسك في حالة نهم، تتمنى أن تمتد صفحاته وتشمل روايات وقصصا أخرى أثّرت في وجدانك وساهمت في تشكيل وعيك مثل مثل “الطوق والأسورة” ليحيى الطاهر عبدالله و”الأرض” لعبدالرحمن الشرقاوي و”الطريق” لنجيب محفوظ و”مالك الحزين” لإبراهيم أصلان و”قفص الحريم” لمجيد طوبيا و”سارق الفرح” لخيري شلبي وغيرها من الروايات التي تحولت إلى أفلام هامة مصرية ومفصلية في تاريخ صناعها.
وفي هذا رسالة ضمنية إلى المؤلف لإصدار جزء ثان يكمل فيه قصة الحب بين الأدب والسينما. لكن العمري كما يكتب بشغف المحب وحس الفنان ووعى المفكر يملك أيضا جدية بحثية تؤطر فصول كتابه وتؤصل لرؤيته ومسعاه النقدي، فهو يعرف جيدا كيف يختار ما يكتب عنه ولماذا؟ وكيف يتغاضى عن أعمال أخرى هامة لا تخدم منظوره.
أعتقد أن مقومات اختيار الأعمال التي تناولتها العمري في كتابه لم تعتمد على الرواية نفسها أو الفيلم ذاته ولكن توقف الاختيار على مدى نجاح أو اخفاق كاتب السيناريو في صياغة النص الأدبي دراميا مستشهداً بكُتاب يملكون الحس الأدبي والرؤية والأدوات والقدرة على الإضافة والتطوير بما يمكنهم من تجاوز العمل الأدبي نفسه.
نعم لم يتناول العمرى أعمالاً هامة أخرى في هذا الكتاب لكنه ترك الباب مفتوحاً أمام الباحثين ليكملوا ما بدأه بل يدعوهم إلى ذلك في مقدمة كتابه. مازال العمري يكتب عن السينما بروح العاشق المتيم كفنان يرسم محبوبته بريشة الخيال، ومازال يفاجئنا بالجديد المتجاوز لأفق التوقع وحدود الدهشة. ومازال كتاب العشق بين الأدب والسينما مفتوحاً.