نوافذ للحوار| أنسي الحاج: “لا أعتنق شيئاً أتبع ندائي الداخلي” (كامل صالح)
كامل صالح
يعود عمر هذا الحوار غير المنشور مع الشاعر أنسي الحاج إلى خريف العام 1994، إذ التقيته آنذاك، أكثر من مرة في مكاتب جريدة "النهار" في الحمراء، قبل أن تعود إلى وسط العاصمة، بهدف نشره في عمل أكاديمي. وقد أشرف أنسي نفسه على إعادة صياغته، وتحرير بعض جمله آنذاك.
تشعبت محاور اللقاء إلى أكثر من موضوع، فدار حول رأي أنسي بالشاعر يوسف الخال ودعوته إلى "اللغة العربية الحديثة"، وتجربة أنسي في ديوانه "لن"، وعلاقته بمجلة "شعر"، ونظرته الخاصة إلى الدور الذي أدته آنذاك، كما تطرق أنسي إلى الشاعر أدونيس وسبب تركه المجلة، ومفهومه الخاص للشعر الحديث عموماً وقصيدة النثر خصوصاً، وغيرها من العناوين. فإلى تفاصيل الحوار:
أكتب لغتي
■ دعا يوسف الخال إلى "اللغة العربية الحديثة"، التي كان شعارها "اقرأ كما تتكلم". ما رأيك أنت بهذه الدعوة، ولمَ لم تكن من أنصارها على الأقل، مع أنك مسكون بالتمرد؟
{ أنا أكتب لغتي، ولا أتوقف عند تصنيف قديم أو حديث. أكتب لغتي التي أعتقد أنها حية. همّ الكاتب أن يعبّر بلغة تشبهه، وليست تشبه "صاحب دعوة إلى لغة"، كائناً من كان، وكائنة ما كانت هذه الدعوة، عظيمة أو غير عظيمة، صحيحة أو غير صحيحة، المهم أن تشبهك. لعل دعوة يوسف الخال للكتابة بـ"لغة عربية حديثة" موجهة إليه على الأغلب، لأنه كان يعاني من هذا الموضوع الذي كان يعني له الكثير، أنا لم يكن يعني لي شيئاً، ولا أزال. أما بالنسبة لي فاللغة هي المهمة وليس اللسان، أي أن قضية اللغة كصرف ونحو وتطوير عملي لا تعنيني. من الممكن أن تكون دعوة يوسف الخال وسعيد عقل على حق، ويجوز أن يكونا على غير حق. لا أعرف. هذه قضية لا أنظر إليها بمنظار عقائدي كي أؤيدها أو أعارضها، مثلما اعتاد الناس في بلادنا، إذ ينظرون إلى الأشياء نظرة عقائدية، أو بالأحرى نظرة دينية، مؤمن بها أو غير مؤمن، أنا لست هكذا. وهذا السؤال وجهه لي يوسف الخال في منتصف الستينيات، عندما ترجمت مسرحية لشكسبير اسمها "كوميديا الأغلاط". لبننتها، وكانت تعتبر في مطلع التحديث المسرحي اللبناني. كتبت المسرحية بلغة عربية فصيحة، فصيحة ولكن حية، لدرجة أن الجمهور الذي شاهدها آنذاك لم يتوقف عند كونها فصحية، بل أتى وشاهدها بشغف واهتمام، وكأن لغة المسرحية غير منفصلة عن لغة الناس اليومية، لكن يوسف الخال وقتئذ وجه لي رسالة عتب، "إذ كيف تكتب بلغة نريد أن نخلص منها… إلخ". وحدث جدال بيننا، فقلت له: أنا لا أشعر بمشكلة في اللغة الفصحى، ما دمت أستطيع أن أعبر بها مثلما أريد ومن دون مضايقة، وعندما لا تتمكن اللغة الفصحى من تحقيق ما أريد، أكتب عندئذ "الدارج"، ألقحها بكلمات ربما هي موجودة في اللغة الفصحى أيضاً.
