نوافذ للحوار سوريا: استشراف المستقبل (حوار مع د. صادق جلال العظم)
حوار مع د. صادق جلال العظم
أجراه: ماهر مسعود
* مضى واحد وعشرون شهرًا على الثورة السوريّة، بقي خلالها الموقفُ الدوليُّ بزعامة أمريكا متردّدًا ومتشكّكًا ولا يتجاوز كثيرًا حدودَ التصريحات الشفويّة. في تقديرك، هل نشهد تحوّلًا جذريًّا في الموقف الدوليّ، والأمريكيّ بوجهٍ خاصٍّ مؤخّرًا؟ وهل حسم الأمريكان موقفهم تجاه سوريا بعد الانتخاباتِ الأخيرة؟
ـ يبدو أنّ هناك استعدادًا لتقبّل "الائتلاف الوطنيّ" [المعارض] والتوحيد العسكريِّ الذي حصل بأنطاليا. وإذا ما أثبت هذا فعاليّته فقد يعترف به الأمريكان؛ ووقتها، يمكن أن يحصل تحوّلٌ كبير. أمّا الآن فلا أرى تحوّلًا كبيرًا. هناك بوادرُ تراجعٍ أو "حلحلةٍ" في الموقف الروسيّ، ولكنْ إلى الآن لم يحدث شيءٌ ذو أهميّة.
* من خلال مشاركتك الفاعلة في حضور مؤتمرات "الائتلاف،" هل تشكّلتْ لديك رؤيةٌ واضحةٌ بأنّه أكثر قدرةً على تمثيل مطالب الشارع السوريّ من "المجلس الوطنيّ،" وأكثر قدرةً على مراعاة التوازنات والمطالبِ الدوليّة في الوقت ذاته؟
ـ ليست هناك رؤيةٌ واضحةٌ تمامًا واطمئنانٌ كامل. التاريخ من هذه الناحية مفتوح، واحتمالاتُ الفشل وعدم الإنجاز موجودةٌ. ولكنّي أعتقد أنها كانت خطوةً جيّدةً لكسب الاعترافات الدوليّة. وفي الوقت ذاته علينا ألّا ننسى أنَّ هناك جمعةً خرج الناس فيها للتظاهر تحت مسمّى "جمعة الائتلاف" – وهذا أيضًا أعطاه شرعيّةً داخليّةً مهمَّةً: فأسماء الجُمَع لا تُقرَّرُ تعسفيًّا، أو بقرارٍ فرديّ، بل بالتصويت، وهذا يدلُّ على وجود جمهورٍ كبيرٍ أراد تسمية الجمعة بهذا الاسم.
* في إطار التحوّلات القاسية التي شهدتها الثورةُ السوريّة، وأمام الجمود السياسيّ الدوليّ الذي احتلَّ الإبراهيميُّ واجهته الباردة (أو الميّتة)، ما المتوقّع أن يبقى من سوريا؟ هل سنشهد خسارةَ الثورة لأهدافها الأساسيّة، وخسارة البلد لمقوّماته الجيوسياسيّة؟ أم أنّ تجاوزَ المحنة السوريّة، وبناءَ الدولة الديمقراطيّة الحديثة، ما زالا ممكنين سوريّين قويّين؟
ـ بدايةً لا أعتقد أنّ الإبراهيميّ يحتلُّ الواجهة، بل إنّه غائبٌ ولو عن العناوين الصغيرة للصحف منذ مدّةٍ طويلة. وهو منذ أشهرٍ يشاور ويتشاور ويذهب ويجيء على أساس أن يخرجَ بأفكار جديدة، ولكنّه إلى الآن لم يخرج بشيء…
* …ما قصدته أنّ المجتمع الدوليّ وضع الإبراهيميّ واجهةً سياسيّةً، ربّما ليبرّرَ قصوره، وبقي يختبئ خلف انتظارِ ما يخرج به من أفكارٍ وحلولٍ سياسيّة.
