نوافذ للحوار| سوزان عبد العال: على الشعر الوصول إلى الآخرين (حاورتها: عناية جابر)
حاورتها: عناية جابر
ليس مهماً النثر أم التفعيلة المهم القصيدة
للشاعرة المصرية سوزان عبد العال إصداراتها الشعرية الخمسة، منها «اعترافات زليخة» و«خذ كتابي بيمينك». بدأت عبد العال بالقصيدة المقفّاة، من ثم قصيدة التفعيلة، حتى اختارت أخيراً القصيدة الأعلى من وضعها في قالب مهما كان، فيها ـ على ما تقول الشاعرة ـ حريتها وفيها الموسيقى الخاصة بها وحدها. عن تجربتها هذا الحوار:
ما الذي تعنيه لك الكتابة عموماً؟
^ الكتابة هي شكل الحياة الذي يجعلني أحتمل وطأتها، فأنا زوجة وأم مصرية عادية جدًّا، أعاني ما يعانيه الناس، وأقوم بواجباتي الحياتية بقدر المستطاع، ويأتي الشعر ليكافئني بالفرح المختلس، فهو أنا، وجودي الحقيقي، لتصبح عداه كل مظاهر الحياة هوامش لهذا المتن الوحيد. ثلاثون عامًا أبحث عن لغة فريدة للتعبير أصوغ من خلالها أوجاعي وأحزاني وأحلامي وذاتي.
كرهت جدًّا ما يلصق بالمرأة الكاتبة عمومًا من أنها محدودة الجهد، لا تستطيع سبر أغوار اللغة وخوض غمار التجربة الفنية، فأخذتُ قرار التحدي باكرًا جدًّا، سيحار النقاد في تصنيفها – تلك القصيدة الحلم – لن يستطيع أحد ان يطلق عليها قصيدة نسائية، وأعتقد أنني إلى حد ما نجحت.
كيف تدرّجت في القصيدة، ماذا كان شكل قصيدتك في كتاباتك التي سبقت إصدارك الأخير؟
بدأت ككل الشعراء بالقصيدة المقفاة، وبعد فترة ليست بالقليلة كتبت قصيدة التفعيلة، ونشرت لي العديد من القصائد بهذا الشكل، وبعد فترة ضاقت عليَّ تجربتي وأصبحت الصورة أعلى كثيرًا من وضعها في قالب مهما كان، فاشتريت الحرية التي أخلق من خلالها موسيقاي وحدي، لم أهتم بتصنيفها، ولم اقصد أن تكون نثرًا أو تفعيلة، المهم أن تكون القصيدة، وأن أكون أنا حيث تكون.
لي خمسة دواوين، آخرها «خذ كتابي بيمينك»، المكون من ستة عشر مقطعًا شعريًّا، استخدمت في كتابتها اللفظ الصوفي لما يتمتع به من رحابة وطاقة روحية كانت مناسبة لحالتي وقت الكتابة، واستعنت بتجارب كبار المتصوفة مثل الشبلي، الجيلي، ابن عربي، السهروردي، ابن الفارض.. وغيرهم كثيرين للدخول إلى هذا العالم السحري.
لا أنكر أن دخول هذا العالم مرهق جدًّا، ويحتاج إلى جهد خارق، لكني حاولت، وأعتقد أنني – إلى حدٍّ ما – نجحت في توظيف قشور تجاربهم في متن تجربتي.
التصوف
التصوّف سمة من سمات ديوانك من أين هذه المسحة الصوفية؟ وكم استغرقت كتابته؟
^ كتبت قصائد الديوان في شهرين تقريبًا، بعد فترة انقطاع عن الكتابة استمرت حوالي عامين، لا أستطيع تحديد سبب الانفجار الشعري الذي كاد يقصم ظهري! فرض الديوان لغته عليَّ واستجبت، وبدأت البحث والاستعانة بمن كتب في وعن التجربة الصوفية، كنت أملك مخزونًا لا بأس به من لغتهم، حيث وفر لي عملي مع الروائي الكبير جمال الغيطاني في سلسلة الذخائر، التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، والذي اهتم في الإصدارات الأخيرة بالكثير من كتب التراث الصوفي من كل الأقطار العربية، عملي كمنفذة للكتب أتاح لي التعرف على الكثير من الكتاب والتشبع بلغتهم. وعندما نضجت التجربة وألحت لكتابتها فرضت اللغة نفسها، لكن دخول هذا العالم لم يكن سهلاً على الإطلاق، فأذكر أن النوم لم يعرف لعيني طريقًا على مدى أيام وليالٍ.. طريق العارفين لا يسلكه إلا محب.
وبعدما عرفت القصــائد المتواليــة طريقــها للورق بدأت مراحل عدة من التنقــية والتنقيح والتكثيف، وهذا جهــدي العقــلي الواعــي، وهو ما أفــعله في قصائدي عامة، لا أكف عن العــمل عليهــا حــتى أرضى، أو أحاول الرضى، وهذا هو السبب في أني لا أصدر ديوانًا إلا كل أربع أو خمس سنوات.
ديواني صدر ضمن «سلسلة حروف» التي تصدرها هيئة قصور الثقافة، وهي سلسلة قديمة، كان اسمها «أصوات أدبية» وتغير اسمها منذ عامين. ورغم أنها رخيصة الثمن جدًّا، يوزع معظم المطبوع في وقت قليل، من باعة الصحف في شوارع القاهرة والمحافظات، إلا أنه يعيبها أنها لا توزع خارج مصر، وهذه خسارة كبيرة بالطبع أتمنى أن يعمل القائمون على مطبوعات الهيئة على تلافيها مستقبلاً.
ما هي رسالة الشعر برأيك؟
^ لا رسالة للشعر سوى أن نعبر عن أنفسنا بشكل يصل إلى الآخرين جيدًا، ويمس داخلهم ولو قليلاً، ولنكن واقعيين، فالشعر يعبر عن واقع ولا يغيره، يعبر عن تجربة ولا يصنعها.
هل من رقيب داخلي على قصيدتك؟
^ مع تحفظي على ربط الكتابة بجنس الكاتب، إلا أنني أستطيع القول إن الرقيب الداخلي للكاتبة أقوى من أي رقابة خارجية في مجتمع دائما ما يبحث خلف المرأة ومن ثم كتابتها عن شبح الآخر، ولا يستطيع أن يفرق بين التجربة الفنية وتجربة الحياة، تمامًا كمن يخلط بين الممثلين في فيلم وبين حياتهم الشخصية، فمن الناس من لا يفرق بين شر محمود المليجي في أفلامه وكونه في الحقيقة شخصًا شديد الطيبة والالتزام الأخلاقي، وهناك من تصور أن إسماعيل ياسين لا يكف عن الضحك وإلقاء النكات. كذلك الشاعرة عندما تكتب عن الحب فهي غارقة فيه، والتي تتمرد على الورق لا بد أنها تمارس تمردها هذا في الحياة. أما عني، فأحاول التخلص من هذا الرقيب حتى أصل إلى القصيدة الحلم، تلك التي أستطيع من خلالها أن أعبر عن مشاعري المطلقة بلا قيود ولا حواجز، قصيدة عارية تمامًا إلا من الصدق والجمال.
لا أهتم بالنشر ولا بالانتشار، ولا بالتواجد في الندوات والتجمعات والمؤتمرات، أهتم فقط بالقصيدة والبحث عن الجديد دائمًا (تدخل القصائد لمن يتشهى لغة أخرى)، أفضل أن أعيش تجربتي الفنية وحدي من دون تقاطعات مع تجارب آخرين، وخاصة وقت الكتابة، وقد لاحظتُ في الفترة الأخيرة تشابه التجارب الفنية، خصوصاً بين الشعراء الشباب، وأظن أن هذا حادث لتقاربهم في الواقع. كما لاحظت عدم اهتمامهم بالمجاز والصور الجمالية اعتقادًا منهم أنها موضة قديمة وانتهت، لكني أزعم أن الشعر إن لم يحلق بي في فضاء المجازات والصور لا يحقق لي شخصيًّا متعة في قراءته، وليس معنى هذا أن أهتم بالصنعة على حساب التجربة الإنسانية والفنية، لكن التوازن مطلوب وإلا أصبحت القصيدة لوحة فنية خالية من المضمون، أو كانت فكرة صماء جامدة لا روح فيها.
بمن تأثرت من الشعراء؟
^ تأثرت بأحمد عبد المعطي حجازي، صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، رغم تباين التجارب الثلاث، إلا أنهم أمتعوني في مستوى القراءة أولاً، ثم في مستوى التعلم من شعراء موسوعي الثقافة، وقد أتاحت لهم فترة الستينيات والسبعينيات بزخمها السياسي والثقافي فرصة لم تتح لغيرهم من الشعراء. حجازي تجربته الإنسانية أكثر ثراء، فمن ينسى «من أين الطريق إلى السيدة» و«يا هواي عليك يا محمد»، وقصيدته في رثاء عبد الناصر التي تضج حزنًا نبيلاً شفيفًا. أما صلاح عبد الصبور فهو صاحب النظرة الفلسفية العميقة في الشعر والحياة، حمل نص الشعر المسرحي برؤاه الفلسفية. ونأتي لدنقل نبي الشعر والثورة، لا أنسى كلمات سبارتكوس الأخيرة وبكائية صقر قريش وأوراق الغرفة 8 والعرافة المقدسة. أما محمود درويش فهو من أشعر بالعجز المخيف في قراءته وفهمه واستيعابه، كيف لدرويش أن يغلق خلفه باب الشعر ويرحل؟ ماذا نكتب نحن يا درويش بعدما كتبت؟