نوافذ للحوار| «أداجيو» تأريخ لجماليات الخراب
حين صدرت رواية «أداجيو» للروائي المصري إبراهيم عبد المجيد (1946) قبل نحو شهرين، ظنّ كثير من القراء أنه يعود فيها الى العالم الذي صنع شهرته، وهو عالم الاسكندرية المدينة الكوزموبوليتانية بما شهدته قبل عام 1952 من تنوع ثقافي جعلها ساحة للتفاعل بين جنسيات مختلفة أبرزها الإيطاليون واليونانيون، وهو العالم الذي تجلى على نحو لافت في روايتيه الشهيريتين «لا أحد ينام في الإسكندرية» و«طيور العنبر»، لكن سرعان ما تبدد هذا الظن حين شرع القراء في مطالعة الرواية التي ستُطرح طبعتها الثالثة هذا الأسبوع بعد أقل من ثلاثة أشهر من صدور طبعتها الأولى.
أخذت الرواية اسمها من مقطوعة موسيقية شهيرة للكمان والآلات الوترية والأرغن. واللافت أنّ عبد المجيد لا يكشف دلالة اختيار العنوان، ولا يشير إليه سوى في الصفحات الأخيرة من الرواية التي تسرد قصة حب بين «سامر» رجل الأعمال وصانع الأثاث الشرقي وتاجر التحف، وزوجته «ريم» أهمّ عازفة بيانو في الفرقة السيمفونيّة الوطنيّة. يقرر نقلها إلى الفيلا الخاصّة بهما في منطقة «العجمي» على أطراف الاسكندرية، كي تقضي أيّام غيبوبتها الأخيرة جرّاء السرطان، فيكونان معاً، لا ثالث لهما، بعدما ودّع ابنتهما الوحيدة «نور»، لتتابع دراستها في أوروبا، وبذلك تخلّص منها، وتفرّغ لأحزانه وذكرياته.
وفي هذا الجو، يستدعي السارد الكثير من المفردات التي صنعت عالم الزوجين وحسهما المشترك بالعالم الذي أحاط بتجربة عشقهما، وهي تجربة فريدة لا تنجح «غادة» صديقة الزوجة في كسر قداستها حين تقتحم عالم الزوج في المكان الذي اختاره أفقاً وفضاءً للوداع. حظيت الرواية بحفاوة نقدية لافتة وقراءات متعددة، ومنها إشارة الناقدة السورية شهلا العجيلي إلى أنها «ليست رواية عن الموت، بل عن الحياة، لكن بعد موت الآخرين»، فيما اعتبر الناقد المصري البارز صلاح فضل أن «فيها عصارة خبرة الكاتب وهو يقيم عالماً من الفانتازيا المشاكلة للحياة المصفاة، وقد استحالت إلى لحن الوفاء الرومانسي، في لحظة وداع بطيئة ممتدة بإيقاع «الأداجيو» الشجي المنهمل الحزين».
في هذا الحوار مع إبراهيم عبد المجيد، يستعيد أجواء روايته التي لا تغيب عنها الفانتازيا كما لا يغيب عنها الحس الصوفي في تأمل الفناء داخل فضاء مؤهل لهذا الرصد الروحي، إلى جانب قضايا وإشكاليات تتفرع من الحديث عن الرواية وتطرح أسئلة وتفاصيل أخرى:
القاهرة | ■ أول ما يلفت القارئ في روايتك الجديدة اسمها الغريب وهو «أداجيو» وقلة من الناس تعرف دلالته، فما الذي أغواك في هذا العنوان؟
في تجربتي الكتابية التي يمكن اعتبارها طويلة، لا أبدأ بكتابة اسم للعمل وأفضل أن أختار الاسم عندما أنتهي من مراجعة المخطوط النهائي، وهذا العنوان بالذات يعبّر تماماً عن الحالة التي تتابعها الرواية وهي حالة فريدة للحب، حيث يختار رجل أعمال مثقف الابتعاد من العالم والاعتزال ليهئ لزوجته المريضة بالسرطان فرصة موت هادئ يحقق لها فيما تبقى من عمرها آخر أمنياتها، ويعبر بطريقته عن الامتنان لتجربتهما معاً.