ـ فكرة الاختباء خلف المجتمع الدوليّ ليست في مكانها. فالمسؤولون الدوليّون يقومون باتّصالاتهم مباشرةً، ولم نرهم يتصلون بالإبراهيمي كثيرًا. لكنْ لماذا يوحي سؤالط أنّ سوريا، بطريقةٍ ما، ستزول؟!
* ربّما لأنّ احتمالات التقسيم والمخاوف من حدوثه لا تزال قائمةً ويجهر بها سياسيّون في الداخل والخارج.
ـ لا ليست قائمةً! عندما وقعت الحربُ اللبنانيّة، جرى حديثٌ طويلٌ عن التقسيم. ويبدو أنّ في منطقتنا عقدةً حول هذا الموضوع. الحقيقة أنّ هناك انقسامات داخل هذه البلدان وداخل مجتمعاتها، لكنْ أن يحدث تقسيمٌ على نمطِ ونموذج سايكس ـــ بيكو فهذا خطابُ النظام السوريّ. أنا من جهتي لا أرى أننا نمشي باتجاه التقسيم، ولا أعرفُ لماذا تفترضه أنت.
* إذًا دعني أصغْ السؤال بطريقةٍ مختلفة. هل سوريا كما عرفناها أو نعرفها الآن ستبقى كما هي عليه؟
ـ هذا سؤالٌ مختلف. سوريا كما عرفناها سابقًا، ولاسيّما في جيلي أنا، أو كما نعرفها الآن، لن تبقى كما هي. سيكون هناك شيءٌ جديدٌ. أمّا ما شكله وما طابعه، فهذا متروكٌ لما يقرّره الشعبُ السوريُّ بعد الثورة. وقد تكون لدينا تصوّراتٌ أو توهّماتٌ حول الموضوع، ولكنّ ذلك لا علاقة له بالتقسيم.
أمّا بخصوص سؤالك السابق عمّا إذا كانت الثورة ستخسر أهدافَها الأساسيّة، فأظنُّ أنّ بناء دولةٍ حرّةٍ، مدنيّةٍ وديمقراطيّة، لكلِّ السوريّين، يعدُّ جزءًا مهمًّا من مطالب الثورة. وإذا كانت الثورةُ ستوصلنا إلى صناديق الانتخاب، فأنا أعتبر أنّها نجحتْ. أمّا ما ينتج من صناديق الاقتراع فهنا يصعبُ التنبُّؤ، ولكني لا أتوقّع أن يحدثَ في سوريا ما حدث في تونس ومصر من اكتساحٍ انتخابيٍّ للتيّارات الإسلاميّة.
* إذًا ما الذي تتوقّع حدوثه في سوريا؟
ـ أول ما أتوقّعه هو حدوث شيءٍ من الفوضى، واحتمال أن تجري تصفياتٌ وانتقاماتٌ. ثقافة الانتقام في مجتمعنا، كما تعلم، قويّةٌ جدًّا، ولن أفاجأ إنْ مررنا بمرحلةٍ قلقةٍ من هذا النوع لفترةٍ من الزمن، ريثما تستقرُّ الأحوالُ في سوريا وتجري انتخاباتٌ جديّةٌ وحرةٌ.
* هل ترجّح انتقال الصراع السوريّ إلى خارج سوريا؟
ـ لننظرْ إلى تاريخ الصراعاتِ والحروب في المنطقة: الحرب العراقيّة ـــ الإيرانيّة، احتلال الكويت ثمّ تحرير الكويت، الحرب اللبنانيّة، احتلال العراق وإطاحة صدّام. كلُّ هذه الصراعات كانت تُحصر في مكانها. أعتقد أنّ الوضع في سوريا لا يختلف عن جملة الحروب والصراعات التي مرّت بها المنطقةُ في الخمس والعشرين سنةً الأخيرة ولم يُسمح لها بأنْ تتمدّدَ نحو الخارج. ومجيءُ الباتريوت على الحدود التركيّة مؤشّرٌ في هذا الاتجاه: فحتى لو سعى النظامُ السوريُّ إلى أن يمدَّ الأزمة نحو الخارج أو يورّطَ الخارج، فلا أعتقدُ أنه سيُسمح له بذلك.
