نوافذ للحوار| وزير خارجية العراق يروي لـ”الحياة” محطات من تجربته على خط الزلازل (3) (حاوره: غسان شربل)

 

حاوره: غسان شربل

لم تكن مهمة استعادة علاقات العراق بالدول العربية سهلة. اتهم النظام الذي ولد في أعقاب إطاحة صدام حسين بالرضوخ لإرادة المحتل الأميركي ثم بالرضوخ لإرادة الجار الإيراني. كان على وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري أن يزور العواصم القلقة أو المترددة وأن يشرح ويوضح ويطمئن قدر ما يستطيع. وخلال تلك الزيارات واللقاءات العربية نسج زيباري شبكة واسعة من العلاقات مع نظرائه ومع عدد من القادة العرب. سألته «الحياة» عن بعض المواقف والمحطات وهنا نص الحلقة الثالثة:

> كيف كان موقف الرئيس المصري السابق حسني مبارك؟

– الرئيس حسني مبارك كان من الأشخاص الذين يكنون لي المودة، وهو الوحيد بين الرؤساء العرب الذي كان يلفظ اسمي الأول صحيحاً تماماً وكنا دائماً نتبادل النكات. وكان لديه خوف من الأميركيين وكان ينبهني منهم دائماً قائلاً: ليس لديهم لا دين ولا رب ولا أمان معهم ويبيعون أصدقاءهم بسهولة «زيّ المَيَّة». وكان يعطي برويز مشرف مثالاً فهو الذي لم يترك أمراً إلا ونفذه لبوش وفتح بلده للأميركيين فما كان منهم إلا أن تخلوا عنه بسهولة. وكان مبارك دائماً ينصح ألا نعتمد على أصدقائنا الأميركيين بل أن نعتمد على أنفسنا وعلى قواتنا وعلى جيشنا، وكان من محبي العراق. كان طياراً عسكرياً ورابط في قاعدة الحبّانية في غرب العراق وله تجربة في البلد. وقال إن العراقيين عندهم الأكراد والعرب والشيعة والسنة بينما المصريون لا تحسس لديهم فالجميع مصريون.
كنت ألتقي الرئيس مبارك عند وجوده في شرم الشيخ ويسأل عن أوضاعنا وعن الإيرانيين والنفوذ الإيراني. فكنت أقول له يا فخامة الرئيس الإيرانيون موجودون ولديهم سفارة وقنصليات (موظفوها حوالى 120 وهناك العديد وراءهم) ولكن أنتم العرب غير موجودين. أنتم تنتقدون الوجود الإيراني وتقولون إنهم متغلغلون فلم لا تتواجدون؟ وكان الرئيس مبارك منزعجاً جداً من الدور السوري في العراق وكان يقول لي: «إنهم بعثيون ونظامهم دموي لا يقف عند أي حد، والواد ده ويقصد بشار، شايف نفسه ويعطينا محاضرة في كل قمة»، وكان منزعجاً من تدخلاته في كل صغيرة وكبيرة، وقال إن «النظام السوري يعيش على الأزمات»، في لبنان والعراق وفلسطين. وكان قلقاً من الدور السوري في العراق وفي لبنان.
كان مبارك يركز على أن مصر دولة كبيرة جداً وأن العراق يمكن أن يستعيد قوته، كان يعوّل على قوة مصر وقوة العراق، وفي تقديري أنه لم يكن مرتاحاً إلى بعض السياسات الخليجية على رغم المودة الظاهرة.
كان مبارك يحدثني عن أن صدّام بعد الحرب العراقية – الإيرانية حاول إقامة علاقات عائلية جيدة معه وأنه كان يحرص على عدم التفريط بهذا الجيش العربي الكبير وأن يصبح قوة لصالح الأمة العربية. وكان مبارك يصف صدّام بـ «المجنون».
تدهورت العلاقات بين سورية ومصر. وكان الرئيس المصري يقول لي: «أنتم في العراق تعرفون طبيعة النظام البعثي والمخابرات والواجهات». وكان يحذر من «أن علاقات بشار الإستراتيجية مع إيران أعمق وأقوى مما نتصور، في الجيش والمؤسسات والاقتصاد والعديد من المسائل». تابع شخصياً كل طلبات العراق في السنوات الأخيرة، وتم افتتاح سفارة في بغداد وقنصلية في أربيل، وبدأت الوفود المصرية بزيارة العراق وكذلك رجال الأعمال المصريين، وتم منح شركات مصرية عقوداً في قطاعات مختلفة، وكان يدعم هذا الاتجاه بشكل قوي جداً.
أخبرني الرئيس مبارك أنه تولى شخصياً نقل تحذير تركي إلى الرئيس حافظ الأسد في 1998 مفاده أن تركيا ستتدخل عسكرياً في سورية إذا استمرت الأخيرة في إيواء عبد الله أوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني). وأوضح أنه نقل في الوقت نفسه رسالة أميركية حول الموضوع وأن الأسد فضل التخلي عن أوجلان على الدخول في مواجهة مع تركيا.

نصيحة من رفيق الحريري

> كيف كانت علاقتك مع رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري؟

– كانت علاقة ممتازة وأشهد للتاريخ أنه في سنة 1991 عند الهجرة الجماعية للشعب العراقي وللشعب الكردي، التي أسميناها الهجرة المليونية، إلى تركيا وإيران بعد قمع الانتفاضة توجهنا مع محسن دزائي أحد مستشاري المرحوم الملا مصطفى بارزاني سابقاً، وكان وزيراً سابقاً، إلى السعودية في زيارة رسمية. وهناك طلب الرئيس رفيق الحريري، عن طريق أحد المعارف، لقاءنا وكان لديه زكاة يود التبرع بها فتبرّع بها للشعب الكردي وكانت بحدود مئتي ألف دولار. لم تكن بيننا معرفة سابقة لكنه تأثر بحجم المأساة.
قبل التغيير كانت لدينا اتصالات محدودة معه. عند حدوث التغيير كان الشهيد رفيق الحريري من المتحمسين له ولمسنا ذلك من خلال بعض الاتصالات التي جرت معنا خلال تحركنا المعارض. قال الحريري إنها فرصة لتغيير الوضع وتغيير الأنظمة الاستبدادية التي تراكم ممارسات القمع والفشل الاقتصادي ما يدفع الناس إلى التطرف. وقال إن الناس يجب أن تتمتع بالحرية والديموقراطية والشعب العراقي قاسى جداً من حكم الحزب الواحد. وبعد التغيير وتعييني وزيراً للخارجية كان مهتماً باللقاء بي كلما سنحت الفرصة وفي كل مناسبة. خلال زياراتي إلى السعودية مثلاً كان يطلب مني انتظاره لبضع ساعات يحضر خلالها ونلتقي أحياناً في المطار. وفي إحدى المرات كان لدي زيارة إلى الكويت ولم أتمكن من تأمين طائرة فوضع طائرته الخاصة تحت تصرفي واستقللتها إلى الكويت.
كان الحريري خائفاً جداً من الأجندة الإيرانية والأجندة السورية اللتين تختلفان في العراق، وكان يشدد على ضرورة الحفاظ على وحدة العراق. وكان ينبهنا إلى أن النظام السوري سيبذل كل ما في طاقته في سبيل تقويض العملية السياسية وكان ذلك سنة 2003 بعد سقوط صدام. كذلك كان ينبهنا إلى ضرورة لفت أنظار الأميركيين وأصدقائنا إلى أخذ دور دول الجوار، وخصوصاً الدور السوري، في الموضوع العراقي باهتمام أكبر. نظريته كانت أن الأجندتين السورية والإيرانية ربما تبدوان متشابهتين لكنهما مختلفتان في التفاصيل. وطلب منا أن نكون فطنين وأن نحاول استغلال الوضع لصالحنا.
وأذكر أنه عندما بدأ الشهيد رفيق الحريري يتحدث في مسألة الاتجاه إلى التمديد لرئيس الجمهورية اللبناني (اميل لحود) وما أحدث من جدل في لبنان وكانت لديه تصريحات في هذا الاتجاه، عُقد المنتدى الإستراتيجي في دبي برعاية الشيخ محمد بن راشد، فدعيت كوني مسؤولاً عراقياً جديداً للتحدث عن الوضع العراقي وكان الجو «ملغوماً» ضد العراق والأميركيين والاحتلال والشعارات. تحدثت بحرية ذاكراً أننا قضينا على الدكتاتورية وأن العراق مقبل ودوره سيكون أقوى. سابقاً كان صدام يتلاعب بالمشاعر القومية ويقول إنه حارس البوابة الشرقية الذي يريد تحرير القدس من خورمشهر أو من الكويت وكان يثير المشاكل في المنطقة. كان رفيق الحريري بين الحضور جالساً في الصف الأمامي ودعاني إلى العشاء، وكنا ننزل في فندق الجميرة حيث تناولنا العشاء في مطعم إيطالي. سألني بالتفصيل عن الوضع في العراق والتحالفات والعلاقة مع الأميركيين وما يريده الأميركيون. وقلت له يا أبا بهاء أنتَ في مواقفك وتصريحاتك ألا تخاف من معارضة من يؤمنون بشطب خصومهم؟. قال لي إنه لا يتصور أن الأمر سيصل إلى حد التصفية الجسدية. قلت له القرار قرارك وبالتأكيد لديك احتياطاتك الأمنية لكن عليك ألا تبالغ في الطمأنينة. وهناك صورة أخيرة جمعتنا من ذلك اللقاء في دبي. عند سماعي بخبر التفجير الكبير الذي استهدف موكبه اتصلت فوراً بمدير مكتبه مستفسراً عن صحة المعلومات فأكدها لي. ثم تواصلنا مع نجله الرئيس سعد الحريري ولدي علاقة جيدة معه.