لغة "لن"
■ ولغتك الشعرية في ديوانك "لن"؟
{ ربما أنني في عقلي الباطن لا أريد حلاً لهذه المشكلة، ولو حُلّت ستلغي عاملاً من عوامل التأليف ـ الخلق، وتلغي عاملاً من عوامل التحدي الإيجابي… هذه اللغة لو "ميؤوس" منها تماماً، نخرج منها، ونخترع لغة بديلة. لكن هل أثبتت اللغة العربية أنها ميؤوس منها تماماً؟ لا أظن ذلك، والدليل الصحافة والتلفزيون، التي هي وسائل إعلام أكثر جماهيرية بكثير من الشعر وحتى من المسرح، إذاً، ليس هناك من معنى للإلحاح على اعتماد ما سماه يوسف الخال "اللغة العربية الحديثة" وما سماه الآخرون "اللغة الحية" أو "اللغة المحكية" أو "اللغة العامية"… إلخ.
■ ذكرت أن يوسف الخال كان يعاني مع اللغة، لم تحدد لي ما هي هذه المعاناة.
{ معاناة "الخال" مع اللغة كانت، إلى حد، أنه عندما أغلقنا مجلة "شعر" كتب هو افتتاحية العدد التي تحدث فيها عما سماه "جدار اللغة". أما بالنسبة لي، فلم يعنِ لي هذا الأمر، وبرأيي ليس هناك "جدار". ومع ذلك كنت من محبّذي توقيف المجلة، حتى أني وضعت على الغلاف "العدد الأخير" توكيداً لتوقيفها، ونحن كنا نعرف أنها ستتوقف، لأن مهمتنا كفريق مجلة انتهت. ولكن السبب عندي، أعود وأقول، ليس له علاقة بمشكلة اللغة، ولا أجزم أنه لم يكن عند أحد من أفراد المجلة هذه المشكلة.
■ لكن لم توضح لي نوع المعاناة…
{ يوسف كان يريد الكتابة باللغة الدارجة. لم يمنعه أحد، وكتب محاولات عدة ونشرها في المجلة، لم أعد أذكر إذا نشرها بمجلة "أدب" أو "شعر"، وكان من الصعب أن يحقق هدفه من المحاولات الأولى، ربما لو أتيح له من العمر أكثر، كان من الممكن أن يحقق أعمالاً مهمة أكثر، المؤسف أنه لم يتح له الوقت الكافي، ولم يأخذ مجده في الكتابة، ولم يعد هناك مجلة "شعر"، ولم يعد هناك الجو الذي كان موجوداً في الستينيات، مع ذلك صدر له في لغته الحديثة عملان أو أكثر، لم أعد أذكر. أعود وأكرر، لا أناقش صوابية هذه الدعوة أو عدم صوابيتها، فليوسف الخال ملء الحرية أن يدعو لهذه الدعوة، وللزمن أن يحكم في النهاية. تثبت اللغة جدارتها بالحياة بمدى حيوية الآثار المكتوبة بها.
الأغنية اللبنانية بصوت فيروز استطاعت ان تصل بلغتها العامية إلى كل العالم، وكذلك الأفلام المصرية، استطاعت أن تُدخل "اللغة المصرية" إلى كل العالم العربي وأن يفهمها كل الناس. إذاً، جمال الأثر الأدبي أو الفني هو الذي يفرض اللغة وليس العكس.
همومي داخلية
■ يوسف الخال لم يستطع أن يبدع حتى يؤثر "بتغيير اللغة"…
{ لقد عمل في المجال النظري، ولم يبدع الإبداع الكافي الذي يقدر أن يواكب دعوته ويجسدها بالواقع الأدبي. أطلق دعوة وجيهة، وعقلانية، وهي بسيطة مبسطة، لا تتطلب أن يكون القارئ متبحّراً باللغة لكي يفهمها.
أنا أجيب عن سؤال متعلق بي: "أعتنق أو لا أعتنق.."، أنا لا أعتنق شيئاً، بل أسير وراء نداء داخلي. أنا همومي داخلية وليست خارجية، وأعتبر الهم اللغوي هماً خارجياً.
لقد كتبت مرة باللغة "اللبنانية" برغبة خاصة.. "مزاج". وما كتبته موجود، لم أستح مما كتبت، ولكني لم أصل مع اللغة الفصحى إلى الجدار الذي وصل إليه يوسف الخال، من الممكن أن تكون العلّة عندي، لأن ليس عندي الوعي الكامل لمشكلة اللغة، فأنا لا آخذ اللغة كعلم، فاللغة هي عندي صوت داخلي ولا أفكر في شكله الخارجي.