* بوصفك مفكّرًا يعيش في الغرب ويُدرِّس في جامعاته منذ عقدٍ ونيّف، كيف تفسّر موقفَ الغرب الذي ينظر (في أحسن حالاته) إلى حلِّ الأزمة السوريّة من منظار المحاصصة الطائفيّة؟ هل سنعود إلى أطروحة إدوارد سعيد عن أنّ سياسة الغرب، ولاسيّما أمريكا، تجاهنا ترتكزُ على الاستشراق، ولا بدَّ لتغييرها من مواجهة الاستشراق والتوجّه بخطاباتٍ مختلفةٍ إلى النخبة السياسيّة وصنّاع السياسة هناك؟ وهل تعتقد أنه يمكن، في بلادٍ مثل بلادنا (العراق وسوريا ولبنان)، تفادي شيءٍ من المحاصصة؟
هذا ما نطمح إليه في سوريا على الأقلّ!
ـ ولكنْ إذا أردتَ أن تشكّلَ مجلسًا نيابيًّا أو وزارةً، فيجب أن يكونَ هناك علويٌّ وإسماعيليٌّ ومسيحيٌّ وكرديٌّ وتركمانيّ وو… ولذلك لا بدّ أن تأخذَ شيئًا من المحاصصة إلى أن نصلَ إلى وضعٍ نتحوّل فيه كلّنا إلى مواطنين (citizen) بغضِّ النظر عن تلك الخلفيّات. إنّ تجاوز المحاصصة بالمطلق مسألةٌ غير مفيدة. يمكن طبعًا أن تكون محاصصةً بطريقةٍ فجّةٍ على الطريقة اللبنانيّة؛ ولكن يمكن أن تكون أكثرَ رهافةً، وهذا ما أرجو أن تقدّم سوريا نموذجًا عنه.
عندما ينظر إلينا الغربُ يرانا "موزاييك،" ونظرتهم هذه ليست من دون أساسٍ واقعيّ. الآن نعترفُ ونقول "مقوّمات الشعب السوريّ أو العراقيّ،" و"الشعب العراقيّ أو السوريّ بكلِّ أطيافه." أمّا هم فيرونه "موزاييك" ولا بدَّ من ترتيبه بطرقٍ معيّنة. وعندما يكون أصحابُ الموزاييك أنفسهم لا يعرفون كيف يرتّبون أحوالهم، فكيف نتوقّع من الغرب أن يرى عكس ما يراه؟
* ولكنْ ماذا عن فكرة "حماية الأقليّات" التي يتمُّ التركيز عليها منذ بداية الثورة بوجهٍ خاصّ؟
ـ عندما يتكلّم الغربُ عن حقوق الأقليّات وحمايتها، فأنا أراه شيئًا مزعجًا لأنّه أ) يذكّرنا بالقرن التاسع عشر وما سُمّي وقتها "المسألة الشرقيّة،" حيث كانت كلُّ دولةٍ هناك تجد لها أقليّةً أو طائفةً هنا وتتعامل معها على أنها حاميتها. ب) وهو يُظهر وكأنّ الأكثريّة، التي هي سنيّةٌ في حالنا، تنتظر فقط اللحظةَ المناسبة لكي تفتكَ بأقليّات سوريا ـــ وهذا غيرُ صحيح. كما أنّ سوريا كلّها، في الوضع الحاليّ، تحتاج إلى حماية، وسوريا كلّها ـــ الأكثريّة كما الأقليّة ـــ تريد حقوقًا. وعلينا ألّا ننسى أنّ المناطق التي دُمِّرتْ هي مناطق الأكثريّة، وأنّ الذين تشرّدوا جميعُهم تقريبًا من الأكثريّة، والذين هاموا على وجوههم خوفًا من الدمار والقنابل والمدافع هم من الأكثريّة. وهنا لا بدَّ من الخوف على حقوق الأكثريّة أيضًا، لا على حقوق الأقليّات فقط. ومرّةً أخرى، سوريا كلّها يلزمها حقوقٌ ويلزمها حمايةٌ. ونحن لا نريد في سوريا الجديدة أيَّ امتيازٍ، أكان لأكثريّةٍ أمْ لأقليّةٍ أمْ لطائفة. وما نطمح إليه هو أن نصبحَ جميعنا مواطنين متساوين في المواطنة. ولو حقّقنا ثلاثين في المئة من هذا الأمر، فسنكون قد خطونا خطوةً كبيرةً إلى الأمام.
