نقولا زيادة: السيرة، الرؤية والمنهج
صادفت الشهر الفائت الذكرى العاشرة لرحيل المؤرّخ العربيّ نقولا زيادة (1907-2006)، الذي رافق منطقتنا العربية وأحداثها ما يقرب قرناً من الزمن قبل أن يسقطه خريفُ العمر، مبعثراِ ما تبقّى من أوراقِ مسيرتِهِ الطويلة، التي لم تعرفْ كللاً أو تعيشْ مللاً، مُسطِّرا ًمن خلالها تواريخ عديدة، تفلّتَتْ من التخصّص والتحقيب، وتميّزَتْ بملاحقتِها العالم العربيّ وقضاياه، بأسلوبٍ أروع ما فيه أنّه “سهلٌ ممتنِع”.
الحديث عن تلك القامةِ العتيقةِ لا يخلو من حنينٍ إلى جيل المؤسّسين، وعصور المحطّات والمخاضات التي لا تزال آثارها تعصف بقسوة في عالمنا العربيّ في شرقه وغربه؛ فالزمانُ مع هذا الدهريِّ المكافحِ، شكَّلَ ذاكرةً وقّادةً، رَسَمَتْ الأحداثَ بدقّةٍ، حتى بدَتْ محفورةً في ذهنِ صاحبِها ومغروزةً كالوتد. أمّا المكان، فاستحالَ أمكنةً، كانتْ بمثابة دَرَجَاتِ ارتقاءٍ نحوَ الهدف الذي استوطَنَ النجاحَ وتحكَّمَ بالمسار والمسيرة. وتبقى شخصية نقولا زيادة الفريدة التي وازَنَتْ بين زمانها ومكانها، وتأرجَحَتْ بينهما، فأحسنتْ إدارةَ نفسها، والانتقالَ سريعاً من الحَبُوِ إلى العَدْوِ، ومن التسجيل إلى التقرير.
ملامح من حياته
طبعت سيرة نقولا زيادة ملامحها بدقّة على شخصيّته وفكره، فالمحطّة الدمشقيّة – بكلّ تجلّياتها القاسية – حضر فيها بقوّة الحرمان واليتم ، فكرّسَتْ في نفسه الخوف من الفقر والرغبة في الاستقرار. أمّا المحطّة الفلسطينية – بقسمها الأوّل والثاني – فلم تكن فرعاً للأولى بمقدار ما كانت غرساً، استحال معها نقولا زيادة مكافحاً وطموحاً. ثمّ كانت المحطّة الأوروبيّة، لتشكّل دفعاً نوعيّاً نحو النجاح والاستقرار، وفرصة لإعادة اكتشاف الذات، وقراءة أفكارها ومرتكزاتها الفكريّة والاجتماعيّة، التي تكوّنت في ظروف لم تكن مثاليّة لتشكيل معارف ثابتة، وقناعات راسخة، وشخصيّة تقليديّة متينة، ما جعلها تتوسّع في معارفها وتتحقّق منها، وتكوّن آراء جديدة وقناعات مستحدَثة، جعلت من “فتى العشرينيّات” تقدمّياً عروبيّاً عصريّاً. وأخيراً كانت المحطّة اللبنانية – البيروتيّة بمثابة واحة استقرار وتنوّع في الزمان والمكان والإنسان، لازمته حتّى أيامه الأخيرة.
هذه المحطّات، أنتجت نقولا زيادة، المؤرّخ والإنسان، والمفكّر صاحب الرؤية النهضويّة للعالم العربيّ والإنسان العربيّ، ولكن امتهانه التعليم كرسالة وقناعة لفترة طويلة من الزمن، وتفضيله الكتابة والرحلات، والتكلّم بلغة يفهمها كلّ الناس، من دون اتّكاءٍ على فلسفات وتفسيرات غائية، جعلت صفة “المؤرّخ الأستاذ”، تطغى على صفة المفكّر النهضويّ المسيَّس، مفضّلاً عليها الوظيفة، التي منحته الأمان والاستقرار، ولاسيّما أنّ شخصيّته الوسطيّة لم تكن تهوى المقامرة على الحياة، والخوض في المجهول.