الذهنية السخيفة
■ قبل البدء بإصدار مجلة "شعر"، سافر يوسف الخال إلى أميركا، وعمل في مجلة تابعة للأمم المتحدة، كما شارك في البعثة التي انتدبتها هيئة الأمم المتحدة لتهيئة ليبيا للاستقلال، إضافة إلى أنه سافر مع شارل مالك لطرح قضية لبنان في الأمم المتحدة، وهناك إهداء كتابه "البئر المهجورة" إلى عزرا باوند، الذي أدى إلى ردات فعل سلبية تجاه الخال، نعيمة مثلاً لا حصراً. ما أريد قوله، أن هذه المتابعات، إضافة إلى غيرها، أدت إلى التشكيك والاتهام أيضاً في نية الخال وبدعوته لـ"تطوير اللغة". والجدير بالذكر أن الخال ردّ الاتهام عنه أكثر من مرّة. ماذا تقول عن هذا الموضوع، وأنت كنت من المساهمين الفعليين في حركة تجمع مجلة "شعر" وتوجيهاتها؟
{ هذا جزء من الذهنية السخيفة التي تتهمك بمظاهرك، إذا أنت اشتغلت في الأمم المتحدة يعني أنت عميل أميركي! عيب هذا الكلام، وبكل الأحوال لم يعد أحد يتكلم بهذا المنطق الآن. وظهر أن الذين اتهموا يوسف بالعمالة ثبت أن معظمهم كانوا أكثر عمالة ولا يزالون. الأمم المتحدة غير الولايات المتحدة، خصوصاً في تلك الأيام. أما إهداء قصيدة لعزرا باوند فهذا العمل ليس تهمة. "باوند" شاعر كبير…
■ قال يوسف الخال في القصيدة المهداة: "نحن عراة" أي نحن الشرق، وأنت الماء التي ستروينا…
{ ليست هذه القصيدة وحدها ما يعبر عن هذا الموقف عند يوسف الخال، بل إن معظم شعره أو كله يعبر عن ذلك، ويمكن أن أقول إن موقفه الفلسفي قائم على هذا الأساس.
■ إن تطورنا سيأتي من الغرب..
{ يوسف كان مؤمناً بالغرب إيماناً كبيراً، وعبر المسيحية، وإيمانه بالغرب ليس إيماناً بالتكنولوجيا أو بالوثنية بل بغرب عقلي ـ روحاني، وربما هذا الغرب المثالي غير موجود في الواقع كما كان يتراءى لذهن يوسف الخال، وكما يتراءى المثال، دائماً، للحالم به.
■ تأثراً بإليوت؟
{ طبعاً، إليوت شاعر مسيحي كبير، ويوسف تأثر به كما تأثر به عدد كبير من الشعراء، بينهم شعراء مسلمون، إذ إن المسيحية تتخذ عند إليوت معنى حضارياً وليس محض ديني. يوسف الخال بالمعنى الديني لم يكن ذلك الورع التقي، فالمسيحية عنده هي الخصب الحضاري المتواصل توارثاً في التاريخ، وعلى امتداد كل الحضارات السابقة أيضاً كالكنعانية والفينيقية… إلخ، بما في ذلك الإسلام.
في الخمسينيات نشأ المد الناصري الذي أعطى حدة لمضمون العروبة والقومية العربية، فولّد ذلك اصطدامات، ولعلها كانت أحياناً اصطدامات إيجابية، وبخاصة الثقافية منها، رغم أنها كانت تصل إلى حد الاتهامات والشطب..
■ الشتم…
{ الشتم والشطب المعنوي.
■ مجلة الآداب مثلاً…
{ "الآداب" من جملة الذين اتهمونا، وليس "الآداب" فقط، بل كل المجلات التي كانت تصدر في مصر والعراق وسوريا. لقد شنوا علينا حملات عقائدية وسياسية وأدبية، وكأننا جهاز الاستخبارات الأميركية، أو "جيمس بوند"، أو إسرائيل، ونحن بضعة فقراء لا نملك إلا أحلامنا.
القرار الصحيح
■ لماذا توقفت مجلة "شعر" عن الصدور سنة 1964، وبالتالي ما الذي تغير لكي تعود إلى الصدور سنة 1967، لتتوقف نهائياً سنة 1970؟
{ كان قرار توقفها الأول القرار الصحيح، ورجوعها إلى الحياة كان محاولة من "أليعازر" ليحيا من جديد، ولا تستطيع أن تمنع أحداً كان ميتاً أن يعود ويعيش إذا استطاع، وهي محاولة مشروعة.