أمّا الإجابة عن الشقّ الثاني من سؤالك، والمتعلّق بالاستشراق، فأقول: الاستشراق ليس هو من يصنعُ السياسة. السياسةُ مصالحُ حيويّةٌ وعلاقاتُ قوةٍ، والاستشراق يخدم هذه السياسةَ ويخدم هذه المصالح وليس هو من يصنعها. الاستشراق قد يكونُ خادمًا لها أو يساعدها أو ينقدها أو يصوّبها، ولكنه لا يصنعها. ولذلك لا أعتقد أنّ توجيه خطاباتٍ مختلفةٍ إلى النخبة السياسيّة الأمريكيّة قد يغيّر في سياساتها.
* في محاضرةٍ لك حول الإسلام والعلمانيّة (نُشرت في كتابٍ حمل العنوان ذاته) تحدّثتَ مطوّلًا عن "نعم" تاريخيّة تجعل الإسلام قابلًا للعلمانيّة، وعن "لا" صراطيّة وغير تاريخيّةٍ تجعله غيرَ قابلٍ لها. ما الذي ينتصر اليوم في الثورة السوريّة؟ وهل بمقدور العنف الذي يمارسه النظامُ ضدَّ المجتمع ذي الغالبيّة السنّيَّة أن يقلبَ معادلة "النعم" التاريخيّة نحو "اللا" الصراطيّة؟
ـ أولًا: ما قلتُه يجب أن يؤخذَ على موجةٍ تاريخيّةٍ أطول. فأردوغان مثلًا هو انتصارٌ "للنعم" التاريخيّة ولكنْ على مدى ثمانين عامًا. ولذلك لا يصحُّ التطبيقُ السريعُ على حدثٍ مفردٍ كالثورة السوريّة لمعرفة ما إذا كانت "النعم" التاريخيّةُ هي التي ستسود أم "اللا" الصراطيّة. في ذلك المقال ذكرتُ أنّ "النعم" التاريخيّة هي التي سادت عبر التاريخ العربيّ الإسلاميّ على الرغم من بعض النكساتِ والصراعات. ولا تنسَ أنّ تركيا باتت نموذجًا، وأنّ الإسلاميّين في العالم العربيّ يحاولون تقليد تركيا. انظرْ إلى الأحزاب التي يشكّلونها (حزب العدالة والحريّة في مصر اليوم). ثم ألا يشكّل تخلّي الإخوان علنًا عن خطابهم التقليديّ، حول "استعادة الخلافة" و"القرآن دستورنا" و"التطبيق الفوريّ للشريعة،" تأكيدًا لفاعليّة النعم التاريخيّة وتأثيرها المستمرّ؟ ألم يعلن حزبُ النهضة في تونس أنَّ إسلامه سيكون معتدلًا على طريقة الإسلام التركيّ؟ صحيح أنه من المبكّر الحكم على هذا الخطاب الذي قد يطبَّق أو لا يطبَّق، ولكنْ دعنا نرَ مصر التي بدأت تتّضح فيها الأمورُ أكثر. فمن كان يرى أنّ مصر لا يوجد فيها سوى سلفيّين وإخوان مسلمين وأصوليّين، تبيّن له أنّها مصرٌ أخرى. إنَّ مصر الآن هي "مصرُ النعم التاريخيّة،" وهي ترفض الدكتاتوريّة التي بدأ مرسي يخلقها لنفسه.
* وماذا عن العلمانيّة وموقعها في بلادنا ـــ أقصد العلمانيّة بوصفها حيادًا إيجابيًّا للدولة؟
ـ العلمانيّةُ هي ضرورةٌ لتجنّب الأسوإ. لنأخذِ العراق نموذجًا: ما الذي يمنع نوري المالكي من أن يعلنَ العراق ولاية الفقيه؟ أظنُّ أنّ ما يمنعه هو معرفته بأنّ إقدامه على خطوةٍ كهذه سيدفع البلادَ إلى حرب أهليّة. معنى "علمانيّة الدولة" هنا هو أنّه لا يصحُّ أن يسيطرَ التشريع الشيعيُّ أو السنيُّ عليها. العلمانيّةُ في ما يخصُّ العراق تعرَّف على الأقلّ بسالبين، "لا أنتم ولا نحن." وهذه العمليّة ستكون أفضل في سوريا: فهنا، خلافًا للعراق الذي تعدُّ الأقليّةُ السنّيّةُ فيه كبيرةً جدًّا، يوجد تنوّعٌ أقلويٌّ واسعٌ. ومعنى العلمانيّة هنا هو ألّا تستطيعَ فئةٌ من فئات المجتمع، أقليّةً كانت أو أكثريّةً، أن تفرضَ برنامجها أو شرعها على أطياف المجتمع كافّةً.
* هل ترى إمكانيّةً في سوريا لأن نضع قوانينَ علمانيّةً من نوع قانون الأحوال الشخصيّة أو أن نحدّد دينَ رئيس الجمهوريّة؟
ـ مسألة دين رئيس الجمهوريّةِ هي في الأصل حلٌّ وسطٌ. أما في ما يخصُّ قانونَ الأحوال الشخصيّة، فمن الصعب جدًّا التطرّق إليه لسببٍ تاريخيّ معيّن. فالعاملون في المؤسّسة الدينيّة ووزارة الأوقاف كانوا في السابق يسيطرون على التعليم والقضاء وعقيدة الجيش، وعلى الإعلام بأشكاله القديمة عبر خطبةِ الجمعة وغيرها. وهذا كلُّه فقدوه، ولم يتبقَّ لهم إلّا قانون الأحوال الشخصيّة، أي الزواج والطلاق والإرث الخ.. فتشبّثوا به إلى أبعد حدّ، وراحوا يدافعون عنها بمنتهى الشراسة، ولسانُ حالهم الضمنيُّ يقول: "أخذتم منّا كلَّ شيء، فاتركوا لنا هذه المسألة على الأقلّ."
* تعيد أزمةُ اليسار، السوريِّ والعربيّ والعالميّ، وانقساماتُه تجاه الثورة السوريّة تحديدًا والربيع العربيِّ عمومًا، إلى الذهن أزمةً عاشها اليسارُ في الغرب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول والحرب على العراق. فما هو تقويمك لموقف اليسار خلال الثورة ودوره بعدها؟
ـ بعد نهاية الحرب الباردة، تشظّى اليسار كثيرًا، وبات من غير المفيد الكلامُ عنه وكأنّه جبهةٌ واحدة. واليسار العربيّ، تحديدًا، انقسم، والقسمُ الأكبر تحوّل من المطالب التقليديّة للأحزاب الشيوعيّة أو الاشتراكيّة إلى برنامج مجتمعٍ مدنيٍّ، بمعنى الدفاع عن الحقوق المدنيّة والتنوّع والتعدّديّة الخ. إذن، اليسار تراجع إلى خطّ الدفاع الثاني؛ فما دام الكفاحُ من أجل الاشتراكيّة فشل مع انتهاء الحرب الباردة، فما الذي بقي لليسار كي يدافعَ عنه سوى القيم الكلاسيكيّة، قيمِ المجتمع المدنيِّ والحريّات المرتبطة به؟ ولكنْ بقي قسمٌ صغيرٌ من اليسار على حاله قبل الحرب الباردة، وذهب باتجاهٍ شبيهٍ باتجاهات "القاعدة،" على طريقة "الألوية الحمراء" في إيطاليا، و"العمل المباشر" في فرنسا، و"بادر ماينهوف" في ألمانيا في الربع الأخير من القرن الماضي. صحيحٌ أنَّ تطرف هذا القسم كان في بعض الحالات نظريًّا، ولكنه في أحيانٍ كثيرةٍ تحوّل إلى برامج عملٍ، فانضمَّ العديد من عناصره إلى تكتّلاتٍ مقاتلةٍ على أساس أنّها تقاتل الإمبرياليّة. وهذا النوع من اليسار "الأرثوذكسي" هو الذي لم يقف مع الثورة في سوريا، وهو موجودٌ في أوروبا كما في العالم العربيّ.
* ولكنْ ماذا عن اليسار السوريّ الذي شكّل العديد من الهيئات السياسيّة والتجمّعات، على طريقة "هيئة التنسيق الوطنيّة" مثالًا لا حصرًا؟
ـ أعتقدُ أنّ تلك الكتلة الكبيرة من اليسار تتضمّن من هو أكثرُ اعتدالًا، ومن هو أكثر تشدّدًا. لكنْ علينا ألّا ننسى أنّ الانتماء الطائفيّ داخل سوريا أدّى دورًا مهمًّا في الوقوف إلى جانب النظام أو ضدّه؛ وأنّ جميع المناطق التي دُمّرتْ تقريبًا كانت مناطقَ سنيّةً!
ما أريدُ قوله بكلامي هو أنّنا نتجنّب العاملَ الطائفيَّ في خطابنا الرسميّ، ولكنْ بلحظةِ صراحةٍ علينا أن نعترف بأنّ هناك عنصرًا طائفيًّا قويًّا يؤدّي دورًا مهمًّا في الثورة السوريّة. قضيّة الاتجاهات الإسلامويّة للثورة باتت جزءًا من اللعبة الطائفيّة: لعبها النظامُ أولًا، ثم بدأتْ تلقى ردودَ فعلٍ في أوساط الثورة ذاتِها وأوساط الشعب. فالتركيزُ على ضرب المناطق السنيّة بهذا الشكل سيجلبُ ردود فعلٍ، والبادئُ أظلم!
* ما هو الدور الذي يمكن أن تؤدّيه قوى اليسار ما بعد الثورة وسقوط النظام؟
ـ ما بعد الثورة، إذا أصبحتْ هناك ديمقراطيّةٌ، سيكون في المجتمع كما أظنّ ما يسمّى بالإنكليزيّة checks and balances: أيْ توازنات يكبح بعضُها بعضًا، وتمنع حدوثَ طغيان طرفٍ أو مؤسّسة، مثل المؤسّسة العسكريّة. وهنا أعتقد أنّ القوى اليساريّة ستؤدّي دورًا ضمنَ هذه التوازنات. كما أتوقّع أن تدخل الرأسماليّةُ السوريّة والبرجوازيّة السوريّة على الخطِّ بقوةٍ عندما تنتهي الثورةُ وتبدأ عمليّة إعادة الإعمار. ودورُ اليسار هنا قد يكون في الدفاع عن حقوق العمّال والشغّيلة الذين قد يُستغلّون في ظروف كهذه، إذ من الجائز أن تجدَ "رفيق حريري" أو اثنين أو ثلاثة في سوريا…
* تقصد "الحريري" كرأسماليّ، أمْ كممثّلٍ لطائفةٍ أيضًا؟
ـ لا طبعًا كرأسماليّ. ولكنّي أظنُّ أنّ معظم البرجوازيّة التي ستأتي ستكون سنيّةً. فمعظم أصحاب الرأسمال الكبير هم سنّةٌ في حلب ودمشق، ولكنّهم سنّةٌ معتدلون؛ إسلامهم هو إسلام "البيزنس" لا إسلامٌ محاربٌ أو يريد اضطهادَ الأقليّات. إنه إسلامٌ يريد وضعًا مستقرًّا لكي "تمشي" شؤونهم ومصالحهم.
* لا ترى أيّ دورٍ سياسيٍّ قياديٍّ لليسار التقليديّ ما بعد الثورة؟
ـ لا أرى أيَّ دورٍ قياديّ، لا لليسار التقليديّ ولا غير التقليديّ. وحتى يعود لهم هذا الدور القياديُّ قد يطولُ الأمر كثيرًا.
* ما هو مدى تفاؤلك بنجاح الثورة السوريّة كنقلةٍ تاريخيّةٍ تعيشها سوريا؟
ـ أنا متفائلٌ على العموم. وكما قلتُ سابقًا فإننا عند نقطةٍ معيّنةٍ سنصل إلى صندوق الانتخاب، وسيصلني حقّي كمواطن. أيُّ ثورةٍ تحمل مخاوفَ على المستقبل، وعلى القوى التي ستفرزها. ولكنْ في سوريا يبدو لي أنّ الثورة تفرز قياداتٍ جديدةً وشبابيّةً، على العكس مثلًا ممّا حصل في لبنان حيث بقي الذين قاموا بالحرب بعدها (آل الجميل وآل شمعون وآل جنبلاط والأسماء المعروفة الأخرى). ومن الطبيعيّ أن يحصل بعد انتصار الثورة نوعٌ من الانتخاب الطبيعيِّ للأصلح. كما أنّ الثورة السوريّة إلى الآن "تقلّع شوكها بيديها"؛ ففي حين أتت المعارضة العراقيّة مثلًا بالأمريكان لكي يزيحوا صدّامًا، تخوض الثورة السوريّة معركتها ضدَّ الطغيان بقواها الذاتيّة، مع أنها بحاجةٍ إلى مساعدة الخارج، لأنه كلّما طالت الأزمة تحقّق الأسوأ.
* هل ترى أننا نستفيد من التجربتين المصريّة والتونسيّة؟
ـ بالطبع. وربما نستفيد من مصرَ أكثر لأنّ العلاقات معها، تاريخيًّا، كانت قويّةً ومتشابكةً. وأرجو أن يتعلّم الإخوانُ المسلمون والجماعاتُ الإسلاميّة [في سوريا] درسًا ممّا يحصل في مصر، لأنّ محاولتهم احتكارَ السلطةِ أو القفزَ على مراكز الدولة ستؤدّي إلى ردود أفعالٍ شبيهة [بما يحصل ضد الإخوان هناك]. إنّ جوعهم إلى السلطة هو الذي جعل شخصًا كمحمد مرسي يعلنَ ذاته "معصومًا" لا أحدَ يسائله أو يناقش قراراته!
* وماذا بالنسبة إلى العامل الخارجيّ؟
ـ في تاريخ الشعوبِ لا يستطيع الشعبُ وحده دائمًا إطاحةَ الطغيان. بول بوت مثلًا كان مجرمًا كبيرًا، ويُضرب المثلُ بما فعله بالشعب الكمبوديّ، ومَن أطاحه هو الجيشُ الفيتناميّ. وكذلك في اليمن؛ فلو لم يرسل عبد الناصر الجيشَ المصريَّ إلى اليمن لما كان للجمهوريّة اليمنيّة على الأرجح أن تعيشَ، ولاستمرّ الوضعُ المهلهلُ السابقُ على حاله. كذلك الأمر في ما يخصُّ عيدي أمين، وهو أيضًا طاغيةٌ مرذول: لم يستطع الشعبُ الأوغنديّ أن يطيحه، فأطاحه زعيمٌ إفريقيٌّ من زعماء النضال ضدَّ الاستعمار والاستيطان اسمُه نايريري، رئيسُ تانزانيا، وقد دخل بجيشه ليزيحَ الطاغية عيدي أمين.
ولذلك فإنّ سوريا، من هذه الناحية، ربّما كانت محظوظةً بإرادة شعبها لأنّها وصلتْ إلى هذه المرحلةِ بقواها ومواردها الداخليّة، مع شيءٍ من المساعدة الخارجيّة؛ في حين أنّ ثمّة حالاتٍ كثيرةً في العصر الحديث لم يستطع الشعبُ فيها أن يتخلّص من الطغيان إلّا بمساعدةٍ خارجيّةٍ مباشرةٍ على طريقة ليبيا.
مجلة الآداب اللبنانية