> حاولت تحسين العلاقة العراقية-السعودية لكنك لم توفق؟

– أثار ما حدث في العراق مخاوف لدى الدول المجاورة خصوصاً أن التغيير كان كبيراً. تولد انطباع لدى القيادة السعودية أن لا دور لنا في صناعة القرار العراقي. التقينا الملك عبدالله بن عبد العزيز عندما كان ولياً للعهد، والرجل كان يحترمنا لكنه كان يعتقد أن ليست لدينا إرادة وأن هناك مَنْ هو أعلى منا يقرر عنا، وهو يقصد الأميركيين. بعد تعييني وزيراً للخارجية العراقية التقينا في مؤتمر القمة الإسلامي في كوالالمبور في ماليزيا في 2003. طلبنا موعداً وبعض أعضاء مجلس الحكم عن طريق الأمير سعود الفيصل. جرى نقاش حول الوضع في العراق وكانت وجهات النظر متباعدة إذ كان ينظر إلينا كجهة عاجزة عن اتخاذ أي قرار (…).
هناك حادثة ثانية مع الملك عبدالله خلال القمة الاقتصادية في الكويت سنة 2008 حين كانت علاقته مع المالكي فاترة، وحضر القمة وأطلق دعوة للمصالحة وفتح صفحة جديدة وكانت دعوة مهمة ومفاجئة. وكنا في ترتيب الجلوس قرب الوفد السوري حيث حضر بشار الأسد وفاروق الشرع وكان الرئيس جلال طالباني يرأس الوفد العراقي. اقترحت على زميلي وزير المالية باقر بيان جبر الزبيدي، وهو من قيادات «المجلس الأعلى» وصديق وكان سابقاً وزيراً للداخلية، أن نتوجه للسلام على الملك عبدالله فرحّب بالفكرة وسألني إن كان بيننا معرفة سابقة فقلت له نعم. فور توجهنا نحوه وقف مدير المراسم ورحّب بنا وطلبنا منه السلام على جلالة الملك وشكره على كلمته. فوقف الملك عبدالله للسلام علينا ورحب بأهل العراق وسأل عن أحوالنا وقدمت إليه زميلي وزير المالية. فقال الملك عبدالله: ما شاء الله، إذا اتفق وزيرا الخارجية والمالية يسيّران شؤون الدولة. قلت له يا جلالة الملك أنت أجريت مصالحة سعودية – عربية فهل نحن مشمولون بهذه المصالحة فتكون مصالحة عراقية – سعودية أو لا؟ قال، ممسكاً يدي، ممكن لكنكم تعرفون المشكلة (…).
في القمة العربية في الدوحة حاولت أن أرتب لقاء أو مصافحة بين الملك عبدالله والمالكي عن طريق الأمير مقرن بن عبد العزيز لكن المحاولة لم تنجح.
جمعتنا لقاءات عدة مع الملك عبدالله وكان يخشى عدة مسائل: من الأميركيين حول تدخلهم بالقوة لإزاحة نظام، ومن الطرح الذي قُدّم حول النظام الجديد في العراق، وبعد ظهور نتيجة الانتخابات والتوازنات الجديدة بين المذاهب العراقية، ومن ثم بروز الدور الإيراني وتداخله وعلاقاته وأصبح ذلك الهم الأول للجانب السعودي. كان الملك عبدالله يعتبر أن الوضع في العراق غير طبيعي وغير مستقيم ويجب أن نعمل على تسوية الوضع وإعادة التوازن. إعادة التوازن كانت مسألة صعبة جداً لأن القوى الكردية كانت متحالفة مع القوى الشيعية. كان السعوديون يخشون أيضاً تقسيم العراق وأن ينفصل الأكراد عن العراق، وخوفهم من «القاعدة» ومن أن يصبح العراق مرتعاً للإرهاب وللمخدرات. مجموعة من الهواجس كانت تراود السعوديين. رأينا كان مختلفاً وكنا نرد أن الانفتاح على جميع العراقيين لا يجعل أي فريق منهم هدفاً للتأثير الخارجي من إيران أو غيرها. طبعاً معظم القيادات (الشيعية) عاشت في إيران ولها علاقات هناك، وفي سورية، ولكن بعد عودتها إلى العراق أصبحت شريكة في القرار فلماذا نجعلها تصبح مرة أخرى تابعة لقوة أخرى وكنا نشجع على عودة العرب إلى العراق وطمأنة الجميع. وهذا النقاش كان يجري مع الأمير سعود والأمير مقرن والأمير سلطان.
التقيت الأمير سلطان، رحمه الله، عدة مرات كان آخرها عندما عدْته في نيويورك إبان مرضه وسُرَّ بزيارتي جداً. مواقفه من العراق كانت متوازنة جداً وفي إحدى زياراتي له قال أنه يقترح عقد قمة عربية تخصص للعراق لا يبحث فيها أي موضوع آخر ولا حتى فلسطين. قلت له أن هذه ستكون أكبر خدمة تقدمونها للعراق. كان الأمير سلطان متفهماً وإيجابياً ومتابعاً.

> والعلاقات مع البحرين؟

– الملك حمد بن عيسى كان أول ملك عربي التقيته بعد تعييني وزيراً للخارجية في 2003. كان عندنا قضية ديبلوماسية على أساس أن البحرين كانت ترعى مصالحنا مع أميركا فأردنا أن تتحول علاقتنا إلى علاقة مباشرة وكنا بحاجة إلى توقيع مذكرة بهذا الخصوص مع الحكومة البحرينية. طلبت مقابلة جلالة الملك واستقبلني قائلاً أنت وزير خارجية كردي لدولة عربية مهمة، وربما من أهم الدول العربية، ومن خلال خبرتي المحدودة أعطيك نصيحتين: الأولى أن تنسى قوميتك وتعمل للعراق وتمثل مصالحه بتجرّد ونكران ذات، وأنت قدير ولغتك الإنكليزية جيدة وتتحدثها بطلاقة وكذلك لغتك العربية، والثانية أن تلتفت دائماً إلى محدودية الجدية في المواقف والسياسات العربية.
التقيت الملك حمد مرة ثانية عند توجهي إلى المنامة لتسليمه دعوة لحضور القمة العربية في بغداد. أخجلني الملك بإطرائه وثنائه عليّ وقال إنه يتابع عملي وإنني لم أرتكب أي خطأ في خضم هذا الوضع الصعب الذي يعيشه العراق والتحولات السياسية والإقليمية. وقال إن مواقفي متوازنة وحتى حين كانت إيران تطالب بالبحرين كانت لدينا مواقف معلنة أننا ضد هذا وأن هذا لا يجوز. قلت له يا جلالة الملك سأذكرك بأمرين لكنني سأعلن أحدهما فقط، نصحتني في بداية تولي وزارة الخارجية أن أنسى قوميتي وأعمل للعراق بتجرد وكانت نصيحة قيّمة، ولكنني أخاف أن تُحرج من الثانية. فقال قُل، فأضفت أنا اتبعت النصيحة الأولى لكنني لم أتّبع الثانية. فسأل: وما كانت؟ قلت أنكم نصحتموني ألا أراهن على جدية العرب ولكنني أخذتهم على محمل الجد وهذا ما أوصلنا الآن إلى استضافة القمة العربية التي ما كنا تمكنا من استضافتها لولا أننا أخذنا العرب على محمل الجد. وقال لي جلالة الملك حمد هذا صحيح ومعك حق.
الحقيقة البحرينيون كانوا من أكثر الدول العربية تفهماً، وفي جميع الاجتماعات العربية وقفوا موقفاً متميزاً إلى جانب العراق وعملوا على تلبية كل ما يطلبه.

> والعلاقة مع أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد؟

– أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد من القادة العرب المتميزين والمتمكنين وأعتبره شيخ الديبلوماسية العربية في طرحه وجرأته في القضايا التي يطرحها في المؤتمرات وحرصه على حضورها. في أحد المرات قلت له يا سمو الأمير حتى الآن ما زلتم تقتطعون خمسة في المئة من النفط حسب ما قررت الأمم المتحدة، هل تحتاج الموازنة الكويتية إلى هذا الدخل؟ فما حدث كان في زمن صدّام وصحيح أن هناك التزامات دولية على العراق ونحن نلتزم بها ولكن كبادرة حُسن نية أخوية منك… فقاطعني مازحاً: هل رأيت يوماً شخصاً تصله مبالغ مالية من دون أي عناء ويرفضها؟
أمير الكويت كان من المشككين بجدية الأميركيين في إسقاط صدّام. قبل الحرب كانت مجازفة كبرى للكويت أن تسمح لكل تلك الجيوش بالعبور. ونحن أيضاً في المعارضة كنا نشكك في نوايا الأميركيين ومدى جديتهم. وروى لي الدكتور محمد الصباح، وزير الخارجية الكويتي، كيف كانت الأمور والاتصالات التي جرت قبل الحرب. وقال أن ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي، وفريقه قام بجولة قبل نهاية 2002 على الدول العربية لتهيئة الأجواء بعد اتخاذ القرار بالحرب. وصل تشيني إلى الكويت وسأله الشيخ صباح عن جدية الأميركيين في إسقاط صدّام، وقال إن الكويتيين يتمنون إسقاط صدّام بأي وسيلة فهو اعتدى على الكويت وطالما هو موجود لن يشعر الكويتيون بالأمان. شكك الشيخ صباح بجدية الأميركيين، فقام تشيني بتعديل كرسيه ومجلسه وقال: أنا لست خائفاً من جدية الأميركيين بل أنا خائف على بلدك من أن يغرق تحت ثقل المعدات العسكرية التي ستأتي إليه.
في كل المؤتمرات والاجتماعات كان أمير الكويت من الداعمين للعراق. حتى في مؤتمر سرت كانت المجادلة المشهودة التي جرَت بينه وبين القذافي حين قال له الشيخ صباح: يا أخ معمر أنا لن أغلق الميكروفون قبل أن تعطينا وتعطي العراق وعداً أنك ستحضر قمة بغداد كونك رئيس القمة، فقال له القذافي: الله كريم. وقال الشيخ صباح أنه سيكون أول الحضور سواء حضر الآخرون أو لا. مثّل السعودية في القمة ممثلهم الدائم، والبحرين أرسلت وزير الخارجية وقطر أرسلت ممثلها الدائم وعُمان أرسلت الشخص الثالث في الدولة.