وبالتالي فطبيعة شخوص العمل فريدة أيضاً، فهو رجل أعمال من نوع خاص، بل قل إنه فنان أيضاً وهي عازفة بيانو عالمية، وكل الفضاءات التي يتحرك فيها العمل «ثقافية وفنية» وأغلب المفردات ترتبط بعلامات ثقافية شائعة. ومن ثم، فالاسم هو جزء من حالة ومن يعرف الموسيقي يعرف جيداً أن «أداجيو» دخلت مجال الثقافة الشعبية، واستُخدمت في الموسيقا التصويرية في أفلام سينمائية عدة، كما استُخدمت في العديد من الإعلانات والبرامج التلفزيونية، وهي مرثية شائعة، وشخصياً أكاد أسمعها يومياً في الليل عبر موجات البرنامج الموسيقي في مصر الذي أتابعه منذ سنوات طويلة. وعلى إثر هذه المتابعة ظلت الموسيقى تحرّضني على الكتابة وكان اللحن يواكب الحالة التي تسعى الرواية لتأكيدها.
■ رغم انخراطك اليومي في أحداث ومناسبات سياسية في الأعوام الأربعة الأخيرة التي رافقت اندلاع ثورة 25 يناير إلا أن السياسة تكاد تكون غير حاضرة مطلقاً في هذه الرواية، بخلاف الروايتين اللتين ظهرتا قبلها مباشرة وهما «الاسكندرية في غيمة» (دار الشروق/ 2011) و«هنا القاهرة» (الدار المصرية اللبنانية/ 2013) فهل هو الطلاق مع السياسة؟
لا أظن أن السياسة تحضر في أعمالي على نحو مباشر، لكنها دائماً في خلفية العمل. لذلك، يحلو لبعض النقاد النظر إلى رواياتي كمؤشرات لتحولات سياسية واجتماعية عاشها المجتمع المصري، وهو نظرٌ لا يزعجني إطلاقاً. لكن في «أداجيو»، كان الأمر مختلفاً، لأنها تخلد قصة حب وأي إقحام للسياسة سيفسدها تماماً. لا أعتقد أنّ القارئ يمكنه تفادي الشعور بحالة التجريف المجتمعي، والإهمال الذي عاشته منطقة العجمي حيث تدور أحداث الرواية عبر الأعوام الثلاثين الأخيرة. كما لا يمكنه ألا يسأل نفسه مع ظهور دوريات الشرطة في مساحات كثيرة من العمل عن مبررات ودوافع الانفلات الأمني، خصوصاً أنّ هذا الظهور مرتبط بشيوع حالة السرقة والفساد المالي. وهي أيضاً أمور يمر عليها العمل في إشارات تلغرافية سريعة، لأنني هذه المرة لم أكن معنياً بشيء غير الحب. وكما أشرت سابقاً، أكتب أكثر من مسودة للعمل وأخلّصه تدريجاً مما يعلق به من شوائب. تستطيع القول بأنني اكتسبت خبرة تعين على المحو للوصول بشكل الرواية إلى الوضع الأمثل من وجهة نظري، بحيث يبدو العمل رشيقاً وقادراً على حمل نفسه وإغواء القارئ. وهذه المرة، كنت معنياً بتأمل الحياة في منطقة معزولة يهجرها الناس لانعدام الخدمات وسوء الصرف الصحي فيها، وأردت بالتحديد أن أجعل الزمن الروائي محدوداً بفترة الشتاء، وهي فترة صعبة في العجمي حيث تتحول المنطقة الى فضاء للعزلة بما يلائم ثقافة شخصيات الرواية المعنية بالموسيقى والتأمل، ومن ثم فالرواية تتقصّى وراء موسيقى «الزوال»، فهي معنية بالفناء وبالخلود معاً.
■ يبدو واضحاً أيضاً إصرارك على أن تحتفظ في رواياتك بسمةٍ غرائبية ما، رافقتك منذ روايتك الثانية «المسافات»، وظلت معك حتى «أداجيو» التي يطل من بين شخوصها سائق تاكسي يعمل لدى بطل الرواية «سامر»، ويعاونه في قضاء احتياجاته، لكنه لا يكف عن سرد حكايات غرائبية عن المكان، تفسر العالم أو على الأقل تعين على احتماله.
