نوافذ للحوار| ابراهيم نصرالله: الحكايا التي لا نكتبها تصبح ملكاً لأعدائنا

مارس إبراهيم نصرالله دوره النضالي عبر أدبه الذي اتسعت له ذاكرته المثقلة بالهمّ الفلسطيني، فجاءت خيلاته الادبية محتشدة بعمق المكان وتراسم شخوص الذاكرة فكان للتاريخ دوماً حضور استثنائي بأعماله التي يحاول عبرها ترميم جراح ملهاته الفلسطينية، وتشكيل المكان المفقود بمساحة سردية صاغها بحنكة ودراية ادبية متجددة وارتقائية.

مختزلاً صنوفاً إبداعية من الفن الأدبي، فقد ارتحلت تجربة نصر الله الأدبية ما بين الرواية والقصة والشعر بمستوى عميق، ومحتشد عبر ارضية ثقافية قادرة على احتضان كل ذلك الكم الإبداعي.

وفي هذا اللقاء مع «السفير» نطل على جوانب من مسيرته الأدبية ومتابعته الإنسانية لبعض وقائع العالم العربي اليوم:

] مساركُ الأدبي الغزير والممتد الى ثلاثة عقود، توغلت فيه عميقاً في قضيتك الفلسطينية التي رصدتَ من خلالها واقعاً مؤلماً حولته الى خيال رحب الاتساع، فهل كانت أعمالك الأدبية تلك محاولة لنفض الغبار عن ذاكرة المتلقي بما يخص القضية الفلسطينية؟

ـ في واقع عربي رخو، والآن متفسخ تماماً، يصبح التذكّر مسألة كبرى، وتصبح الحرب حرب ذاكرة، ففي النسيان لا وجود للأعداء، لأن النسيان شكل من أشكال الموت السريري الذي يريدون فرضه علينا بشتى الطرق، سواء بتقليم أظافر الذاكرة او باقتلاع أعينها. وهذه الحرب تشن على الذاكرة الفلسطينية على مستويين، مستوى العدو وما يناصره من إعلام، ومستوى إعلام عربي متواطئ، بل أصبح اليوم حارساً للرواية الصهيونية، وبخاصة على مستوى الفضائيات.
هناك فقرة في روايتي (أعراس آمنة)، أحس بأنها تلخص هذه المسألة إلى حد بعيد، حيث تقول إحدى شخصيات الرواية: أتعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟! إنها تصبح مُلكاً لأعدائنا!
..على المستوى الآخر، فهذه الروايات سعي لتقديم اقتراحات فنية جديدة، على صعيد النوع الروائي، لأن هذه الاقتراحات هي القادرة على حمل فكرة مشروع الملهاة الفلسطينية، ومن حق القارئ أن يقرأ أعمالا جميلة عن فلسطين، أولاً لأن المتعة من أهم حقوق القراء، ثم إننا لا يمكن أن ندافع عن فكرة جميلة بأساليب قبيحة، أو ضعيفة.

] استلهمت شخوصك الأدبية من محيطك المكاني لكن اغلب تلك الشخصيات بقيت ضمن اطار الخيال. هل لأن الخيال والأسطورة دوماً اكثر جمالاً من الواقع، ليصبح المنتوج الأدبي ملاذاً للفرار من الواقع؟