فلسطينَ في فكره
شكلّت فلسطين عند نقولا زيادة مزيجاً من الأرضِ والشعبِ والحقوق، انطلاقاً من العصور القديمة إلى العصر الحديث، فاشتغل على تحليل أحداثها وأيامها في عصورها التاريخيّة المختلفة، وكانت له آراء واضحة في تفنيد المزاعم الصهيونية حول حقوقها التاريخية والدينية في فلسطين، والردّ عليها بطريقةٍ علميّة رصينة، وأيضاً في إبرازِ تآمر الاستعمارِ البريطانيّ لإحلال شعبٍ مكان آخر، ودعمه الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وهو على الرّغم من إيمانه في مبدئية الصراع العربي – الإسرائيلي، قرن قناعته بذلك من قاعدةٍ واقعيّة بعيدة عن الحماس والتهليل، داعياً إلى قراءة أسباب التفوّق الإسرائيلي، والعمل على تقويضها في خطّة طويلة الأمد، مقرّاً بأنّ الصراعَ بين العرب والصهاينة قائمٌ على الأخذ بأسبابِ القوّة. فالقوّة تكمنُ في ردم الفجوة الصناعيّة والعلميّة والسياسيّة بيننا وبينهم، عبرَ القيام بنهضةٍ علميّة وصناعيّة عربيّة. وأنّ العملَ السياسيَّ الفلسطينيَّ يجب أن يتحوّل إلى برامج ودراسات، ومشاركات بعيدة عن الهبّات، والحماس، والخطابات الرنّانة، وأن تكون لدينا حركةٌ حزبيّةٌ مؤسّساتيةٌ غير قائمة على أشخاص، وأن يعملَ العرب – ومعهم الفلسطينيّون – على اعتناقِ المعرفة (روح المعرفة) وتأصيلِها في النفوس، من دون ترك العمل الجادّ على إفقاد إسرائيل الدعمَ الأجنبيّ، ما يُضعِف من منسوب التعاطف الغربيّ معها، والعمل على تذويبها من الوجود من غير طريق الاجتثاث، بل من خلال “منعِ التطوّرِ” ومحاصرتِها بالعدد، والنّوع، والتطوّر العلميِّ، والتقنيِّ، والديمقراطية.
وهو على الرغم من تقديِمه لهذة الرؤية، آثرَ الابتعاد عن العمل السياسيّ الفلسطينيّ، مُلامساً القضية السياسية ومُعتنقاً فكرتها من خلال رؤية الأكاديميِّ الملتزم بقضايا أمّته، من دون أن يخوض غِمَارَها بعناوينَ وأطُرٍ محدَّدة قد تضرُّ بموضوعيّته وبموقعه الأكاديميّ في آن، كما تسمحُ له بهامشٍ من المناورةِ وممارسة النقد بالطريقة التي يراها مناسبة.
رؤيته القوميّة والنهضويّة
ارتكزت رؤية نقولا زيادة القوميّة والنهضويّة على مجموعة من الأسس، فنّدها في كتبه ومقالاته ودروسه الجامعية، والتي يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
نشر التعليم في ربوع العالم العربيّ كافّة من دون استثناء، وجعْله متاحاً للجميع، لأنّ اقتصار التعليم على فئات دون أخرى، من شأنه أن يحرم الأمّة من طاقات كلّ أبنائها التي تحتاجها بشكل كبير، ما يجعل تلك القوى الكامنة غير قادرة على الظهور، ويعزّز من فرص استمرار الجهل في المستقبل الموعود.
سيادة الروح العلميّة بين العرب تفكيراً وممارسة، شرط أن لا تقتصر على معرفة المعادلات الكيميائية والفيزيائية، والرياضية، بل تتعدّاها إلى الميادين المعرفيّة والسلوكيّة الأخرى من علوم نظريّة وأخلاقيّة، وأسلوب تفكير ونمط حياة، حتّى يمتلك الإنسان العربيّ عقلاً علميّاً، يقارب المسائل والحقائق العلميّة والحياتيّة، بأدواتٍ بعيدة عن العاطفة والشخصانيّة والانفعال، وسيادة الروح العلميّة.