■ لكن أنت رجعت إلى مجلة "شعر" عندما صدرت مرّة ثانية
{ كان عندي مجموعة شعرية، جاهزة للصدور فنشرت في "شعر" العائدة.
■ لكن أنت شاركت في التحرير ونشرت بعض إنتاجك في المجلة
{ نعم، شاركت في المجلة في المرة الثانية. يوسف كان صديقي، وأنا من أحضره إلى دار "النهار"، وسلمناه النشر، والمجلة صدرت عن دارنا، طبعاً سأشارك معه. لكن عودتها لم تكن نتيجة نداء مصيري كما صدرت في المرة الأولى. كانت تريد أن تثبت وجودها بالقوة، أنها ما زالت حية، ولكنها لم تضف جديداً، لم تخلق تياراً، أو حركة أو أسماء جديدة. ظلّت تعيش على أسماء الأشخاص أنفسهم، مع بعض الاستثناءات. ما الذي تغير؟ لذلك عادت وتوقفت.
■ قال الخال في إحدى المقابلات إن المجلة لو وضعت صورة زعيم عربي لاستمرت.
{ قال هذا الكلام عن مرارة، وهو مقهور، وأنا أفهمه. مع ذلك عاد مرّة ثالثة ليجرب إصدارها، فاجتمعنا أنا وهو وأدونيس وفؤاد رفقة ونديم نعيمة، في بيتي في الأشرفية، ومرّة ثانية في الغاليري الذي أعاد فتحه في "الزلقا"، ومرّة ثالثة في غزير مع أدونيس، وكان أدونيس مستعداً للعودة إلى المجلة…
■ لكن أدونيس كان يصدر مجلة "مواقف"…
{ مع ذلك، كان أدونيس مستعداً لأن يوقف مجلته وينضم معنا، كان متجاوباً إلى حد كبير، ومرّة اجتمعنا في منزله للتباحث في إصدار مجلة "شعر" أيضاً. وكانت هذه الاجتماعات قبل موت يوسف الخال ببضع سنين. لكن وجدنا أننا أصبحنا متطلبين أكثر من السابق، لم يعد من السهل القيام بهذه المغامرة، فبعد مرور عشرين سنة لم نعد نستطيع العمل بلا وعي البدايات، بل بوعي المسؤولية والنقد الذاتي، الذي هو مقيد. نريد أن نصدرها، لكن نعمل كذا، ولا نعمل كذا… لقد بتّ تعرف سلفاً ماذا يجب أن تعمل، ماذا يجب أن تكتب.
■ ماتت الدهشة…
{ ليست الدهشة فقط، بل قُتلت الطفولة، "الغشمنة" الخلاّقة، فإن لم تكن طفلاً لا ترم نفسك في التجارب المجهولة، وهكذا قضيناها مناقشات ومناقشات… بدون فعل.
■ لم يكن هناك أسباب أخرى؟
{ لا، كنا جميعاً قلباً واحداً.
يوسف وأدونيس
■ ترك أدونيس مجلة "شعر" في المرة الأولى، وهناك من يعتبر أن ثمة خلافاً حاداً وقع بين أدونيس والخال، مَن السبب، وماذا حصل؟
{ حصل خلاف بين يوسف وأدونيس، وأنا لا أحب أن أتكلم في هذا الموضوع لأني كنت من دعاة التوفيق بينهما، لكن فشلت، وفي الحقيقة نسيت الأسباب.
أدونيس لم يعد يريد الاستمرار معنا في المجلة، أحب أن ينفصل، ونحن لسنا حزباً لنمنعه، إضافة إلى أن لكل واحد منا عالمه الشعري المختلف عن الآخر، مثلاً: ما يجمع شعر شوقي أبي شقرا وأدونيس؟ كل ما في الأمر أنه كانت تجمعنا رغبة التجديد ومغادرة عالم قديم إلى عالم جديد.
■ هل بإمكانك أن تطلق على كل تجربتك وتجربة الخال، وأدونيس وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة تجربة الشعر الحديث؟
{ هناك غيرنا أيضاً، في العراق وسوريا ومصر والأردن وغيرها. كانت تجربة الشعر الحديث، قد بدأت قبلنا، ولكن مجلة "شعر" ذهبت أبعد بكثير مما قبلها، وتوّجت مغامرتها بتجربة قصيدة النثر.
■ ألا يمكن تسمية مجلة "شعر" مدرسة؟
{ من الخطأ أن نسميها مدرسة، لأن المدرسة لها نهج واحد ومواصفات، وخلفية أيديولوجية، لكن في المجلة لم يكن هذا. كان فيها مسيحي وملحد ومسلم وواحد لا شيء. واحد محافظ مثل يوسف الخال وواحد مجنون ومتمرد مثلي. لا يجمعنا سوى الصداقة وروح التجديد. كتب يوسف الخال بلغته الدارجة ولم يكتب أحد منا مثله. أيضاً، كان بيننا قوميون سوريون وقوميون لبنانيون وأناس لا يعنيهم هذا ولا ذاك.
الشعر الحقيقي
■ هل نستطيع القول إن للخال نظرية في الشعر العربي؟
{ من الممكن أن نقول إن له نظرية… ولكن من الصعب تحديدها الآن، لأنه يجب استخلاصها من الكتب، ولعلني أستطيع أن أحدد عدداً من الأمور التي قامت عليها دعوته الشعرية، وأظن "دعوته" أفضل من "نظريته"، وبعض هذه الأمور هو الاستغناء عن الحشو في الشعر. يبدو هذا الكلام اليوم عادياً، ولكن في الخمسينيات عندما قدّم "الخال" محاضرته في الندوة اللبنانية "مستقبل الشعر في لبنان"، قبل تأسيس مجلة "شعر"، كانت هذه المحاضرة وقتئذِ صرخة ثورية، تنقد ماضينا الشعري بجرأة ووضوح، هذا الشعر القائم في معظمه على اللفظية والخطابية والوصف الخارجي.
■ وعدم ارتباطه بواقعنا…
{ ليس هذا فقط، بل بجوهر الشعر الحقيقي، سواء كان لبنانياً أو سورياً أو انكليزياً، ليس الواقع الاجتماعي فقط، وليس من الواجب أن تقف عند المعطيات السوسيولوجية في الشعر وحسب، بل هناك المنحى الروحي بالمعنى الوجداني، هذا لا يحده زمن ولا مكان. خصوصاً، في ذلك الوقت. كان سعيد عقل يطرح نظرية جديدة في الشعر. وعقل بالنسبة لما قبله ثورة. لكن إلى أي مدى هو حديث؟ جاء يوسف الخال وقال له: هذا ليس حديثاً، بل هذا في قلب الشعر التقليدي. هذه ناحية، وناحية أخرى، التقشف في الكتابة، الذي اتسم به أسلوب يوسف الخال، كان جديداً على عصره. كتب لغة بسيطة، كتب بها في الصحافة في جريدة "النهار" و"صوت المرأة" كما عبّر بها في مجلة "شعر" وكتبه. لغة نظيفة حيّة نابضة. أستطيع أن أشبّه الخال بأنه دخل إلى شجرة الأدب العربي وأزال الحشائش من حولها، كي تظهر الشجرة جميلة وصادقة.
عندما بدأنا بقصيدة النثر، يوسف لم يكن معنا، كان ما زال يكتب قصيدة التفعيلة. أنا دخلت مباشرة إلى قصيدة النثر، ولم أغادر من الوزن إلى النثر. لذلك لم أشعر بأني انتقل من معلوم إلى مجهول، بل من مجهول إلى مجهول. أما الخال فجاء من الشعر الموزون، فمن هنا له الفضل أنه كسر على نفسه ودخل في مجهول هو قصيدة النثر، وأدونيس كذلك جاء من قصيدة الوزن. فهذان الشاعران "قبعا" جذورهما القديمة ودخلا نحو الجديد.
■ إلى أي مدى نستطيع أن نعتبر أن التقشف وعدم الحشو في الشعر، والدخول إلى قصيدة النثر يميز شعر الخال؟ فهذا الأمر كان موجوداً إلى حد ما في شعرك، وفي شعر شوقي أبي شقرا وأدونيس…
{ هذه صفات جزئية جداً. يجب أي يُقرأ يوسف الخال قراءة جدّية ومنصفة. تجربته الروحية والفكرية متميزة. فضلا عن أن ما يميز يوسف الخال لحظته التاريخية، ولعبه دور المحرّض ذي الثقافة الأنكلو ساكسونية، فقبله كانت السيطرة للثقافة الفرنكوفونية: إلياس أبو شبكة، صلاح لبكي، أمين نخلة، سعيد عقل إلخ…
■ ويمكن أن نقول إن جبران أنكلوساكسوني أيضاً؟
{ جبران انكليزي التعبير، لكن تأثراته الثقافية واسعة وشاملة. ثم إنك تقرأه فتحس بالشرق. لكن يوسف مختلف، تقرأه فتحس لفحاً غربياً.
مفهوم الحداثة
■ الحداثة الشعرية كمفهوم، تحمل الماضي لترفضه وتتخطى الحاضر لتكون رؤيا.. إذاً، ما مدى تقاطعها مع واقعها وهموم مجتمعها؟
{ الحداثة ليست حزباً، الحداثة هي رؤيا وهي ملمح من ملامح المعاصرة، ممكن أن تكون معاصراً ولا تكون حديثاً، وممكن أن تكون معاصراً وأهم من الحديث. الشاعر الحقيقي هو لكل زمن. وليس هناك شاعر مطالب بالتعبير عن الواقع، هناك الجريدة من أجل هذا. الشعر ليس فقط مرآة لعصره، بل هو مزيج من الزمني ـ في أي زمن ـ والأبدي. إنه كيان العابر الدائم.
الحداثة جاءت كردّة فعل على التحجر والتحنيط والتعصب والسلفية. الحداثة بهذا المعنى مرادفة للحياة وللتجديد. الحداثة حاجة وليست مطلباً، والشخص لا يُروّض نفسه ليصبح حديثاً. يكون أو لا يكون.
■ يعتقد البعض ممن تابعوا مجلة "شعر" أنكم تبنيتم رؤى ثقافية لها أزمات، الغرب تحديداً، وبهذا فقد بعدتم عن رؤية التراث والواقع العربيين كمرآة لتحديث أصيل محاور مع الغرب ندّاً لند. فمثلاً في مقدمتك لديوان "لن" نراك مستشهداً بمراجع أجنبية عدّة…
{ هذا ليس صحيحاً، لقد ذكرت فؤاد سليمان ويوسف الخال وعبد الوهاب البياتي والياس خليل زخريا وهؤلاء عرب..
■ أقصد النظرية في كتابة "قصيدة النثر"
{ ليس هناك من مرجع عربي، استشهدت بسوزان برنار لأن كتابها هو الوحيد الذي وصل إلينا أنا وأدونيس، ويتكلم على قصيدة النثر، وليس هناك من مرجع عن قصيدة النثر سوى باللغة الفرنسية، هل نخترع مرجعاً عربياً؟
■ لكن قرأت لأدونيس أنه يعتبر بعض ما كتبه "النفري" يمكن أن يمثل قصيدة النثر في التراث العربي.
{ تقصد أن تقول إن هناك نماذج عربية من قصيدة النثر، ممكن، لكن أنا أتكلم على مرجع يتطرق إلى قصيدة النثر من الناحية النظرية. وأما النماذج القديمة في التراث التي يمكن اعتبارها قصائد نثر، فقد تكون هكذا وقد لا تكون. لا أشعر بضرورة استنباط مرجعية تراثية لأعطي قصيدتي شرعية.
■ وأدونيس؟
{ أنا أختلف مع أدونيس في هذا الموضوع، فهو يريد أن يجد جدوداً له في الشعر العربي، وكأنه متهم. أنا لا أشعر أني متهم. وإذا كنت متهماً ـ وقد كنت، وربما لا أزال ـ فأنا لا أتبرأ من تهمة اختراع نوع أدبي لم يكن موجوداً في التراث العربي.. إذا كان التجديد جريمة، فأنا مجرم. إذا النفّري كتب قصيدة النثر بالصدفة، فما علاقته بالموضوع؟ قصيدة النثر لتكون قصيدة نثر يجب حين كتابتها أن تكون واعياً أنك تكتب قصيدة نثر. وهذا ما قلته في مقدمة "لن"، وهذا هو الفرق مع أمين الريحاني مثلاً بشطحاته النثرية. وجبران خليل جبران. ومي زيادة.
ما كتبه علي بن أبي طالب ليس قصيدة نثر. وأما المتصوفون فهمومهم دينية ولغتهم مغلقة على رموز ومفاتيح مذهبية ودينية. لماذا الرغبة في افتعال مراجع عربية لحالات حديثة؟ الذي يبدأ هو الذي يقتلع الجذور، لكن يصبح هو الجذور. أنا لست في حاجة إلى أن أجد "أباً" قبل ألف سنة لأقول أنا عربي. وهل هو عربي أكثر مني؟