> والعلاقات مع الأردن؟

-أنا أُعتبر نصف أردني كوني درست في الأردن بزمالة دراسية من الديوان الملكي، وكنت ضيفاً على الملك حسين وأنا مدين لهم بالكثير من المسائل وأُعتبر من أصدقاء العائلة المالكة ونتراسل في المناسبات ونتبادل الصور العائلية. التقيت بالملك عبدالله الثاني عشرات المرات، وكنت تمنيت عليه مرة أن يتوسط لنا مع الملك عبدالله بن عبدالعزيز، فكان يقول لي: «لم أفلح لكنني سأحاول».
الأردنيون كانوا مترددين بخصوص إعادة فتح سفارتهم في بغداد وإعادة سفير الأردن، ونتائج الانتخابات لم تكن محسومة بعد. اقترحت على المالكي القيام بجولة في الدول العربية كونه لا يزال رئيساً للوزراء لتسيير أعمال الحكومة خلال 2010. توجهنا إلى الأردن وقلت للملك عبدالله مضت سنوات وأنتم تنتظرون تغير الوجوه السياسية العراقية: الجلبي – الجعفري – المالكي – زيباري، لكن هذه الوجوه باقية ولن تتغير، وستكون موجودة في الحكومة الجديدة التي ستُشكل، سواء أحببتم ذلك أم لا، فانفجر الملك عبدالله ضاحكاً.
الملك عبدالله الثاني كان من الداعمين دائماً للعراق، لكن كانت لدينا شكاوى دائمة من سوء معاملة العراقيين، من قِبَل المخابرات الأردنية وفي المطارات. وكان الملك دائماً يتدخل ويساعدنا، وعملتُ جاهداً لمساعدة الأردن عبر منحهم اتفاقية لإعطائهم نفطاً خاماً بأسعار مخفوضة.
المخابرات الأردنية كان لها دور في قتل الزرقاوي، لكن الضربة القاتلة كانت أميركية. الزرقاوي كان نقطة سوداء بالنسبة لسمعة الأردن الدولية إذ كانت كل الصحافة العالمية تصفه بالإرهابي الأردني، وكان ذلك يغيظ الملك عبدالله الثاني جداً، وكان يقول أن علينا أن نعمل سوية للقضاء عليه لأنه لوّث سمعة الأردنيين وسمعة العرب، وكان ذلك أمراً مؤلماً للملك عبدالله الثاني من الناحية الشخصية. قبل قتل الزرقاوي قبض الأردنيون بمساعدة الأميركيين على أحد الأشخاص من مجموعة الزرقاوي كانوا اعتقلوه داخل العراق ونقلوه إلى الأردن. وربما كان هذا الشخص أحد الخيوط التي أوصلتهم إلى الزرقاوي.

الرئاسة والتكاليف

في أحد المرات حضرنا مؤتمر قمة استثنائياً في مكة فرفع الرئيس طالباني يده طالباً الحديث ليعلن عن تبرع الحكومة العراقية بمبلغ عشرة ملايين دولار إلى السلطة الفلسطينية. وكان الرئيس محمود عباس يتصل بي من باب الصداقة مستفسراً عن المبلغ الموعود. وكنت أتابع الموضوع لتأمين التحويل بعد متابعات وطرح الأمر في جلسات مجلس وزراء، وكان التأخير يطول إلى حوالي سنة.
عند رئاستنا للقمة العربية سألني المالكي: هل رئاسة القمة فقط لقب من دون مردود مالي؟ قلت له أن رئاسة القمة لا تتم بـ «بلاش» بل يجب أن تصرف وتَفي. قلت له نحن أحضرنا رؤساء ومسؤولين من جميع الدول العربية وأنت وعدتَ الجميع بالدعم: للفلسطينيين قلت أنك ستدعمهم لأن أمورهم المالية ليست جيدة، ونحن لدينا التزامات وقرارات وعدْتَ بتنفيذها ولم تفعل، وكذلك وعدتَ المسؤولين الجدد من «الربيع العربي» من تونس وليبيا بإطلاق سراح معتقلين لهم في العراق بتهم دخول (غير شرعي) أو إرهاب أو أحكام مخففة ولم تطلق سراحهم، وعدتَ المسؤول الصومالي بإعطائه سلاحاً لقوى الأمن الداخلي ولم تفعل، وعدتَ مسؤول جزر القمر بتنفيذ مشاريع هناك ولم تفِ، ووعدتَ المسؤول الجيبوتي أيضاً.

> أبلغت الرئيس الفلسطيني بالمساعدة التي أعلن عنها الرئيس جلال طالباني؟

– اتصلت بالرئيس محمود عباس وقلت أن لديّ له خبراً جيداً فاستبشر خيراً لأنه لم يكن يسمع أخباراً جيدة في تلك الأيام. أبلغته أن مجلس الوزراء العراقي وافق، بسبب وضعكم المعيشي الصعب ووجود التزامات سابقة ورواتب الموظفين، على أن يساهم العراق بمبلغ 25 مليون دولار. فقال: هل ستتأخر هذه المساهمة كسابقاتها؟ قلت: لا، أنا أضمن أنها ستصلكم خلال أسبوع إلى عشرة أيام، مع السيارات. قال الرئيس عباس: أنت العراقي الوحيد الذي نستطيع أن نتعامل معه ونعتمد عليه في هذه المسائل. أبو مازن متفهم جداً للوضع العراقي. وقال لي خلال اتصال هاتفي بيننا أن عنده صديقنا المشترك بيل بيرنز، مساعد وزيرة الخارجية الأميركية. وقال لبيرنز: هوشيار أعطاني خبراً جيداً، أفضل من كل أخباركم عن نتانياهو وهو أن العراق سيدفع بعض المساعدات. الفلسطينيون كانوا متفاعلين مع الوضع العراقي ويقدرون معاناة الأكراد والشيعة على رغم دعم صدّام لهم.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

نوافذ للحوار| وزير خارجية العراق يروي لـ”الحياة” محطات من تجربته على خط الزلازل (2) (حاوره: غسان شربل)

 

حاوره: غسان شربل

يروي وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري أن مسؤولين أميركيين أطلعوا نظراءهم الإيرانيين في جنيف على قرار واشنطن شن حرب لإسقاط نظام صدام حسين، وأن دولاً عربية كانت على علم بالقرار. ويقول إن إيران سعت إلى إفشال الوجود العسكري الأميركي في العراق، في حين سعت سورية إلى إفشال هذا الوجود ومعه العملية السياسية. ويتحدث زيباري عن الزيارة التي قام بها إلى بغداد الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد والتي رافقه خلالها بوصفه رئيساً لبعثة الشرف. ويكشف أن الزعيم الليبي معمر القذافي حاول التذرع بوجود قوات أجنبية تحتل العراق لعدم المشاركة في القمة، فتدخّل أميرا الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح وحمد بن خليفة آل ثاني مؤكدَيْن وجود قواعد لقوات أجنبية في بلديهما وفق اتفاقات مع السلطات. وهنا نص الحلقة الثانية:

> هل كان التعامل مع سورية صعباً في موضوع مرور المقاتلين عبر أراضيها؟

– كان هناك قرار سوري، وكان مرور المقاتلين يتم بعلمهم وبتسهيل منهم، وغرضهم كان مقاومة الاحتلال وإفشال المشروع الأميركي-الغربي في إقامة ديموقراطية في الشرق الأوسط، أو إفشال النموذج الديموقراطي في العراق. كانوا قلقين من مسألة الديموقراطية. النموذج الذي طرحه العراق أخاف أنظمة عديدة. أعرف اليوم ما يقال عن هذه التجربة وعثراتها، لكن لم يكن أمراً بسيطاً أن يذهب العراقيون إلى صناديق الاقتراع في انتخابات حرة بعد طول إقامة في قبضة الحزب الواحد. أقول إن سقوط صدام حسين، وبغض النظر عن الاحتلال، كان تمهيداً أو بداية لثورات «الربيع العربي». وأذكر أنه جرت تظاهرات في العراق واجتمعنا في مجلس الوزراء ووجدت رئيس الوزراء السيد نوري المالكي والوزراء قلقين واقترحوا إجراء إصلاحات، فاستمهلتهم قائلاً: أنتم ممسكون بأقوى نظام وأفضل نظام إذا عرفتم كيف تديرون العملية، وطلبت منهم أن يرصدوا ما هي مطالب الجماهير العربية وما هي مطالب العراقيين. لدينا في العراق مشاكل في الكهرباء والخدمات وسوء إدارة، لكن مشكلة الأنظمة (التي واجهت ثورات شعبية) كانت سوء الحكم، حيث الشعوب كانت تشعر أنها مهمشة لا رأي لها ولا قرار، في حين أن موقفنا في العراق قوي جداً ولدى الناس إحساس بأنهم يستطيعون التعبير عن خياراتهم من خلال صناديق الاقتراع، ودعوتهم إلى الالتفات إلى الفوارق.

> هل ترى أنه كان هناك اتفاق إيراني – سوري لإفشال التجربة الديموقراطية في العراق؟

– يجب أن نميّز، الإيرانيون كانوا يريدون إفشال الأميركيين والوجود العسكري الأميركي لا إفشال التجربة الديموقراطية، بينما السوريون كانوا يريدون إفشال الأميركيين والتجربة الديموقراطية. هم اتفقوا على الهدف الأساسي واختلفوا على التفاصيل. إيران، على عكس سورية، كانت الدولة الأولى، حين تأسس مجلس الحكم وكان بريمر لا يزال هو الآمر الناهي في شؤون العراق، التي أرسلت وفداً رسمياً من وزارة الخارجية و «الحرس الثوري» إلى مقر مجلس الحكم لتهنئة المجلس بتشكيله سنة 2003.
الأميركيون قبل الحرب تحدثوا مع الإيرانيين في جنيف أكثر من مرة وعلى مستوى مسؤولين، وتداولوا في مسائل فنية عملياتية، وموضوع الأجواء ومسائل الحدود. واستمرت هذه اللقاءات إلى أن وقعت الحرب والى ما بعد سقوط صدام. وقد عمد الأميركيون إلى قطع هذه العلاقة، وعندما سألناهم عن السبب قالوا إنه كان لديهم مجموعة من المطلوبين من «القاعدة» يعرفون أنهم موجودون في إيران، التي امتنعت عن تسليمهم.

> عند شن الحرب الأميركية على العراق هل كانت إيران على علم؟ هل كانت سورية على علم؟

– اعتقد أن إيران كانت على علم وكذلك مجموعة من الدول العربية. ونجد الدليل إذا قرأنا المذكرات التي نشرها القادة الأميركيون العسكريون والسياسيون حول ما قدمته هذه الدول.
الأميركيون أخطأوا في التعامل مع الجانب السوري، فالقيادات الميدانية الأميركية كانت تؤكد أنه لا بد من منع سورية من تقديم هذه التسهيلات (للمقاتلين) لأنهم يساهمون في قتل الأميركيين والعراقيين، واعتبروا أنه يجب أن يكون هناك رد عنيف على سورية وأن يصار إلى بعث رسائل قوية جداً إلى السوريين. السياسيون والديبلوماسيون كان لديهم رأي آخر. كولن باول زار سورية من باب الدبلوماسية فرأى السوريون في زيارته ما يؤكد أهميتهم، وكذلك بيل بيرنز (وكيل وزير الخارجية) زار سورية أكثر من مرة في محاولة لإقناعهم بمنع المتسللين والتشدد على المنافذ الحدودية وفي المطار. لمس السوريون التردد الأميركي فاستأسدوا. وكان الرئيس بشار يفاخر بأنه استقبل كولن باول ورفض الشروط التي حملها. الاتصالات الأميركية شجعت السوريين على اعتبار موقفهم سليماً.

> كوزير خارجية العراق مَن التقيت من المسؤولين الإيرانيين؟

– التقيت كل القيادات الإيرانية من المرشد الأعلى السيد علي خامنئي إلى الرؤساء محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني وأحمدي نجاد إلى قاسم سليماني (قائد فيلق القدس) طبعاً اضافة إلى وزراء الخارجية. الإيرانيون تعاملوا بذكاء وحنكة مع السلطة الجديدة في العراق ومن باب الأمر الواقع، كونهم حاولوا جاهدين إسقاط صدام بكل ما أوتوا من قوة خلال الحرب العراقية – الإيرانية وفشلوا بسبب الدعم الغربي والعربي (لصدام). وجاءت أميركا لإسقاط أكبر وألد أعداء إيران، فبالتأكيد كان ذلك مفرحاً لهم، لذلك من منطق الأمور أن يساعدوا لا أن يعرقلوا التغيير.
الإيرانيون كانوا خائفين من استمرار تواجد القوات الأميركية على حدودهم في أفغانستان وفي العراق، وكان لديهم تصور أن الأميركيين لن يغادروا العراق بل جاؤوا ليبقوا فيه، وكذلك ظن السوريون. وكنا دائماً نطمئن القيادتين الإيرانية والسورية إلى أن الأميركيين سيغادرون العراق. راجت روايات كثيرة، منها أن الأميركيين جاؤوا لوضع يدهم على النفط، وأنهم سيقيمون قواعد عسكرية دائمة على أرض العراق. حاولنا طمأنة المتخوفين لكن كانت لبعضهم مصلحة في ألاّ يصدق.
في أول اجتماع حضرته للجامعة العربية دعانا وزير خارجية مصر إلى غداء، وهي دعوة تقليدية يوجهها إلى كل وزراء الخارجية العرب المشاركين في اجتماعات الجامعة. جلست مع الأمير سعود الفيصل وفاروق الشرع وأحمد ماهر ووزير الخارجية الكويتي وعمرو موسى. وبدأ فاروق الشرع يوجه إليّ أسئلة فيها شيء من الاستفزاز. وكانت قد بدأت بعض أعمال المقاومة، فقال لي الشرع إذا قُتل للأميركيين مئة أو مئتا جندي في العراق هل تعتقد يبقون فيه؟ قلت له إنني لست في موقع التحدث نيابة عن الأميركيين ولكن أعتقد أنه لو قُتل منهم أربعة آلاف أو خمسة آلاف لن يغادروا العراق، لأن أميركا التي دخلت إلى العراق غير أميركا التي دخلت إلى الصومال وانسحبت منه بعد إسقاط طائرة «بلاك هوك»، وغير أميركا التي تعرض مقر المارينز التابع لها في بيروت لتفجير فغادرت لبنان. أميركا بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) ستبقى حتى لو واجهت مقاومة وخسرت جنوداً، فغالبية هؤلاء الجنود ليسوا أميركيين بل غرباء تم تزويدهم ببطاقات خضراء (أذونات إقامة في الولايات المتحدة)، فقال لي سننتظر ونرى. وفي لقاء به بعد سنوات ذكّرته بتلك المحادثة وكان عدد الجنود الأميركيين الذين قتلوا في العراق وصل إلى أكثر من ألف وما زال الأميركيون يعززون قواتهم في العراق.
الخوف الإيراني والسوري كان من التواجد الأميركي ومن انتقال تلك التجربة الديموقراطية التعددية إلى دول أخرى. لكن هناك فوارق في الحسابات. الإيرانيون، عكس السوريين، رأوا أن جميع مَنْ في الحكم في العراق أصدقاء لهم، من شيعة وأكراد، وعلينا أن نعاونهم ونساعدهم. السوريون كانت نظرتهم سلبية إلى كل الأمور.
المرشد علي خامنئي كان دائماً يحذرنا من الوثوق بالأميركيين، قائلاً إنهم لم يأتوا إلى العراق لمصلحتكم بل لمصالحهم الخاصة، وأنتم كقوة شعبية يجب أن تُفشلوا مخططاتهم وتكونوا أصحاب السلطة الحقيقية، وهذا التواجد الأميركي يجب أن ينتهي في أسرع وقت ممكن. هذا الموقف كان يتردد في الجلسات الخاصة والعلنية معه، وكذلك كان موقف أحمدي نجاد، وهو ذكي، وكان أول رئيس يزور العراق سنة 2007 وكنت أنا رئيس بعثة الشرف لمرافقته ونزل في مطار بغداد حين كان عندنا 170 ألف جندي أميركي، ورأى الحجم الهائل من الدبابات والأسلحة والقوات الأميركية بأم العين. الأميركيون لم يعترضوا على زيارته بعد أن أبلغناهم بهوية الضيف المرتَقب، بل على العكس رحبوا بالزيارة. واستفسر أحمدي نجاد عما رأى من قوات أميركية في المطار فقلت إن هذه واحدة من القواعد الموجودة في العراق، وهناك قواعد أضخم في أنحاء أخرى. كان متوجساً خلال الزيارة، لكننا عمدنا إلى تطمينه، وهو كان يثق بنا، وكان يمر على نقاط سيطرة للأميركيين لكن التنسيق المسبق معهم سهّل مرور الموكب. والفريق الذي كان ينسق معنا جميع أفراده أميركيون. في أحد نقاط السيطرة تم اعتراض موكب الرئيس أحمدي نجاد على جسر معلق عند خروجنا من المنطقة الخضراء، وقال لنا الجنود الأميركيون إنهم أوقفوا الموكب لالتقاط صور مع الرئيس الإيراني. فطلبت من المنسق الأميركي إفساح الطريق منعاً لأي إحراج. وأبلغت الرئيس أحمدي نجاد برغبتهم ممازحاً، فلم يمانع، وقلت له إننا لن نتركه يغادر السيارة.
الزيارة كانت جيدة، وأبدى الرئيس أحمدي نجاد رغبته في زيارة الكاظم. وفي ذلك الوقت كانت هناك تفجيرات وقتل طائفي وكانت هناك مخاوف أمنية، لكننا عمدنا إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة. وزيارة أحمدي نجاد كأول رئيس إلى بغداد بعد سقوط صدام كانت خير مؤشر إلى العقلية الإيرانية. في المقابل، الرئيس بشار الأسد لم يزرنا في بغداد رغم أننا دعوناه مرات عدة. الملك عبدالله الثاني زارنا لساعات، رجب طيب اردوغان زارنا، الأتراك قاموا بزيارتين إلى بغداد، والإيرانيون زارونا أكثر من مرة، إلى أن زارنا المسؤولون العرب لحضور القمة العربية في بغداد.

> هل لقاسم سليماني دور مهم؟

– هو من أبناء الثورة. بين الحكام الإيرانيين الفعليين، عدا القيادات الدينية، هناك حلقة من قيادات «الحرس الثوري» الذين كانوا من نواة الحرس منذ زمن، من جيل مصطفى شمران. هؤلاء كانوا مجموعة من شباب الثورة الذين انخرطوا في الحرس وفي الحرب العراقية – الإيرانية وعملوا على حماية الثورة وعملوا في المخابرات والأمن. مجموعة يعرف بعضهم بعضاً ويؤلفون حلقة، بينهم سفراء ومسؤولون مهمون. قاسم سليماني واحد منهم، ويمكن اعتباره كبيرهم. وقد التقيته قبل اجتماعات بغداد النووية وسألته إن كان لديهم جديد في الملف النووي أو أنها مباحثات لأجل المباحثات. دوره مؤثر، هو قائد فيلق القدس وهو مستشار للمرشد، الذي يستمع إليه في قضايا السياسة الخارجية، خصوصاً في ما يتعلق بقضايا العراق والخليج ولبنان، كون سليماني ضليعاً فيها، وهو يتحدث اللغة العربية بشكل جيد ولديه معرفة شخصية مع قيادات البلدان المعنية.

> هل ساهمت إيران في قتل الأميركيين في العراق؟

– بالطبع، لكنها لم تدعم «القاعدة» كما يتردد، بل دعمت بعض المجموعات الخاصة special groups، فضمن «جيش المهدي» مثلاً هناك مجموعة خاصة يتهم تدريبها وتوجيهها لتنفيذ عمليات. وسورية ساهمت بالتأكيد في قتل أميركيين وتفجير سيارات. سورية شنت حرباً مفتوحة علينا أدت عملياً إلى مقتل عشرات الآلاف من العراقيين.
ومن مصائب الدنيا أننا في 2009 عندما أردنا التوجه إلى مجلس الأمن لتحويل النظام السوري إلى محكمة دولية بعد التفجيرات التي استهدفت وزارات عراقية عدة بينها الخارجية، وأصررنا -نوري المالكي وأنا- على هذا الطلب، خالفنا رئيس الجمهورية ونواب الرئيس والبرلمان والدول العربية وأميركا. في اجتماع جنيف حيث كنا بين المدعوين مع وزراء خارجية مجلس الأمن، ذكّرتهم بتلك الحادثة، وقلت للأمين العام للأمم المتحدة إنه كان يجلس وراءك شخص اسمه أوسكار فرنانديز كنت أتمنى لو ينضم إلينا في هذا الاجتماع، فنحن في 2009 عندما أردنا أخذ النظام السوري إلى محكمة دولية لمحاسبته ومعاقبته على دعمه للإرهاب، كنا نصرخ مطالبين بتخليصنا من ذلك الإرهاب، فما كان منكم إلا أن أرسلتم إلينا فرنانديز، الذي أعد تقريراً لم يطلع عليه أحد. وسُقْتُ هذا المثل لأقول لهم إن العراق ليس في صف بشار الأسد أو في خانة دعمه، لدينا مآخذ عديدة على سورية على رغم أن بيننا مصالح أخرى، لكن ذلك موضوع آخر. نحن نخشى مثلاً أن ينتقل هذا النزاع الحالي، من حرب أهلية أو مذهبية بين السنة والعلويين، إلى العراق، فيقوم سنّة سورية بالاندماج مع سنّة العراق في المناطق الغربية.

> إذا طال النزاع في سورية هل يعزز ذلك التقسيم في العراق؟

– ذلك يعتمد على كيفية انتهاء النزاع. وبعيداً من المشاعر والشعارات، إن كانت هناك عملية سياسية منضبطة مدروسة محبوكة فلا خوف، لكن الأمر يختلف إذا لم تكن العملية مضبوطة.
في رأيي أن الوضع بعد ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا سيلزمه سنوات قبل أن يستقر. إذا أخذنا العراق مثالاً فأميركا بكل قوتها العسكرية والأمنية والاقتصادية، والأمم المتحدة والدول الأوروبية بكل ثقلها، جميعهم يساعدوننا في عملية الانتقال السياسي إلى جو معين وبعد كل هذه السنوات لم يستقر الوضع، فما بالك بليبيا؟ هل نتوقع أن يتمكن شخص كائناً من كان من تنظيم ليبيا؟ وكذلك إذا حدثت فوضى في سورية وأصبح لـ «الإخوان» والسلفيين والجهاديين و «القاعدة» مكان وملاذ. في اليمن هناك الآن معارك ومواجهات بين «القاعدة» والجيش والأميركيين.

> مَنْ من الرؤساء الذين التقيتهم استوقفك ولك معه ذكريات؟

– أنا التقيت الملك عبدالله بن عبدالعزيز أكثر من مرة والرئيس علي عبدالله صالح وأمير قطر وملك البحرين وعلاقتي مع جميع القادة علاقة احترام متبادل ويتابعون عملي ويثنون عليه. أمازح أمير قطر (السابق)، وهو مَرِح بطبعه، وأقول له إن ما يلفتني لدى المسؤولين القطريين هو أنهم يحبون عملهم، من الأمير إلى ولي العهد إلى الشيخ حمد بن جاسم.
حدث مرة جدل ونقاش مع معمر القذافي في مؤتمر القمة العربية في سرت (ليبيا) الذي سبق قمة بغداد. علاقتنا مع القذافي وثيقة وقديمة تعود إلى الثمانينات وكان يدعم المعارضة العراقية والأكراد ويمدنا بالمال. في 2004 في القمة العربية في الجزائر حضر القذافي وتوجهت للسلام عليه فرحب بي وقال: الأكراد أحباؤنا وسأل عن أحوالنا، وكان معنا الرئيس العراقي الشيخ غازي إلياور الذي توجه للسلام على القذافي، الذي بقي جالساً على كرسيه ولم ينهض للسلام. ألقى القذافي خطاباً مطولاً وتطرق إلى أوضاع العراق والأميركيين، وقال إنهم جاؤوا بأناس نصّبوهم حكاماً ومسؤولين ونعرف أن صدام كان مجنوناً لم يُحسن التصرف لكن هذا ليس مبرراً لما قام به الأميركيون، الذين نصّبوا رئيساً جَرْبَة (الرئيس من عشيرة شمَّر واسمه الكامل غازي عجيل الياور الجَرْبَة) وليس كمثل ذلك المناضل الكردي الجالس خلفه الذي قاتل وجاهد وكافح (وكان يقصدني). وقال القذافي في ذلك الخطاب إنه ليس رئيساً بل فيلسوف، والحديث مسجل.
الناس كانت تهاب القذافي ولكن نحن بحكم علاقتنا معه نعرف أن طبعه بدوي ولكن إذا واجهته يتراجع، بخلاف مَنْ كانوا يقولون له سمعاً وطاعة. ولاحظت أن كل الرؤساء والقادة العرب كانوا يحسبون للقذافي حساباً ويتفادونه في الاجتماعات ويتجنبونه حتى لا يُحرجوا. وكان هناك مشروع قرار في المجلس الوزاري للجامعة العربية أن تعقد القمة العربية المقبلة في بغداد والمفروض أن تقر القمة مشروع هذا القرار ليصبح نافذاً. ولم يحضر حينها الرئيس العراقي ورئيس الوزراء تلك القمة في سرت في 2010 لأن نتائج الانتخابات العراقية كانت ستصدر، فمثّلتُ العراق وكنت رئيس وفد العراق في القمة. شعرت أن معظم القادة يهابون القذافي بل ويتجنبون الحديث معه. خلال قراءة عمرو موسى آخر القرارات غادر القذافي قاعة الاجتماع لفترة بسيطة ومعه (أمين المراسم) نوري المسماري، عندما عاد إلى القاعة وجد الأوراق المطبوعة وفيها قرار عقد القمة المقبلة في بغداد، فاستغرب وقال: ما هذا يا عمرو؟ كيف تصوتون وتقررون عقد قمة عربية في بغداد ورئيس القمة الحالية غير موجود؟ هل نضحك على أنفسنا؟ سأخبركم عن عقد قمة في بغداد: بغداد التي ترزح تحت الاحتلال وبغداد التي كتب دستورها بريمر وهناك صراع مذهبي بين الشيعة والسنّة… أنا لن أشارك في قمة عربية تُعقد في بلد فيه قوات أجنبية محتلة.
أنا باعتباري رئيس وفد العراق من المفترض أن أرد عليه، لكن الكل دعاني إلى الهدوء. بشار الأسد وأمير قطر. فقال عمرو موسى للقذافي: هذا قرار من مجلس الجامعة يا سيادة القائد وتمكنكم مناقشته إذا شئتم، وكان موقفه سليماً معنا. رفعت يدي طالباً الحديث فقال عمرو موسى إن رئيس وفد العراق يريد التحدث، فقال لي القذافي تفضل يا زيباري، فقلت له يا سيادة القائد حديثي معك سيكون من القلب إلى القلب. إذا كان هناك من رئيس عربي قدّم دعماً ومساندة للعراق وللمعارضة العراقية من كل الرؤساء الحاليين أو السابقين، فهو أنتم. أنت الوحيد الذي مدنا بالمال والسلاح والتدريب والتأهيل وبكل أشكال الدعم، فلذلك أتعجب منك ومن هذه السلبية الحادة لقائد الثورة. سيادة القائد أسألك سؤالاً أرجو أن تجيب عليه بصراحة: أنت لن تأتي إلى بغداد بسبب وجود قوات أميركية وقواعد أميركية؟ قال بالطبع هذا السبب، فالعراق بلد عربي محتل، قلت له: السنة الماضية كنا في قطر، أليس في قطر قواعد أميركية؟ ونحن لدينا اتفاقات منظمة مع الأميركيين. رفع أمير قطر يده للحديث وقال: الأخ القائد معمر، ما يقوله زيباري صحيح، فنحن في قطر لدينا قواعد أميركية، وهذا ليس سراً، وهي موجودة وفق اتفاقات منظمة ولدينا سيادتنا. الشيخ صباح أمير الكويت رفع يده للحديث وقال: أخ معمر، في الكويت ليس لدينا فقط قواعد أميركية بل أيضاً قواعد بريطانية وفرنسية، ولكن ضمن اتفاقات تضمن سيادتنا. فعلق القذافي قائلاً: «يبدو ان الأمة العربية كلها محتلة ونحن لا نعلم». فضحك الجميع، ودار هذا الحديث في جلسة مغلقة. ثم قلت للقذافي: من غير المعقول ألاّ تحضر فالعراقيون جميعاً يحبونك ويذكرون دعمك والقمة لا تُعقد من دون رئيس القمة. لذلك لا نقبل اعتذارك، فالقمة ستعقد وأنت بالذات يجب أن تحضر. أمير الكويت دعمني، وكذلك أمير قطر، وقالا: هذا قرارنا، فقال القذافي: الله كريم، إلى ذلك الوقت.

> عُقدت القمة العربية في بغداد؟

– تأجلت القمة وعقدت في آذار (مارس) 2012. لم تعقد قمة في 2011 بسبب ثورات «الربيع العربي». لم نوجه دعوة إلى الرئيس السوري بشار الأسد لأننا التزمنا قرار جامعة الدول العربية بالمقاطعة، وحضر مصطفى عبدالجليل ممثلاً ليبيا.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

نوافذ للحوار| وزير خارجية العراق يروي لـ«الحياة» محطات من تجربته على خط الزلازل … (حاوره: غسان شربل)

 

حاوره: غسان شربل

حين عين هوشيار زيباري وزيراً للخارجية، قبل عقد، بدا كأنه كلف مهمة مستحيلة على خط الزلازل. كان بلده العراق محتلاً بلا سيادة أو قرار أو جيش. وكان الانقسام الشديد عنوان المرحلة دولياً وإقليمياً وعراقياً. ولم تستسغ بعض الجهات أن تسند إلى كردي مهمة قيادة الديبلوماسية في دولة عربية مهمة. خافت دول من أن تطول إقامة الجيش الأميركي في العراق. وخافت دول أخرى من احتمال نجاح محاولة زرع الديموقراطية فيه. وكان على زيباري أن يبادر ويشرح ويطمئن وأن يصطدم أحياناً بمن يصرون على استبعاد العراق بحجة أنه محتل.
ولأن زيباري تحول لاعباً بارزاً على المسرح الإقليمي ولأن العقد الصاخب بدأ من العراق تنشر «الحياة» حوارها مع وزير الخارجية العراقي على حلقات وهنا نص الحلقة الأولى:

> من مقاعد المعارضة انتقلت إلى وزارة الخارجية؟

– عُيِّنت وزيراً لخارجية العراق للمرة الأولى في أيلول (سبتمبر) 2003 في حكومة مجلس الحكم الذي كان آنذاك سلطة الائتلاف الموقتة برئاسة بول بريمر. وكان مجلس الحكم مسؤولاً عن تلك الحكومة التي استمرت إلى حزيران (يونيو) 2004 موعد تسليم السيادة إلى العراقيين أي إلى حكومة أياد علاوي من خلال عملية أممية أشرف عليها الأخضر الإبراهيمي. ثم عملت ضمن حكومة الرئيس إبراهيم الجعفري والحكومة الأولى للرئيس نوري المالكي وحكومته الثانية الحالية. ويُقال أنني أصبحت الآن وزير الخارجية الذي خدم لأطول مدة في تاريخ العراق.

> ما أصعب مهمة واجهتك في وزارة الخارجية؟

– واجهت عدة تحديات وصعوبات. الصعوبة الأولى كانت كوني كردياً يقود وزارة خارجية سيادية تهتم بكل العراق وليس بجزء منه وليس فقط بالقضايا الكردية. والصعوبة الثانية كانت كيفية تمثيل بلدك وهو تحت الاحتلال، فكيف يمكن أن تمثل بلداً وتدعي السيادة والاستقلال والحرية وأنت محكوم ولديك 170 ألف جندي أميركي ومن قوات التحالف. الصعوبة الثالثة كانت أنه عند سقوط صدّام حسين كان العراق دولة خَرِبة بكل ما للكلمة من معنى، في بنيته التحتية وفي علاقاته الديبلوماسية والسياسية والتجارية. كان بلداً معزولاً محاصراً مكروهاً منبوذاً حول العالم. وكان عدد سفارات العراق حينها أقل من 40 سفارة وكانت العلاقات مقطوعة مع الكثير من الدول العربية والأجنبية. وكان البلد محكوماً بعدد هائل من أحكام الفصل السابع، في ما يتعلق بالتكنولوجيا والمعرفة والمختبرات والأموال، وكنا لا نملك حرية التصرف بأموال البلد والنفط وفي التعامل مع الآخرين.
تسلمنا في الحقيقة جملة من التحديات الهائلة، هذا عدا الوضع الداخلي لوزارة الخارجية. في عهد صدام كانت وزارة الخارجية أحد مراتع الأجهزة الأمنية والمخابرات. كانت وزارة مقفلة باعتبارها وزارة أمن وطني لذلك كان جميع موظفيها إما عناصر في المخابرات أو عناصر في حزب البعث وإما من أقرباء كبار المسؤولين في الدولة. لذلك تغيير هيكلية هذه الوزارة من خلال المحافظة على نظام العمل والإبقاء على مَنْ نحتاج، مع تبديل الموظفين تدريجياً، كان أبرز مهمة داخلية. وكنت أقول دائماً إن المصالحة الوطنية في العراق بدأت في وزارة الخارجية. أقصينا عدداً من الموظفين الذين كانوا معروفين جداً كـ «وجوه قبيحة» من المخابرات وقاموا باعتداءات ضد العراقيين لكن حافظنا على الجسد الأساسي للديبلوماسية العراقية ومشينا خطوة خطوة.
وزارة الخارجية وزارة سيادية تهتم بسيادة العراق ومصالحه وتمثيله لذلك كان عليّ أن «أخفف» من هويتي العِرقية وأن تطغى عليّ الهوية العراقية فلا أكون منحازاً أو مؤيداً لحقوق الأكراد في المسائل الخلافية فأحد القضايا الأساسية في المشكلة الكردية هي مسألة السيادة، ووزارة الخارجية عليها أن توازن بين هذه المسائل، وتحدد ما هي حقوق الأكراد. هذه كانت مهمة شاقة.

> هل تقبَّلكَ وزراء الخارجية العرب بسهولة؟

– أول مهمة لي بعد توزيري في أيلول (سبتمبر) 2003 كانت حضور اجتماع مجلس جامعة الدول العربية في القاهرة بعد يومين أو ثلاثة من تعييني. وتساءلت حينها هل من حق العراق الحضور واسترداد موقعه في الجامعة أم نُبقي مقعد العراق خالياً إلى حين تشكيل حكومة في ظروف أخرى؟ فالبعض في مجلس الجامعة كان يعتبر مجلس الحكم، وما حصل في العراق، غير شرعي، وكانت هناك دعوات قوية لحرمان العراق من مقعده. قبل أن أغادر العراق سُئلت: هل ستذهب إلى الجامعة؟ أجبت: بالتأكيد، هذه أول مهمة لي وعلينا أن نحافظ على مقعدنا، كبلد مؤسس لجامعة الدول العربية علينا الحضور والمشاركة، وأن نقاتل في سبيله.
أذكر أن عدداً من السياسيين العراقيين الأصدقاء نبهوني أن المهمة صعبة وقد أحرَج فقلت هذا واجب ويجب أن يعود العراق إلى موقعه. عقدت مؤتمراً صحافياً في بغداد أعلنت فيه أن العراق سيحضر اجتماع الجامعة ولن يتنازل عن مقعده بأي شكل من الأشكال. واستقللت الطائرة إلى القاهرة ونزلنا في فندق سميراميس حيث عقدتُ مؤتمراً صحافياً أعلنت فيه وصولي إلى القاهرة للمشاركة في الاجتماع.
ليلة وصولنا عُقدت لقاءات مطولة بين وزراء الخارجية العرب تداولوا خلالها هل يسمحون للعراق بالعودة إلى الجامعة أو تُعلَّق عضويته إلى حين اتضاح الأمور؟ لكن الرأي السائد والذي للأمانة تبنته قطر والمغرب والكويت الذين أيدوا مشاركة العراق وقالوا إننا سنرتكب خطأ في حرمان العراق من عودته إلى موقعه.

> ماذا كان موقف سورية؟

– الحقيقة لا أعرف ولكن عرفت أسماء الدول التي أيدت عودة العراق في تلك الليلة الصاخبة التي استمرت فيها الجلسات إلى بعد منتصف الليل. وخابرني ليلاً كولن باول وزير الخارجية الأميركي وسألني إن كنت التقيت أحداً من المصريين من الجامعة العربية. فأبلغته أنني وصلت للتو وسأتوجه صباحاً إلى مقر جامعة الدول العربية للقاء الأمين العام للجامعة عمرو موسى وسأحاول لقاء وزير الخارجية المصري أحمد ماهر، رحمه الله. قال إن مهمتي ليست سهلة إطلاقاً وأن الأميركيين يحاولون من جهتهم دعمنا عن طريق حلفائهم وأصدقائهم، وتمنى لي حظاً طيباً.
في صباح اليوم التالي كان من المفترض أن أتوجه إلى وزير خارجية مصر ليقوم بمرافقتي إلى مقر جامعة الدول العربية. توجهت إلى الوزير ماهر وشرحت له أن وضعنا تغيَّر وأننا لسنا غرباء والعراق موقعه مضمون ومكانته، وأن العراق كان معزولاً في السابق فكان طاقة معطَّلة وأننا سنحاول أن نعيد تفعيل دور العراق. فقال لي إن علينا أن نتوجه إلى عمرو موسى في مقر الجامعة فأعربت عن استعدادي لذلك. عمرو موسى كان معه بيان من البيانات القديمة الغنية بالشعارات والمصطلحات. فقلت له إن هذا ليس مقبولاً الآن فالعراق بلد تعددي وليس جميع مواطنيه من العرب ونحن مقبلون على مرحلة جديدة مبنية على الديموقراطية والتعددية وتداول السلطة، وعليكم أن تحترموا تعددية الشعب العراقي وطلبت أن يُذكر ذلك في بيان الجامعة.
ثم برزت مشكلة كيفية دعوتي إلى حضور الجلسة. فقمت ببادرة وتوجهت فوراً إلى لقاء وزير خارجية الكويت الشيخ الدكتور محمد الصباح في فندق النيل هيلتون وهو الفندق الملاصق لمبنى الجامعة. رحب بي وكان سعيداً لحضوري وأبلغني بالجدل والنقاش الذي دار (في الاجتماع الذي عقد الليلة السابقة) والمواقف المتشددة وكيف أن موقف الكويت كان داعماً بقوة للتغير الذي حصل. وهو كان يرغب أن نذهب سوياً إلى الجامعة العربية فيكون وصولنا معاً رسالة. وأمسك بيدي وتوجهنا إلى الجامعة وكانت الصورة التي لقيت صدى عالمياً. عند وصولنا أبلغونا أن وزراء الخارجية العرب سيجتمعون أولاً ثم يطلبون مني الدخول إلى قاعة الاجتماع. فذلك الاجتماع لجامعة الدول العربية كان من المفترض أن يُدرس فيه تعليق عضوية العراق، كون هذا الكيان غير شرعي.
جلست في قاعة الانتظار إلى أن حضر موظف من مراسم الجامعة ونادوا عليّ ودخلت القاعة وأخذت مقعدي ممثلاً للعراق. رحب بي عمرو موسى على رغم أن معظم الحضور نظر نحوي نظرات الاستغراب، ربما بسبب كوني كردياً بين العرب. وكان ذلك قبل أن يصبح رئيس العراق كردياً. عمرو موسى ألقى خطابه ثم جاء دوري فألقيت كلمة حول توقعاتنا للعراق والتغييرات ودور العراق في القضايا العربية وأين سيكون العراق مستقبلاً، وتحدثت عن قضية فلسطين وعن عدوان صدام على الكويت وعن إيران وعن الخلل الذي حصل. كانت كلمتي متوازنة وربما لم يتوقعوا مثلها أبداً. بعد أن أنهيت كلمتي صفق الجميع وجاء إليّ جميع وزراء الخارجية لمصافحتي وبينهم الأمير سعود الفيصل والوزير فاروق الشرع.
لهجة الوزير الكردي
لاحقاً أبلغني بعض وزراء الخارجية العرب أنه في جلسة الليلة التي سبقت الاجتماع قيل مَنْ هو وزير الخارجية العراقي الكردي هذا؟ فقال الوزير ماهر، رحمه الله: قد يكون من المضحك أن نستمع إلى لهجته الغريبة. وبعد أن ألقيت كلمتي بلغة عربية سليمة علق الوزير ماهر قائلاً: «الله ده بيعرف عربي أحسن مننا».
والشيء بالشيء يُذكر، بعد حوالى سنتين تم تعيين وزير خارجية للسودان غير عربي وهو مسيحي من الجنوب اسمه لام أكول وعُقد مؤتمر القمة في الخرطوم وكنت موجوداً. وكان الوزير السوداني المضيف حريصاً على تنقيح كلمته لغوياً وأشاد به عمرو موسى وقال إنه أعجب بمهارته اللغوية. فقلت لعمرو موسى ممازحاً: هو أنت لسه شفت حاجة؟.
بدأت العملية بهذا الأسلوب ثم كان مطلوباً منا أن نذهب إلى منظمة المؤتمر الإسلامي بالآلية نفسها لتثبيت حضورنا، ثم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهكذا كانت عودتنا إلى المنظمات الإقليمية والدولية.

> مَنْ التقيت من القادة العرب كوزير للخارجية؟

– التقيت غالبية القادة العرب.

> متى التقيت الرئيس بشار الأسد للمرة الأولى وكيف كان اللقاء؟

– بعد تعييني وزيراً للخارجية في أيلول (سبتمبر) 2003 عقد اجتماع لدول الجوار في دمشق في نهاية الشهر.
بعد حرب الخليج الأولى في 1991 عندما وُجدت المنطقة الآمنة في شمال العراق قامت تركيا وإيران وسورية بوضع آلية واجتماعات ثلاثية بينهم حتى لا ينتقل الوضع الكردي إلى بلادهم وأن يتم احتواؤه. عندما كان عبدالله غل وزير خارجية تركيا بعد حرب العراق في 2003 توسعت هذه الآلية لتشمل أيضاً السعودية والأردن والكويت فأصبحت الدول الست المجاورة للعراق تجتمع حول الوضع في العراق. الاجتماع كان يعقد في سورية ونحن من الواجب أن نحضر فهم يبحثون مصير العراق من دون وجود ممثل عنه فطلبنا الحضور. فأجابنا السوريون أن لا دعوة لنا للحضور. السعوديون والقطريون والبحرينيون والكويتيون قالوا إنه من المفترض أن يحضر العراق بعد أن تغيَّرت الصورة فسابقاً كان صدّام يهدد الجميع وكان العراق معزولاً ولكن الآن من حقه الحضور، ومع ذلك رفض السوريون. عندها ظهرت على شاشات الفضائيات وقلت إننا لن نحضر مثل هذا المؤتمر أبداً ولن نلتزم بأي قرارات تصدر عن اجتماعات دمشق. وبعدها ظهر سياسيون عديدون بينهم جلال طالباني وإبراهيم الجعفري وأياد علاوي انتقدوا الموقف السوري وقامت حملة عنيفة على سورية.
لاحقاً عند لقائي بالرئيس الإيراني محمد خاتمي قال لي بالفارسية: إن أفضل ما فعلت أنك لم تذهب إلى ذلك الاجتماع. وكان السوريون اتصلوا بي عشية المؤتمر عارضين أن يرسلوا إليّ طائرة خاصة لنقلي إلى دمشق فقلت أنني لن أحضر إلا بدعوة رسمية توجَّه إلى وزير خارجية العراق ولم أذهب. في اليوم التالي بعثوا برسالة من دون توقيع (وزير الخارجية السوري فاروق الشرع). حتى أن وزير الخارجية الكويتي اتصل عارضاً إرسال طائرة خاصة تقلني إلى سورية فرفضت.
أقول ذلك من دون أن أنسى أن علاقاتنا مع سورية لم تكن سيئة قبل إسقاط صدام حسين. في نيسان (أبريل) 2002 توجهنا في زيارة خاصة سرية جداً إلى أميركا مع الأستاذ مسعود بارزاني والأستاذ جلال طالباني، وكانت زيارة غير معلنة، عرفنا خلالها حتمية الحرب وأن لا مجال للمناورة. لم نلتق خلال تلك الزيارة كبار المسؤولين بل الأشخاص العمليين في الدفاع والخارجية والاستخبارات والبيت الأبيض. ظهر لنا مدى حرص الأخ مسعود على العلاقات مع الدول التي كانت تتعاطف مع قضيتنا. فعند عودتنا إلى فرانكفورت قال نحن مدينون لتلك الدول التي ساعدتنا عبر هذه السنين ومن المفروض أن نبلغهم وأن نضعهم في الصورة، وبينهم سورية. واقترح الأخ مسعود أن نتوجه إلى سورية كونهم حلفاءنا وأصدقاءنا ونبلغهم أن الحرب واقعة لا محالة ليتم التفاهم والتنسيق معهم. توجهنا إلى دمشق والتقى الأخ مسعود بالرئيس بشار بحضوري، بينما توجه الأخ جلال إلى إيران.

أبلغنا دمشق باكراً

قال الأخ مسعود للدكتور بشار إننا توجهنا إلى الولايات المتحدة والتقينا مسؤولين أميركيين هناك، من دون ذكر أسماء، ونقل إليه تقديراتنا وتوقعاتنا وأبلغه أنه يبدو أن المسألة محسومة. وباعتبار أنكم حلفاؤنا، ووقفتم إلى جانبنا طوال هذه السنوات في المعارضة، أخلاقياً وأدبياً نبلغكم بهذه المعلومات وأننا نريد تغيير النظام فهذا الوضع لم يعد مقبولاً لأي أحد ويظهر أن الحرب قادمة ولا نستطيع أن نقف ضد الحرب، على العكس نحن مع التغيير ونريد أن ننسق معكم.
كانت تلك المرة الأولى التي نلتقي فيها الرئيس بشار الذي قال إن احتمالات الحرب ليست بعيدة لكنها صعبة، وربما تعقِد معكم أميركا اتفاقاً يحولكم إلى ما يشبه تحالف الشمال في أفغانستان، جماعة أحمد شاه مسعود، فيعمدون إلى تسليحكم، لكنه استبعد الحرب البرية، أو لنكن أكثر دقة لم يكن واثقاً من وقوعها مئة في المئة. لكن عبدالحليم خدام قال للأخ جلال: إذا وقعت الحرب تعال إليّ واقطع يدي اليمنى فمازحه الأخ جلال قائلاً: بل سأقطع اليسرى لأنه لن يمكنك الاستغناء عن اليمنى.
هذا كان الجو في سورية حول إمكانية الحرب لأنهم استبعدوا إرسال جيوش وحصول مواجهة. نحن قمنا بواجبنا. لكن الرئيس بشار لم يكن يتوقع أن تكون الحرب بهذا الحجم وبتلك الكثافة.
أنتقل الآن إلى حين تعييني وزيراً للخارجية كان الجو متوتراً جداً مع سورية. أول زيارة لي كانت في بداية 2004، على رغم أننا كنا نلتقي فاروق الشرع في اجتماعات ودائماً كانت تحدُث مواجهات كلامية بيننا، كانوا يتهموننا بأننا أميركيون وإسرائيليون وأننا طائفيون، شيعة وسنة وتقسيم العراق وفيديرالية وبريمر واحتلال، لكن تلك المواجهات الكلامية لم تخرج عن حدود الاحترام أبداً. وعلى مر الاجتماعات تحسّنت علاقتي بفاروق الشرع. عندما التقيت الرئيس بشار قلت له إن كل المعارضة العراقية الموجودة حالياً، وحتى إذا حدثت انتخابات، هي المعارضة نفسها التي قمتم بإيوائها وحضنتموها ودعمتموها، فالمنطق يقول إن العلاقات العراقية – السورية يجب أن تكون على أحسن ما يرام. صدّام هو الذي جاء بالأميركيين وليس نحن. نحن منذ عام 1991 انتفضنا ضد صدّام وأنتم قمتم بدعمنا بينما سمح له الأميركيون بقصفنا.
في ذلك الوقت كانت هناك معلومات عن تسريب بعض المقاتلين عبر الحدود السورية فطلبت مساعدة الرئيس بشار في مسألة ضبط الحدود والأمن، فقال لي إن الحدود السورية مضبوطة لكن يتوجب عليكم ضبط الجانب العراقي منها. فشرحت له وضعنا وأننا لم نؤسس جيشاً بعد بينما أنتم دولة مركزية قائمة. تدخل فاروق الشرع قائلاً إن لا داع لتوجيه الاتهامات ونحن نعرف في حال حصول (أي تسللات). فاستأذنت الرئيس للرد على الوزير أبو مُضَر وقلت له أنا أعرف دمشق أكثر منك وأحياءها وآلية عملها. ونعرف يا فخامة الرئيس أنكم دولة مركزية وقد تعاملنا معكم لكن أنا شخصياً كنت أمرر أجانب، بينهم صحافيون، عبر الحدود السورية بطرق غير مشروعة إلى شمال العراق، ومن دون علم وزير خارجيتك، فقط عبر التنسيق المباشر مع الأجهزة. فضحك الرئيس الأسد وقال: من الواضح أنك تعرف بلدنا أكثر منا.
علاقتي أصبحت جيدة بالرئيس بشار وكنا نتبادل النكات. في فترة من الفترات توجه جميع المسؤولين العراقيين إلى سورية فزارها الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان وقيادات أخرى وأنا لم أزرها. وأصبح وليد المعلم وزيراً للخارجية بعد أبو مُضَر وبعثوا برسائل وقال لي وليد المعلم إنه مُحرج فقلت له سأزوركم عندما تنحسر موجة زيارة المسؤولين العراقيين. وقال لي بشار الأسد أنه اشتكاني إلى المسؤولين العراقيين الذين زاروا دمشق، وأضاف أنه في جميع دول العالم وزير الخارجية هو مَنْ يحضر لينسق ويهيئ لرئيس بلده ورئيس وزرائه ليزور بلداً ما، معك أصبحت الآية معكوسة، فأجبته ممازحاً: هذا لتعرف أين مركز القوة.