ما تشير إليه لافت جداً. أنا أحب هذه الغرائبية التي تفرض ظلها على عالمي خلال عملية الكتابة ولا أراها مقحمة. ذلك أنّ الغرائبية جزء من المخيلة الشرقية منذ «ألف ليلة وليلة» وغيرها من نصوص الأدب الشعبي. وفي أعمالي على وجه الخصوص، عليك أن تلاحظ ولعي بما أسميه «أمكنة الخلاء» حيث يفضل أبطالي دائماً الذهاب إما الى الصحراء أو مدن الأطراف كما في «البلدة الأخرى» و«المسافات» وحتى في «لا أحد ينام في الاسكندرية». هناك هذا النزوع للخلاء الذي يُنمّي هذه النزعة الغرائبية في نفوس الشخصيات ويضفي على أفعالها وتقديراتها للأمور سمةً غيبية الى حد ما، لأن الخلاء محفز على التأمل ويعطي للكاتب الحوافز التي تمكنه من اصطياد القارئ والتواطؤ معه على نحو ينتج متعة مشتركة، ولأنه يضع السرد في مساحة تأويل واسعة. وقد بدأت هذا اللعب الفني منذ أن كتبت «المسافات» التي تبدأ فصولها بنصوص أقرب ما تكون الى قصص قصيرة منفصلة ومتصلة بالبناء الفني للرواية، وصارت جزءاً منه رغم أنها تبدو في القراءة المباشرة غير ذات صلة بالنص، ولا يمكن ربطها بما يجري في الحياة، لكن القارئ ارتضى بها كحوافز للقراءة.
■ من الأمور اللافتة في روايتك الجديدة طغيان الحس الصوفي. يزهد كل أبطالها في الأشياء وينخرطون جميعاً في طقوس تظهر فيها رغبة الاستغناء عن كل شيء الا الحب، حتى فعل الخيانة الزوجية ذاته يبقي فعلاً تحررياً لتأكيد حالة حب الزوجة وليس نفيها أو النظر إليها كعبء.
الزمان في الرواية يتعلق بلحظة مطلقة هي «الموت». وفي تلك اللحظة، لا سبيل للاستمرار سوى باللجوء إلى الله والنظر الى العالم باستعلاء وجداني. ومن هنا يمكن أن تدرك ما تشير إليه بالحس الصوفي، فالجميع في مقام «الفناء» سواء كان جسدياً أو روحياً، الكل ذاهب إلى استجلاء إشراقه الخاص بحثاً عن جمال تلك اللحظة المطلقة التي ينتظرها الجميع.
■ المتابع لعالمك الروائي يعرف أنك تعرضت من قبل لتجربة معايشة مرض السرطان في روايتك «برج العذراء» التي صدرت في بيروت قبل حوالى 12 سنة وتماسّت بشكل ما مع خبرة شخصية تتعلق بمرض زوجتك الأولى بالسرطان… فلماذا العودة مجدداً الى التجربة ذاتها؟
– قلت في حوار سابق إن «أداجيو» كانت فكرة أو حالة رواية شرعت في كتابتها منذ 12 عاماً. وعندما بدأت في كتابتها، لم أتمالك نفسي ووجدت دموعي تسبقني فتوقفت. لم أستطع تحمل نقل حالة الفراق التي اقترنت بحالة الحب في «أداجيو»، وتركتها حتى جاء وقتها. الغريب أن وقتها كانت «ثورة يناير»، ورغم أنني كنت مشاركاً في الثورة وفي كل أيام «الجمع» المهمة التالية التي حضرتها في الميدان، فإن كل ما كتبته في تلك الفترة باستثناء كتابي «أيام التحرير»، هما روايتان تحدثان في زمن آخر «الاسكندرية في غيمة» و«هنا القاهرة». كأني كنت أتخطى روحياً – دون أن أقصد – أصول ما حدث في مصر من فساد أو من مقاومة. كانت «أداجيو» محاولة لتحقيق توازن مع إحساسي بإخفاقات الثورة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عندما كتبت رواية «برج العذراء» كانت مصر تعيش ظرفاً قاسياً، حيث واجه الأدب تحدياً كبيراً حين بدأ المتطرفون حربهم ضد رواية «وليمة لاعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر في أزمة صارت شهيرة. على الصعيد الشخصي، كنت أتابع حالة مرض زوجتي بالسرطان وأنتظر نهاية مقدرة لآلامها، وكتبت الرواية التي كان يحاصرني موضوعها عقب وفاتها مباشرة لأواجه السرطان المجتمعي. وكانت رواية أردت أن أسميها سوريالية، وهي تبدأ من جحيم التعامل مع مراكز علاج السرطان في مصر حيث تحول هذا المرض الى فعل يومي وملمح اجتماعي أكثر من كونه ظرفاً صحياً طارئاً، وكانت «برج العذراء» نفثة أولى للخلاص من حصاره، فيما أردت بـ «أداجيو» العودة الى هذا العالم بتنويعة أقل صخباً.
■ حين كتبت «هنا القاهرة» ظن القراء أنك غادرت الاسكندرية أخيراً، لكنك عدت اليها مجدداً في «أداجيو» لكن بأبطال قاهريين في مكان اسكندري مهمش وغير فعال؟
الخبرة البشرية لأي كاتب تظل مغرية بالتورط دائماً. عندما تسألني عن سر اختيار «العجمي» كمكان للرواية، أقول لك إني أعرف المنطقة جيداً، وزرتها في سنوات مجدها وتدهورها. وفي كل تحولاتها كانت تشغلني لكني كنت أطرح تساؤلات تتعلق أكثر بحالتها في الشتاء كمكان مهجور. أردت أن أضع أبطالي في سؤال: من يُخلق وحيداً؟ لأتابع دوافعهم لاستمرار الحياة رغم حالة الوحدة والخراب المحيطة بالمكان. وكوني اسكندرياً كما تعرف، كان طبيعياً أن يكون للاسكندرية هذا الحضور في رواياتي رغم أني مستقر في القاهرة منذ أكثر من 40 عاماً، وعلاقتي بالاسكندرية لا تتجاوز الأعوام العشرين الأولى في حياتي. في هذه السن، يترك كل شيء أثراً في الروح أكثر منه في العقل. عندما جئت إلى القاهرة كنت أنظر إليها بعين الغريب لكني كتبت عنها «هنا القاهرة» و«عتبات البهجة» لأكسر هذا الشعور بالغربة.
لك كتاب مقالات شهير صدر عن «دار الهلال» قبل سنوات عنوانه «ما وراء الخراب» (2008). هل تبدو «أداجيو» بمثابة مرثية ما لهذا الخراب وسعيٌ لتأكيده؟
– أنت قرأت هذا الكتاب، وتعرف أنه ضم مقالاتي الصحافية التي تابعت فيها نفوذ جماعة الاخوان قبل الثورة وما جرى من تحولات سعت الى تجريف العقل المصري. هو كتاب مقالات وليس عملاً أدبياً وفنياً. لكن في الرواية الأخيرة، يصعب أن تتفادى فيها تجسّد معنى الخراب على نحو كامل، فالسرطان كمرض هو نتاج سياسات مجتمعية، وتدهور المكان أيضاً هو نتاج حزمة من السياسات وتستطيع ككاتب بما يتكون لديك من خبرة أن تشعر بأن هناك تيمات تلاحقك وتفرض ظلها وتسير معك وأنت لا تلتفت لذلك. وبالتالي فالخراب في «أداجيو» هو جزء من ميراث الزوال الذي تتابعه الرواية، كاشفةً عن معطيات مادية تؤدي له. والرمز الوحيد في الرواية هو زوال الحياة عن المكان والشخوص. وفي المقابل، كانت هناك محاولات لمقاومة الخراب حيث حاول الزوج «سامر» أن يجمّل بيته ما استطاع الى ذلك سبيلاً، ليعطي الزوجة مبرراً إضافياً للتمسك بالحياة. لذلك، لفتت نظري جداً مقالة كتبتها شهلا العجيلي. وتشير الى أن الرواية كشفت عما أسمته «جماليات الخراب»، كما لفت الناقد صلاح فضل النظر إلى طابع المرثية في النص، الأمر الذي ساعد في نجاة الرواية من فخاخ السياسة والتأويل المباشر.
■ تبدو خلال السنوات الأخيرة كاتباً غزير الانتاج حيث تصدر رواية كل عام، فما الذي يفسر تلك الغزارة؟
– لدي 15 رواية و5 مجموعات قصصية وعمري قارب 65 سنة، وبالتالي لا أعتبر هذا الإنتاج غزيراً ويحلو لي كثيراً أن اتأمل تجربة نجيب محفوظ مع الكتابة، وأودّ لو أتيح لي مثله أن أتفرغ للكتابة وأعيش من عائدها. رغم حياته الوظيفية، كان متفرغاً بمعنى ما، بينما لم تتح لكل أبناء جيلي فرصة التفرغ واضطررنا للانخراط في أعمال بعيدة من الكتابة، وأنا شخصياً أفرطت في بداياتي في كتابة مقالات صحافية ومراجعات نقدية لأوفر أموالاً تعين على أداء التزاماتي تجاه الحياة، ولك أن تتخيل أن خمسة جنيهات مكافأة نشر قصة تقاضيتها من مجلة «الطليعة» منتصف الستينيات مكّنتني من شراء بدلة، بينما اليوم لا أستطيع شراء بدلة بمبلغ ألف جنيه (130 دولاراً). أقول لك الآن إنني في شبابي أضعت أوقاتاً كثيرة في أمور لا علاقة لها بالكتابة، وبالتالي تأثر إنتاجي، بينما أتيح لي اليوم وقتي كله وصار مكرساً للكتابة كما تغيرت عاداتي كلها. في الماضي، كنت لا أكتب في الصيف ولا أقرأ ولا أكتب إلا في الليل. واليوم أكتب في الليل وأراجع ما أكتبه نهاراً لأن شعوري بالوقت صار ضاغطاً. وعندما أشرع في كتابة رواية، أكتب بلا انقطاع حيث نجحت أخيراً في ترويض مزاجي، وأصبحت الكتابة أشبه بديون ينبغي تسديدها في أسرع وقت.
■ أصدرت قبل عام كتاباً عن تجربتك الأدبية بعنوان «ما وراء الكتابة»، والكتاب يعطي مفاتيح لتناول عالمك ويظهر خبراتك كأديب وهي كتابة يندر أن نجد لها مثالاً في المكتبة المصرية.
ما تقوله صحيح. أصدرت هذا الكتاب بعدما لاحظت أن أغلب كتاب الجيل الجديد يكتبون بلا خبرة أو من دون معرفة عميقة بالنوع الأدبي. يكتبون على سبيل التعويض وبخلط لافت بين ما هو شخصي ويقع في باب الخاطرة وماهو فني ويتضمن رؤية إلى العالم مع غياب تام للمعرفة النقدية. وأتذكر أنني في منتصف الستينيات، استمعت لمحاضرة قدمها الناقد الكبير محمد مندور عن المذاهب النقدية، وبسببها توقفت عن الكتابة لعامين وتفرغت تفرغاً كاملاً لأقرأ في النقد الأدبي وتاريخه ومذاهبه لأخلق في داخلي الحكم الذي يعين على تقييم كتاباتي وتذوق كتابات الآخرين، وهو همٌّ يكاد يكون غائباً عن الجيل الجديد. وفي هذا الكتاب الذي أشرت إليه، لا أقدم «وصفة» لكتابة ناجحة، وإنما أُظهر خبرتي أمام الأجيال لعل أحدها يستفيد منها ويتأملها، فهو كتاب مكتوب بحس جمالي أكثر منه تربوياً، وهو غير مطروق، وربما يتشابه مع كتاب «حياتي في الشعر» للشاعر الراحل صلاح عبد الصبور لأنه كتاب عن الخبرة الجمالية في الكتابة.
■ أنت نشيط على مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما تويتر في حين يُبدي بعض الكتاب المكرسين انزعاجاً من التعاطي مع هذه الوسائط، فما الذي أضافته لك؟
أظن أن جيلي محظوظ لأنه لحق بهذه المواقع التي تتيح تواصلاً مباشراً بين الكاتب وجمهوره يصل لحد الاشتباك. في الماضي كان توزيع الكتاب هو المؤشر الوحيد على نجاحه، بينما اليوم تستطيع أن تتلقّى مختلف ردود الفعل على العمل بصور مختلفة، كأن تجد أحدهم يضع مقاطع منه في خانة «الحالة» على تويتر والفايسبوك داعياً الآخرين إلى شرائه والتفاعل معه، وهذه ميزة كبرى أتاحت لي التواصل مع قراء لم نكن نعرفهم من قبل.
■ روايتك «هنا القاهرة» ضمن الأعمال المرشحة لـ «جائزة الشيخ زايد» لهذا العام، ولديك خبرة سلبية مع جائزة «بوكر» العربية. ما الذي تضيفه الجوائز للكاتب؟
أظن أن الجوائز جزء فعال اليوم في صناعة ما يسمى سياسات الأدب. وعلينا أن نعترف أنها لا تأتي فقط بالأموال على أهميتها، بل صارت تأتي أيضاً بقراء من خارج الساحة الأدبية. في الماضي، كنا نكتب لجمهور لم يعد محدوداً اليوم، وهذه هي الميزة الكبرى لأي جائزة، لكنها في المقابل لا تخلق معياراً فنياً.
■ بينما يتورط أغلب الكتاب المكرسين في معارك حول ظاهرة الكتاب الأكثر مبيعاً تبدو الأكثر تسامحاً مع هذه الظاهرة؟
لا تزعجني ظاهرة الكتاب الأكثر مبيعاً إطلاقاً ولا أراها ظاهرة جديدة بأي حال من الأحوال، ولكن وسائل الاعلام البديل بالغت في تأكيد سطوتها. أنا لدي قناعة بأن الجمهور متنوع، وبفضل هذا التنوع هناك مكان للجميع، غير أن الأعمال رفيعة المستوى بحكم تاريخها لا تجذب إلا النخبة واسعة الثقافة التي تستطيع تمييز الأعمال ذات القيمة. وما أحدثته الظاهرة إيجابي بمعنى ما لأنها اعتنت بالجمهور خارج الحقل التقليدي. وللأسف، بحكم تاريخنا الطويل مع البيروقراطية والنظام السياسي الواحد، أصبحنا أيضاً نعمل على تسويق هذا النظام في الأدب. لم نعد مع ديموقراطية الفن إطلاقاً، ونريد للأدب زعيماً واحداً وشكلاً واحداً، ما يعني أن عدوى السياسة انتقلت للأدب، وهذا خطر حقيقي عانى منه الأدب المصري طوال تاريخه. ففي الستينيات، اعتنى النقاد اليساريون بنجيب محفوظ ويوسف إدريس لأن أدبهما كان يُظهر التناقضات المجتمعية، الى جانب ما فيه من قيمة إنسانية رفيعة. لكن هذا الاهتمام جاء على حساب التغافل عن كتاب آخرين كانت لهم مشاغل فنية أخرى مثل إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله. جرت محاصرة هؤلاء لكون نصوصهم تطرح قضايا رومانسية لا تعني هؤلاء النقاد المكرسين الذين خلقوا ديكتاتورية نقدية كرّست لمغالطات فنية أسقطت أسماء مهمة من التاريخ الأدبي لا تجد من يُنصفها ويقدّر إصرارها على التنوع. هذا التهميش ترك آثاراً سلبية على حركة التجديد الأدبي، وخلقت رد فعل معاكس من الأدباء الشباب الآن الذين يفرطون في المقابل في معاداة حركة التجريب الأدبي، ويعيدون إنتاج ما كانت تطرحه النصوص المهمشة من هموم ولكن بفنية أقل، وبالتالي حدثت سيولة نصية واضحة وإسراف في أدبٍ قائم على التعويض واستجلاب الخبرة الشخصية والإفراط في النميمة.
صحيفة الأخبار اللبنانية