لذا نجد زيادة يستنكر اتّجاه البعض إلى التعاطي التفكيكي مع نتاج الغرب العلميّ والفكريّ، حيث يعتمدون التكنولوجيا المتأتّية منه، وفي الوقت نفسه يرفضون ما يترتّب عن هذا التقدّم الصناعيّ، والتطوّر التكنولوجيّ، من فلسفة وقيم وأخلاق، بحجّة سيادة المادية على التفكير الغربيّ !! هذا التبعيض في التعاطي مع النتاج المعرفيّ والحضاريّ لا يوافق عليه نقولا زيادة، باعتباره أمراً عبثيّاً، ويسأل هل نملك دليلاً على مادية الحضارة الغربية بالمطلق؟ وهل نملك دليلاً على روحية حضارتنا بالمطلق كي نقوم بالتفكيك بين تقدّم الغرب الصناعي والتكنولوجيّ وبين فكره وفلسفته؟
تحرير الإنسان العربيّ من ربقة التقاليد البالية، وقبول النقد واعتماد التسامح مع الأفكار والآراء التي لا تتّفق مع الموروث والتقاليد، والتي من شأنها عرقلة مسيرته نحو الحريّة، ومنعه من تفجير طاقاته الكامنة على مستوى التفكير والممارسة من دون خوف من الواقع والموروث. لذا على العرب – برأي زيادة – تحمّل مسؤولية نفض الغبار عن أنفسهم، ليصلوا إلى الخير في نفوسهم، فهم يجب أن يقيموا للإنسان في نفوسهم تمثالاً قاعدته العلم وصلبه الانفتاح العقليّ، وقوامه الانطلاق الكلّي في عالم الفكر الحرّ…
الاعتناء بالتاريخ العربيّ الإسلاميّ، وذلك لن يتحقّق إلّا بفهم الإسلام – كدين – فهماً صحيحاً على اعتبار أنّه الباعث الأساسيّ في تشكّل العرب كقوّة وانتشارهم في الأصقاع المختلفة، ويدعو الإنسان العربيّ إلى الجهاد، مسجّلاً للإنسان العربيّ ثورته في سبيل الاستقلال السياسيّ باعتبارها خطوة أساسيّة في طريق تحقيق إنسانيّته، والتي – برأي زيادة – لا تكتمل إلّا بقيام العربيّ بجهاد آخر، وهو الجهاد الثقافي والتربويّ.
فالفوضى التي يعيشها العالم العربيّ اليوم، يتسبّب بها انعدام الشعور القوميّ الحقيقيّ، ولكي تُثمر الفلسفة القومية وتعطي أكُلَها، يجب أن ترتكز على”فهم جديد للتراث العربيّ في نواحيه المتعدّدة”، مع الأخذ بعين الاعتبار الآراء الأخرى الموجودة على الساحة العربيّة، لأنّها ليست الفلسفة السياسيّة الوحيدة الموجودة في العالم العربيّ.
منهجيّته وأسلوبه في الكتابة التاريخيّة
اتّسمت شخصيّة نقولا زيادة التاريخيّة بالموسوعيّة والشمول، حيث لم تعترف بالتحقيب والتخصّص بفترةٍ زمنيّة محدّدةٍ، ولم تلتزم بفلسفة تاريخيّة تعتمدُ على العامل الواحد، بل ترى أنَّ التاريخَ تحرّكه مجموعةُ عواملٍ في آنٍ واحدٍ، ويشتركُ في تحريكِه المجتمعُ بكلِّ فئاته كلٌّ بحسب الدور الذي يقومُ به، وتعتمدُ أسلوباً ممتعاً في عرضِ المادّة التاريخيّة، يمتازُ بالأسلوبيّة الأدبيّة التي لا تُفقدُ النصَّ التاريخيّ علميّتَه، وتعتمدُ على المصادر والمراجع ما أمكنَ، بل تتوسّعُ لتصل إلى اعتماد الرواية الشفويّة والأساطير والقصص الشعبيّة، ومعاينة الحدث – قدر الإمكان – والاعتماد على مجموعة من العلوم المساعدة التي تتقاطعُ مع علم التاريخ، حيثُ تشكّلُ أدوات المؤرّخ التي يَعتمِد عليها للوصول إلى الحقيقة.
في الختام، يبقى نقولا زيادة صاحب حضور متميّز في الكتابات التاريخية، فضلاً عن سيرته العلميّة المحفزّة، سواء على مستوى دوره الطليعيّ في التربية والتعليم والبحث العلمي، أم في كونه إنساناً عرف بجدارة كيف يعيش، ومَن يُصادق، والأهمّ كيف يدير الذات لتحافظَ على رونقها وتألّقها على الرّغم من عاديّات الزمان. وحقٌّ هو ما قيل فيه، “هذا المتربّع على المائة عام لا يحفّزك فقط على قراءة التاريخ بل على حبّ الحياة، ويعلّمك درساً في هذا الحب”.
*كاتب وباحث في التاريخ – لبنان
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)