حوار صريح مع الأسد

بعد فترة زرت الرئيس بشار عندما وجهت ضربة أميركية إلى هدف في قرية حدودية وكانوا قلقين جداً. قتل الأميركيون عناصر من «القاعدة» وصعّد الأميركيون لهجتهم، وكانت وقعت أحداث القامشلي وانتفاضة الأكراد (آذار-مارس 2004). كانت لدى السوريين معلومات أن قوات البشمركة ستدخل وأن الأخ مسعود أرسلهم، توجهت بصفتي وزير خارجية العراق لأقول لهم إننا لا نتدخل بهذه القضايا وإن معلوماتهم غير صحيحة إطلاقاً. بعد الضربة الأميركية تعمّدت أن أتوجه إلى سورية ولا أنسى أبداً محادثتي مع الرئيس بشار حينها. وللأمانة الرئيس بشار كان يستقبلني في كل زيارة لي لدمشق. أبلغت الرئيس الأسد بتفاصيل خلية «القاعدة» بالأسماء ورقم منزل المسؤول عنها وأنه كان يقوم بعمليات ويجند أشخاصاً وأن المكان كان نقطة عبور للانتحاريين العرب الذين كنتم تتسامحون معهم. السعوديون والليبيون والتونسيون الذين كانوا يصلون مطار دمشق لم يكونوا يُسألون عن الغرض من زيارتهم. قال الرئيس بشار لأنهم لا يحتاجون إلى تأشيرات. قلت: يتوجهون إلى الحسكة وإلى دير الزور لكن لماذا يتوجهون إلى العراق، هل هم في رحلة سياحية؟ هناك أمور واضحة وضوح الشمس ونحن لا نتهمكم ولكن هناك تسريب. عندما كنا في دمشق وكنا في المعارضة كنا نعبر الحدود وكانت لديكم أفضل العلاقات مع صدّام ومع ذلك كنتم تتسامحون معنا. فنحن على دراية بالموضوع. قلت له يا فخامة الرئيس إن بعض المسؤولين في الأجهزة لديكم يعتقد أنه مسيطر على الوضع بينما الحقيقة إنهم يمسكون الحية من ذيلها وسيأتي يوم تلدغكم فيه. لم يعجبه حديثي ولكن ذلك كان رأيي.
في كل الاجتماعات الأخرى العربية والإقليمية كنا نلتقي الرئيس الأسد. السياسة السورية لم تكن إيجابية إطلاقاً، كان عندهم مصالح مشتركة وعلاقات استراتيجية مع الإيرانيين لكن رأيهم لم يكن متطابقاً معهم في ما يخص العراق. كان هناك نوع من تقسيم الأدوار، السوريون يتعاملون مع لبنان والإيرانيون يتعاملون مع العراق فلا يتدخل السوريون فيه. أتحدث عن تفاهم سوري-إيراني غير مكتوب. لم يكونوا متفقين على كل ما يجري في العراق من دعم وتنظيمات حزب البعث والتسهيلات والإعلام المضاد. أذكر أنه خلال وجودنا في دمشق لحضور القمة العربية شاهدنا عبر الفضائيات السورية بعثيين عراقيين يشتمون الحكومة العراقية. قلت لوليد المعلم إذا لم تسكتوا هؤلاء سنقاطع الاجتماع. وتم إسكاتهم فوراً.
أذكر زيارة لي مع الرئيس جلال طالباني إلى الرئيس الأسد بعد الثورة المصرية، وقبل بدء الأحداث في سورية، بعد أن أعيد انتخاب الرئيس طالباني للدورة الثانية وشكلت وزارة جديدة حتى أن بعض الوزراء لم يكونوا عُينوا بعد، وكانت أول زيارة خارجية للرئيس طالباني إلى سورية. كانت الآمال منتعشة بتغير الوضع المصري واعتبر السوريون (الرئيس بشار وفاروق الشرع) ذلك لصالحهم وأنه إذا استعاد العراق عافيته سيمسك المحور السوري – العراقي – المصري بالأمة العربية. علاقتي مع وليد المعلم وفاروق الشرع كانت تتميز بالاحترام وتبادل الرأي. نصحتهم ألا يتسرعوا باستنتاجاتهم فالذي حصل في تونس ومصر وما بدأ في ليبيا سيؤثر على الجميع ولن يكون هناك بلد محصن. ربما كنا نحن أفضل بلد لأننا عبرنا الامتحان، لذلك لا نخاف، وكما يقول المثل العراقي «المبلل لا يخشى المطر»، وربما يكون وضعنا أقوى وضع. لم ألمس قلقاً لديهم بل لمست إفراطاً في الثقة بالنفس.
لاحقاً جاء وليد المعلم ورئيس الوزراء إلى العراق قبل أحداث درعا فسألت وليد المعلم في بداية الثورة في تونس، ونحن في طريقنا من المطار إلى بغداد: يا أبا طارق ألا تقرأون هذه الرسائل الواردة من تونس؟ لا أتكلم من موقعي كسياسي لكن كاختصاصي في علم الاجتماع أعرف أن هذه حركات شعبية اجتماعية يمكن أن تتطور إلى ثورات وإلى تغيير أنظمة فتلك ليست مؤامرات مبرمجة. وكنت وجهت ذات السؤال إلى عمرو موسى في الفترة نفسها. فقال لي وليد المعلم: هذه رسالة لنا جميعاً. عمرو موسى جاءنا في زيارة إلى بغداد خلال جولة له على عدة دول (في زيارة وداعية له قبيل انتهاء مهمته أميناً عاماً للجامعة العربية) فكنت معه في السيارة وقلت له: يا عمرو نحن مقصرون في الجامعة لا نبحث هذه القضايا، أحداث تونس مخيفة، قال: «لا يا شيخ ده نظام بن علي أكبر نظام بوليسي في العالم». قلت له حتى لو كان نظاماً بوليسياً لكن هذه ثورة اجتماعية شعبية وسترى. فقال لي عمرو موسى هذا نتيجة لسوء الإدارة وفساد الأنظمة والحكام.

> زرتم سورية غداة تنحي الرئيس حسني مبارك كيف كانت الأجواء في دمشق؟

– نعم زار الرئيس جلال طالباني سورية بعد تنحي مبارك وكنت معه. لم نشعر أن سورية قلقة. بدا واضحاً أن الرئيس بشار يعتقد أن سورية بعيدة عن تلك الأحداث وأن وضعها مختلف ولن تتأثر بالذي حصل في مصر وليبيا بسبب اختلاف طبيعة النظام ويعتبر أن الناس في سورية مرتاحة وليس هناك تهميش. كان يتصور أن الأحداث ستعطي سورية قوة إضافية وستعزز موقفها المقاوم والممانع، وأن النظام العربي السيء الذي كان يمثله حسني مبارك في مهادنة إسرائيل ومع دول الخليج انتهى. السوريون كانوا ينظرون من منظور أن العراق بدأ ينهض من جديد وله دور عربي، ومصر بعد مبارك سيكون لها دور عربي أيضاً، فالعراق وسورية ومصر بإمكانهم أن يقودوا العالم العربي وقد قال الرئيس السوري ذلك بوضوح. وحتى في ذلك الوقت كان السوريون مستائين جداً من الموقف الخليجي ومن كل مواقف الخليجيين السياسية بخصوص القضايا العربية وقضايا لبنان وفلسطين. لم يتصور المسؤولون السوريون أن عاصفة ما سمي «الربيع العربي» ستمتد إلى بلادهم.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى