نوافذ للحوار| يوسف عبدلكي: ليس في معرضي صراخ سياسي (أحمد بزّون)
أحمد بزّون
غداً يُفتتح معرض للفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي في بيروت، ويضم ثلاثين لوحة، غالبيتها مستوحاة من الأحداث السورية التي تجري منذ ثلاث سنوات، في حين يستعيد في بعضها القليل تجربته في تصوير الطبيعة الصامتة التي لا تبتعد هي الأخرى عن حالات الاستبداد والظلم. وهو المعرض الفردي الأول الذي يقيمه عبدلكي بعد خروجه من سجن السلطة السورية، ويعالج فيه بشكل أساسي معنى الموت والشهادة، مستعرضاً الحالات الإنسانية الصعبة التي يعانيها من يفقد واحداً من أفراد عائلته أو من أحبّته، ودائماً بأسلوبه الممهور بإشارات القسوة، والمنفذ بجماليات تشكيلية معروف بها، وحرفة عالية لا تخفى على العارف. معه هذا الحوار حول المعرض:
– بداية هل نستطيع القول إن هذا المعرض يحمل انطباعات السجن، كونه يأتي مباشرة بعد أشهر قليلة من إطلاق سراحك؟
– المعرض يضم الأعمال التي نفذتها بين العامين 2011 و2013. بينها أعمال على علاقة بالحدث السوري الجاري، كذلك فيه متابعة لأعمالي السابقة. السجن لم يترك أثراً في عملي. كل أعمال المعرض نفذتها قبل السجن. فأمام جسامة الحدث العام لا قيمة لتجربة السجن الفردية.
– علمنا أنك نفذت لوحات بعد خروجك من السجن. ألا تعرضها هنا؟
– نفذت لوحات. صحيح. لكنها ليست عن السجن إنما فيها متابعة لما كنت بدأته قبل السجن، خصوصاً المرحلة الأخيرة، التي تضمنت فكرة الموت والشهادة.
– تجربتك الأخيرة شكلت نقلة من الطبيعة الصامتة إلى الأشخاص والحركة ومعاناة الحرب؟
– في كل الأوضاع الحالية والسابقة، أعتبر فكرة القتل لا يمكن للعقل البشري أن يتحملها، خصوصاً القتل الذي يتم لخلاف سياسي. ولا تبرير أن يقتل شخصٌ شخصاً آخر لأي سبب سياسي أو غير سياسي. وليست صدفة أن تكون واحدة من بين الوصايا العشر، من 2500 سنة، "لا تقتل". فكرة الموت والقتل والشهادة شغلتني وشغلت وجداني، لذا أجسدها في اللوحات.
– أنت تصوّر الضحية في أعمالك، بغض النظر عمن تكون ضحية هذا الطرف السياسي أو العسكري، أو ذاك.
انحياز لسوريا
– الأعمال لا علاقة لها بالسياسة بشكل مباشر، لكنها لا تخبئ نفسها وتنأى عما يجري. أصور فيها من يسقط من الشعب السوري بسبب الطغيان والاستبداد. كنت أتمنى أن تكون مجريات الأمور عكس ذلك حتى يكون في لوحاتي فرح أكثر.
واحدة من أعمال المعرض تحية إلى ثورة 25 يناير، فيها فرح وزهو بالحياة، لكن حجم الدمار والقتل والموت في الواقع السوري لم يترك أي حيز يمكن أن يوسم بالفرح. بالتالي هناك موقف إنساني عام من تصوير القتل، طبعاً بانحياز للبلد والشعب والشهداء.
– عندما تقدم صورة العنف تقف ضد مَن اليوم. هل هي مسؤولية السلطة أم المعارضة، خصوصاً الجماعات التكفيرية، فالطرفان ينفذان أعمالاً عنيفة؟
– أعتقد أننا اليوم أمام مرحلتين في الوضع السوري تكادان تكونان منفصلتين. الأولى كانت واعدة ومبشرة، مرت في الأشهر الأولى من الثورة، وانخرط فيها الشباب والناس ليقولوا لا لاستمرار الطغيان والاستبداد والنهب وانتهاك الكرامات. كان الخارجون في التظاهرات سوريين وبأهداف سورية. بعد ستة شهور بدأ دخول عوامل إقليمية ودولية وتسليحية، فتحولت الثورة في ما بعد إلى حرب إقليمية ودولية على أرض سورية، أكثر مما هي ثورة سورية ضد النظام وتخدم أهداف الشعب السوري.
نحن اليوم أمام نظام لا يخبئ إجرامه، وأمام مجموعات سلفية لا تخبئ مشاريعها وإجرامها، وأمام كسر المجتمع وأخذه بعيداً عن أهداف ثورته. وإذا نظرنا إلى الأمور بواقعية رأينا أن غولاً ثالثاً هو غول الجوع في مناطق الاشتباكات والقتال، فالناس في تلك المناطق يُقتلون أو يهُجَّرون أو يُجوّعون.
لقد وُضع الشعب السوري اليوم بين هذه الغيلان الثلاثة. وعندما أتكلم على شهداء الشعب السوري لا أفرّق بين المجموعات المسلحة السلفية (أو غير السلفية) والنظام، فالطرفان بالنسبة إلي في موقع واحد. وبالتالي أظن أن الشعب السوري اليوم يهمه بشكل أساسي الانتهاء من هذه المجزرة التي تستمر منذ ثلاث سنوات، مجزرة الدم ومجزرة الوجود. وبالتالي بات واضحاً أن هؤلاء المتقاتلين جميعاً لا يؤمّنون له خياراته وحياته الكريمة.
العنف
– أنت تصوّر معاناة الناس من خلال هذه اللوحات. إلى أي حد تُظهر فيها معاناتك الشخصية؟
أعتقد أنه في وضع مأسوي كهذا، تشكل كل الأمور الشخصية أو المعاناة الشخصية تفصيلاً بسيطاً في المشهد العام. وأننا عندنا نشاهد اليوم معاناة ملايين الشعب السوري حيث تكون معاناة شاعر أو موسيقي أو رسام تفصيلاً صغيراً ليس له ثقل في الوضع العام. ما أعمله هو إظهار عدم تقبلي بشخصي ووجداني لما يجري من مجازر.
– أنت تصور بالسكين مثلاً عنف الخارج أو عنف السلطة والحرب، لكنك تصور ذلك بانفعال عنيف أيضاً.
– هذا مديح أم اتهام؟ (يضحك). بين مجموعة الطبيعة الصامتة التي بدأتها منذ 18 سنة، أعمال نفذتها لفترة قصيرة كان فيها شيء من الوداعة، ثم انتقلت إلى معالجة فيها شيء من الشراسة. فالأوضاع التي تسود بلادنا والعالم، لا تترك الفنان حيادياً، وبالتالي فإن درجة العنف أو القسوة الموجودة في الحياة عموماً، سواء قسوة علاقات البشر وحياتهم ومعيشتهم لا تجعلني على مسافة من تراجيديا البشر هذه. وإذا كان أحدنا على درجة عالية من الإخلاص لتجربته لا بدّ من أن يُبرز شيئاً من القسوة في عمله. وهذا ليس مغرياً للعين التي تريد مشاهدة لوحات مريحة. لم أكن لأبحث عن لوحات مريحة، كنت طوال حياتي أحاول تنفيذ لوحات فيها نظرتي إلى العالم وقسوته وإخلاصي للمأساة التي يعيشها البشر بشكل أو بآخر. وبالتالي هذا ما يجعلني أعرّج على الجماليات التي تكون بشكل أو بآخر موجودة في بطانة العمل، وإن كانت المعالجة على درجة من القسوة التي تشبه قسوة العالم الخارجي.
– لكن البعض يتحفّظون على مشاهد العنف والسكين والدم في اللوحة. ماذا تقول لهؤلاء؟
– أعتقد أن الرسام يقدم رؤيته الفردية الخاصة، وبالتالي من الطبيعي أن يكون مخلصاً لرؤيته، فمحاولة مغازلة كل الأمزجة أمر مستحيل. برأيي، مَن يحب هذا العمل على ما فيه من قسوة فهو حر، ومن يعتبر أن عياره ثقيل ولا يتقبله فهو حر أيضاً، أنا أفهم من يرفض عملي وأتقبله وأحترم رأيه ولا مشكلة معه، إنما مشكلتي في ألا أقدّم رؤيتي كما هي.
– علمنا أنك رسمت مجموعة من "الكروكيات" بعد السجن. ماذا فعلت بها؟
– غالبيتها لما تزل مشاريع، أتمنى أن أبدأ تنفيذها قبل أن تطرأ على رأسي مشاريع أخرى تسبقها وتمنعني من إنجازها.
– ماذا تقول للداخل إلى معرضك. كيف توجهه إلى مشاهدة لوحاتك، من أي منظار؟
– ليس لديّ نصائح. كل واحد يدخل بعينه وبمخزونه العاطفي والعقلي الذي يحمله. أحب أن أقول إلى الذين يأتون إلى معرضي ألا يتوقعوا رؤية أعمال فيها صراخ سياسي. على عكس ذلك، هناك تعريج على مأسوية الشهادة والخسارة الإنسانية الفظيعة بالقتل أو الشهادة. لا أحد يتوقع بيانات سياسية. لا بيانات سياسية في المعرض. فيه محاولة للاقتراب من المأساة التي هزت المجتمع السوري والمجتمعات التي حوله، وبالتالي سوف تترك بصماتها لأجيال مقبلة في سوريا والمنطقة.