ـ الروائي، ليس جامع أحداث وشخصيات واقعية، هذا أمر يمكن أن يقوم به أي شخص تزوّدة بمسجل أو كاميرا، وهذا أمر متيسّر اليوم، الروائي صاحب رؤية إنسانية وجمالية في هذه المساحة التي نتحدث عنها، ولذلك، ليس خياله فقط هو الذي يعمل على تطوير هذه الشخصيات والأحداث، فهناك خبرته الجمالية وهناك قدرته على رفع الواقعي إلى مستويات أكثر جذرية في تناولها التاريخ والأسئلة الكبرى التي تؤرق البشر، ولذا، فإن تصعيد الواقع في الحقيقة هو هجوم نحوه لسبر أغواره، وليس فراراً منه. الفرار هو أن تجمع الحكايات وتنشرها، تماماً مثل ذلك الذي يدوّن مشكلة ما يعاني منها لكي يتخفف منها، والكتابة عكس ذلك تماما، أنت تكتب لتُعارك فكرتك، ورؤيتك لهذا العالم، ماضيك وحاضرك ومستقبلك.
أما الاستلهام فمصادره متعددة: هناك ما تعيشه، أو عاشه غيرك، وهناك ما سمعت عنه، أو سمع عنه غيرك، وهناك ما قرأته، وهناك ما تكوّن من مجموع هذه الأشياء، والذي سيُشكل لديك عالماً، قد لا تكون نتيجته نفسها إذا ما كتبه كاتب آخر أو عشرة كتاب..

الموت

] صراعات الوطن العربي اليوم جعلت ضجيج الموت يتصاعد يومياً فنحن نعيش واقعاً محتشداً بأسباب الموت، لكنك كنت قد صورت الموت في كتابك «كتاب الموت والموتى» على انه كائن ذو وجود متجسد وأخرجته من صورته الأسطورية. فهل كان ذلك تحريضاً منك على البطولة وعدم الخوف من هذا الموت بمفهومه الخرافي؟ ولمن قلت «الى الذين لايموتون»؟

ـ ديوان: (كتاب الموت والموتى)، كتبته عام 1996، وهو مكوّن كما تعرفين من مئة قصيدة وقصيدة، أتأمل فيها الموت من زوايا مختلفة، وقبله بعشر سنوات، كنت كتبت قصيدتي الطويلة (ألف بيت، تقريباً) وهي: (راية القلب، ضد الموت)؛ والحقيقة أن المسافة بين هذين العملين الشعريين ليست طويلة على المستوى الزمني، إنها عشر سنوات! لكن ما حدث في السنوات العشر تلك، كان كبيراً، ففي راية القلب، كنا لم نزل قادرين على مواجهة الموت كجماعة، لكننا بعد انفراط الجماعة، أصبح لكل منا موته الخاص، الذي علينا أن نعاركه، ونحاوره، ونستأنسه، وأن نشاركه مخدة واحدة، كما جاء في كثير من قصائد كتاب الموت والموتى.
حين كتبت هذا الديوان، تغيرت فكرتي عن الموت، لم يعد يخيفني فعلاً:

سأقولُ إني ذاهب للنوم
حينما يأتي
أرجوكم، لا توقظوني قبل يوم القيامة!

أحد الأصدقاء، وكان في الثمانين، أيامها، حين قرأ الديوان، قال لي: كنت أعتقد أنني سأقرأ ديواناً مولِّداً للكآبة، ولكنني أحس الآن بعد قراءته، بأنني سأموت مبتسماً.
فقلت له: هذا لأنك أيضاً، عشت حياتك مبتسماً، فالموت لا يأخذ منّا سوى ذلك الذي لم نعشه، وإذا عشنا حياتنا فعلاً، سيخرج من بيوتنا حين يأتي صفر اليدين.

قناديل الجليل

] «قناديل ملك الجليل» رواية تاريخية فريدة كتبت بلغة مكثفة لتكون عملاً ادبياً ملحمياً لوقائع تاريخية وأخرى متخيلة. هل كنت متخوفاً من الإقدام على مثل هذه الخطوة السردية؟

ـ كل عمل أدبي جديد هو عمل مخيف بالنسبة لي، والقناديل كانت عملاً مخيفاً، لأنها الرواية التاريخية الأولى التي أكتبها عن شخصيات حقيقية. وما كان يخيفني أكثر هو ضخامة المشروع، فنحن نتحدث عن مئة سنة رائعة في التاريخ الفلسطيني، ومهملة أيضاً. تلك الحقبة صورة واسعة لإمبراطورية ممتدة في عدة قارات، ومرحلة متشابكة على مستوى التحرر والطوائف والصراعات السياسية.
كان يؤرقني، أن تلك الفترة أُهملت تماماً على مستوى الكتابة الفلسطينية، ولو كانت شخصية مثل شخصية ظاهر العُمر الزيداني، شخصية يهودية مثلا، لكُتبتْ عنها عشرات الروايات، وأخرجت عشرات الأفلام والمسلسلات والمسرحيات. وهذا كله يخيف الكاتب، ولذا، كانت الفترة بين البدء للتحضير لها وإنجازها ثلاث عشرة سنة.
الجميل في الأمر، أن (قناديل ملك الجليل)، حققت انتشاراً واحتراماً كبيرين، أما التخوف من كتابتها، أو الخوف، فلحسن الحظ أصبح أمراً من الماضي!

] نحن نقف اليوم «كمجتمع عربي» على خطوط ملتهبة من التعصب والغلو في ادِّعاءات الحقوق المطلقة نتيجة الوقائع السياسية والاجتماعة التي تعيشها شعوبنا. فلماذا هنالك صمت أدبي يقابل كل هذا العصف؟ وهل أصبح المثقف العربي غائباً اليوم عن صناعة الرأي العام؟

ـ لا أظن أن هناك صمتاً عربياً على مستوى المثقف، هناك إنجازات كبيرة تتحقق، وتحققت، سواء قبل ما يحدث أو خلاله، لكن لنعترف أن المنابر الإعلامية ازداد عددها وازدادت عدائيتها، فاليوم، لم يعد هناك سوى منابر صحافية وتلفزيونية قليلة جداً، تستطيع أن تنشر فيها ما تفكر فيه، فالإعلام ليس لنا اليوم، الإعلام لمن يملكه ويسيّره حسبما يريد، ليس تجارياً، فهم ليسوا بحاجة إلى المال، بل سياسياً.
منذ مدة طويلة لم نر عملا درامياً واحداً عن فلسطين، وحين اشترت إحدى الشركات الإنتاجية حقوق روايتي (زمن الخيول البيضاء)، مثلا، وكتبتُ السيناريو، واجهتنا صعوبات مرعبة: إحدى الفضائيات الكبيرة، طلبت من المنتج تغيير المكان الذي تدور فيه الأحداث، أي أن لا يكون فلسطين! وفضائية أخرى طلبت تحويل الجزء الأول من الرواية إلى مسلسل بدوي! فهم أحبوا الأحداث ولكنهم لا يريدون فلسطين ولا الفلسطينيين في مسلسل سيعرضونه!
اليوم، ستفكّر عشر مرات، قبل أن تجد المكان المناسب الذي يمكن أن تنشر فيه قصيدتك براحة، لا يكفي أن نقول إن هنالك جريدة «السفير» مثلا، أو جريدة أخرى..! فهذا لا يكفي لخلق حراك ثقافي عربي في هذه المساحة الممتدة بين ماءين!

] تعتمد التجديد في اسلوبك الروائي والسرد الحداثي الذي طالما اتسم بالرمزية التي تعيد تشكيل نبض الحياة الفلسطينية لتبقيها حية، فهل كانت الصيغة الانسانية والرمزية الخارجة عن المألوف في بنائك الروائي وراء الإقبال المتجدد من قبل المتلقي على اعمالك؟

ـ في ظني أن لكل عمل شروطه الفنية التي تحقق له وجوده، سواء أكنت تكتب رواية حداثية أو ما بعد حداثية مثل: براري الحُمّى، شرفة الهذيان، مجرد 2 فقط، أو تكتب رواية مشتبكة مع التاريخ، مثل مشروع الملهاة الفلسطينية، لأن عليك أن تقدم اقتراحاتك الخاصة في الرواية التاريخية، او الاجتماعية، أو السياسية.. إلى آخره..
بالنسبة إليّ، البناء الفني هو أجمل مُتَعي الخاصة ككاتب، وهو مصدر سعادتي الأهم وأنا أعارك تاريخاً صعباً وظروفاً مأساوية عشتها منذ بدايات النكبة حتى اليوم.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى