‘نوبة رجوع’ .. أنشودة للحياة وللوطن (سعيد رمضان على)

 

 سعيد رمضان على

انتصار عبد المنعم، واحدة من أهم الأصوات النسائية بين الكتاب بمصر، ونشاطها يتسم بطابع نقدي، نظرا لاهتمامها بالتناقضات الأخلاقية، للمجتمع المصري.
هي كاتبة تكتب بعشق، كما تكتب بثورة، رافضة أي انصياع للرداءة، وهي تصنع دائما بكتاباتها، مسارا مختلفا….. ثوريا؟ ربما ..لكنه مسار من يريد أن يسير فيه، ينبغي أن يكون مناضلا، ضد كل ما هو قبيح وعفن ومقيد للإرادة، باحثا في الوقت نفسه، عن القيم التي فقدت، وعن الإنسان الذي ضاع بالقهر.
هي هنا، بمجموعتها، تحكى قصصا، ترمز الى الهزائم والانكسارات، التي عصفت بالقيم والكرامة الإنسانية، ومن خلال أسلوب لا يجنح للشفقة، تقدم نقدا قاسيا للواقع .
* الرمز في معانيه الانسانية
كل كتابة أدبية من طراز رفيع، تحمل رمزها – أو رموزها – الذي يمتد بأعماق العمل، مما يضفي عليه بعدا إنسانيا اجتماعيا، و"فى نوبة رجوع"، يطالعنا رمز القهر، في كل قصص المجموعة. لكنه قهر لا يشترط حصره في البيئة المصرية.
هو قهر إنساني، يتجاوز المكان، ومن خلال إطلاق المخيلة، يمكن تأويل القهر، تبعا لشروط البيئة التي يعيش فيها القارئ. ومن القهر الممتد بجذوره في كل خلايا القصص، نفهم لماذا اختارت الكاتبة عنوان القصة السادسة "نوبة رجوع" ليكون عنوانا للمجموعة.
و"نوبة رجوع" قصة تتحدث عن الهزيمة والضياع في 67، والقهر الواقع على الجنود الذي امتد ليشمل مجتمعا بأسره. قهر امتد عقودا من الزمان، حافرا جراحات عميقة نتيجة التراكمات التي أنهكت جسد الشعب المصرى، وما دوي البوق أو أنينه سوى بداية دوى نوبة طويلة، لتراجع الوطن كله على كافة المستويات.
(سمعنا من ينفخ في البوق نوبة رجوع فانتفضنا نبحث عن أشلائنا المختلطة. مشينا في الصحراء نتتبع صوت البروجي الذي مازال يطلق أنينه في نوبة رجوع باهتة الألوان(.
تتجسم أمامنا مرحلة تاريخية مهمة، تؤرخ لبداية الانكسار، وما المقاطع السابقة ومثيلاتها داخل القصة، سوى وحدات، تستمد تلميحاتها من وقائع حدثت في التاريخ المصري، وتجسد حالة معاشة في حقبة معينة، لكن هذا التجسيد لا يتوقف عند تلك الحقبة، فالكاتبة لا تؤرخ لتاريخ، فالنص ينقلنا من حالة معاشة في حقبة الى حالة نعيشها في الحاضر: فمثلا في المقطعين:
" نواصل التقهقر حتى عدنا لنفس المكان الذي رشف دماءنا".
" مازال صوت البوق يئن في نوبة رجوع طويلة يبحث فيها عن أروحنا التي ترفض العودة".
ولنتأمل وضعنا الحالي: ها نحن "نواصل التقهقر" ولا يزال صوت البوق يئن في نوبة رجوع طويلة" .. فالإنجاز الذي تم مقابل الانتصار هو الضياع، والتضحيات سلبت، والمثل العليا انتهكت. وفى قصة "غربة" ، أولى قصص المجموعة، يسرد النص :
"عيناك تلاحقان خطوتك المتقهقرة نحو ماض تلتمس فيه صورة لوجه أحبك"
فهو يحاول العودة بالتخيل إلى الحياة الحقيقية التي عاش فيها محبوبا، في محاولة لإعادة ترميم ذاته ونفي حالة الغربة عنه:" وتبتسم لفتاة تمر بجوارك".
لكن الفتاة لم تبادله الابتسام، ولم تمنحه العزاء ولا السلوى، مما يزيد من ضغط الغربة التي تلاحقه وتقهره:
"تحتوي غربتك في قلبك الفارغ وتقف في صفوف المنتظرين. وحينما يجيء دورك تكون فقدت ذاكرتك. يشيرون إليك، فلا ترى وجوههم فهم غرباء مثلك".
"تحمل في يديك شهادة ميلادك وصور أطفالك. تلوذ ببسماتهم الخابية ترمم جوانب روحك المتشظية. يعاودك صدى ضحكة لك معهم".
والحنين إلى الحب والأولاد والضحكة، يعني الحنين إلى الجذور، والجذور ترتبط بالأرض، فهو في شوق وجداني للارتباط بها, والعودة إلى جذوره ونفي حالى الاغتراب عنه. لكنه منفي في وطنه بلا أهل ولا رعاية ولاحب. يعيش على قارعة الطرقات بلا علاقات إنسانية .. حتى الكرامة فقدها .
وفي قصة "انتقال" يستمر القهر والضياع:
" انتهوا منك. أخذوا كل ما لديك وأعطوك ما يسترك. جاء من كنت تترجى قدومه واجتمع لديك من لم يطرق بابك منذ أعوام. يتجولون في أركان بيتك. يستبيحون غرفة نومك، ملابسك، كتبك. تسمع ضجيجهم الحزين.
يصمتون وتتحدث عيونهم مع أموالك، يحصونها، يقتسمونها، يشترون قصورا، يتزوجون أبكارا".
انه تأبين للإنسان، وظهور العالم المادي المدمر للقيم الروحية، قاهر الكرامة الإنسانية، والمجرد من أي أحاسيس أو شعور، مما يدفع الإنسان الى الانطواء على نفسه خوفا من الآخر. لكنه أيضا كبطل قصة غربة، لديه شوق عميق للعودة لجذوره وهي الأرض، في محاولة لنفي الاغتراب والحصول على ظل من الكرامة.
وفي قصة "الممر" نواجه قصة، تبعث فينا نوعا من السحر، ذلك الذي يماثل قراءة قصة من ألف ليلة وليلة، لكن العناية التي توليها الكاتبة للكلمات، تؤكد على واقعية القصة، حيث يطغى الإيمان بالخرافات والأوهام، في المجتمعات المتخلفة والمقهورة.
ويبدو أن عنوان النص (الممر)، هو العمود الثقافي الذي يبدأ منه الدخول لهذا النص. فالممر طريق ما بين جهتين، ويرمز الى ممر آمن يؤدى الى النور، كما يرمز إلى الدخول لعالم الظلام.. والظلام له أهميته الخاصة .. فالأحداث تجري في بيئة سيطر عليها الظلام والعمى، وطغيان الظلام على المجتمع يؤدى الى علاقات مجتمعية ممزقة. وفي الظلام الذي يبتلع كل نور .. يتحول العالم إلى عالم بلا مبادئ ولا قيم ولا معنى.
وهنا تتضمر الرغبة في الخلاص بالعنوان (الممر) انه مطلب نفسي عميق من الكاتبة ناحية النور.. نور العقل البشري، لكنه مطلب شروط تحققه غير متوفرة وترى الكاتبة – تبعا لتأويلي قصتها – انه لا يمكن تحقيقه في مرحلة تسيطر عليها الغيبيات، ومجتمع يطغى عليه القهر، وهي عوامل هادمة، فتختم القصة بموت معنوي انتظرهم في نهاية المطاف.
أما قصة "موج" فهي غارقة في الرمزية، لكن تأويلي لها يتحرك في منطقتين.. المنطقة الظاهرية وهي منطقة البحر سطحا وأعماقا، والمنطقة غير الظاهرة للآخرين. وهي منطقة الحياة بصخبها وطمعها، لكن ذلك لم يغير من دلالية العنوان "موج". إذا ظل مرتبطا بالمنطقتين، لأننا عندما ننتقل للمتن سنجد إننا أمام صراع حقيقي يمكن وصفه بالطمع والمقطع التالي كاشف :
" يخلعون عنهم ثيابهم المهترئة ويمنحونهم زعانفا وقشورا. ينهمكون في جمع اللؤلؤ. يتنازعون، يختلفون على اقتسام الحوريات فيما بينهم. تستقر بجانبهم ويعلوها الصدأ. يجيء زوار جدد. تسألهم عن نور الشمس، فلا يجيبون. ويطالبون بإعادة إقتسام الحوريات ."
يبدو أن نور الشمس هنا يحتل القوة القاهرة، فعدم أجابتهم عن نور الشمس، أدخلتهم الى منطقة الظلام والموت، فنحن هنا بإزاء الإنسان قاضيا ومجرما ووحشيا. إنسان يعيش في زاوية مظلمة، لا يحاول استشراف قبس من ضوء في ظلام حياته المخيف، يعيش عالما تسيطر عليه الوحشية التي باتت تعيش على المادة متغلبة على الروح، قاضية على الحب بالموت.
وقصة "شاهد" تحيل لشاهد القبر من الرخام، وهو ما يبدو ظاهرا في القصة، لكن القصة تحوى وقائع جريمة، أو هي شاهدة على وقائع جريمة، فالعنوان يحوى الظاهر والمبطن.
فمن المفترض أن يقوم الأحياء بعمل شواهد قبور للإحياء، لكن هنا الحي يصنع شاهدا لنفسه، ينتهي بعد موته بإهمال وضعه على قبره.
إنسان بدون اسم عاش مغتربا في بلده، محكوم عليه بالعزلة والوحدة، وفي النهاية تحول قبره ليكون مجهولا بلا شاهد عليه، وكما عاش مات ودفن .
إنها قصة تحوي اتهاما قاسيا لمجتمع لم يعد يملك ضميره. والشاهد الذي لم يوضع على القبر تحول ليكون شاهدا على مجتمع بلا إنسانية .
القصة تضم طائفة من التعاملات عن الحياة والموت، وقلب بطلها يخفق بالأمل المعذب أبدا، حتى وهو تحت الثرى.
وفي قصص، خطيئة الأحلام وعندما يرحلون، نواجه بالموت لكنا نجد الشوق الظامئ للحياة، حتى يتضح أن الوجود الإنساني في الواقع والمصير، لا تتحقق مواجهته إلا من خلال مقاومة جدلية.. بين الموت والحياة .
وقصة "نافذة" وكذلك "سيقان وجوانح" يطرحان سؤال:
كيف بدأ سجن الوطن وقهره؟
وطن مرغم على النزيف عاجز عن فعل التوقف. ويجاوب نص سيقان وجوانح على السؤال:
" تعودين إليّ تلملمين قهرنا بين أصفاد اليأس وتتمتمين: في سبيل الوطن .. لا أهمية للسيقان والجوانح!"
وفي كل مكان بالوطن، نجد الذين يطفحون بعفونتهم أثناء قيامهم بدورهم التقليدي في تدمير الحب، والجمال، والمبادئ، والأخلاق، والضمير!
ويصرخ الوطن في قصة نافذة :
"ننظر لبصيص الضوء الذي يتسلل خلسة من نافذة العربة ويسقط على القيد الحديدي الذي يكبل الأيدي والأرجل يذكرنا بشمس قد تشرق بالغد."
صرخة وطن أرادوا له الموت وأراد لنفسه الحياة .. عزفوا لـه لحن العدم وعزف لنفسه لحن الوجود ومن خلال نافذة يبحث عن الحياة.
وفي قصة (توك توك) لم نشعر من خلال السرد أن بطلها مسيحي، بل مواطن مصري، لا يفرق عن أي مسلم .. فهو مسحوق ومقهور ككل الناس الغلابة في مصر.
قصة يندمج فيها الشكل والمضمون ويتلاحمان بشكل عضوي وفعال, ورغم أن الخلفية هي الفساد والقهر من السلطة، إلا أنها لم تسقط في المباشرة, أو التقريرية, فمثلا في قولها :
" أتذكر خليفة، سائق الونش الذي أراه كل صباح والذي ما إن يراني حتى يتبعني ودون أن يتحدث أكون وضعت الورقة من فئة العشرين جنيها بيديه. يبتسم إليه الضابط الجالس بجواره مختالا تبرق نجماته الثلاثة على كتفه، ويشير الى سائق آخر ويتبعانه ."
لقد استطاعت الكاتبة رغم حيز القصة الصغير, أن تتخلخل البنية الاجتماعية والاقتصادية، لطبقات مختلفة, تتقاطع عوالمهم, وبذلك تخلصت من أحادية المنظور .
وتطرح فيها الأفكار كفيض لوعى مواطن, تكاد الأوضاع تصيبه بالجنون على نحو متكرر، غير تاركه له أى متنفس للحياة ، هناك اضطراب وحيرة للشخصية باعثة لحد اليأس، من أثر معاناة السحق في وطنها وثم مقطع لافت :
"لم يكن معي أكثر من العشرين جنيها المعتادة. لكنه أصر على مصادرة التوك توك إن لم أعطه ما يريد. أقسمت له. أمرني ساخرا بأن أدعو أم النور لتتجلى وتحضرهم معها. شعرت بالغضب ولكني تمالكت نفسي، توسلت إليه ألا يأخذه ويأخذني أنا بدلا منه. نهرني. قبلت يديه فدفعني بقوة لأسقط على الأرض عند قدميه. حسبني أقبل قدميه، فركلني لأرتطم بالتوك توك".
مقطع يعبر عن أزمة الإنسان، واضمحلال قيمته، بحيث تصبح أقل من قيمة التوك توك، إنه كشف لتناقضات الواقع, وبؤسه وزيفه, وتركيز الضوء على عالم بشع مستغل, ليس للمواطن فيه حق الكرامة, وإنما حق التمزق, والوحدة, والجوع، وعدم وجود إصغاء من أحد. هناك تناغم خاص ميز القصة, التي تقدم نقدا وحكما قاسيا, ضد الانحراف والفساد, وعنف سلطة المال, وغياب العدالة الاجتماعية. ومع ذلك فإن هذا المنظور, في يد كاتب آخر قد يقع في إشكالية, عدم اعتدال ميزان القوة, وما أعنى به, أن الطرف الآخر في المعادلة وهو هنا سلطة المال, لا يسمح لها بممارسة دورها, أما بالصمت, او الاتهام من جانب واحد، أو النفي.
وهكذا تتحول بعض القصص لبوق دعائي ونشيد فقير ضد القهر، وتصبح الشخصيات سطحية وغير مؤثرة, لكن السلطة الغاشمة هنا كانت موجودة لننظر مثلا :
" أقسمت له . أمرني ساخرا بأن أدعو أم النور لتتجلى وتحضرهم معها ".
قبلت يديه فدفعني بقوة لأسقط على الأرض عند قدميه، فركلني لأرتطم بالتوكتوك.
انفجر الاسخريوطي ضاحكا ساخرا مني".
ويحيلنا اسم "الاسخريوطي" الى "يهوذا الاسخريوطي" وتقول المصادر بما فيها الأناجيل القانونية انه خان المسيح مقابل ثلاثين قطعة فضة، وسلمه للرومان للصلب. وفي القصة إشارات موازية لنتأمل المقطع :
"أذوب مشكلا صليبا جديدا على جوانب التوك توك. الآن لن يفلح أحد في مصادرته دون أن يصادرني معه".
تجري القصة في شوارع تعبر عن الضياع, في المدن المليئة بالكذب والخداع, والسحق، في تلك الشوارع والمدن لن تجد هناك أي حقيقة, وإنما الحقيقة ستجدها في ذاكرة الإنسان، وهو هنا وعي بطل القصة, كرمز لمكان غائب في ذاكرة الشعور.
في قصص المجموعة، نرى قهرا وبؤسا والراهن المشحون بنذر الدم والموت والاستلاب والضياع. واقع مهدد بالتمزق متأرجحا في عواصف تملأ حياتنا. لا يوجد فيه توازن بالعدالة، زمن عاقر, تنجح الكاتبة في تصويره بدون رؤية مثالية زائفة, مؤكدة على زمن الانهيار والاستسلام لشروط واقع مبتذل. تكثر فيه تيارات النفاق والكذب والخيانة والقهر والظلم. وأبطال قصصها يسحقون تحت ضغوط قاسية ومخيفة. وسط طغيان الجانب المعتم على الجانب المضيء في الإنسان.
تجتمع قوة إحساس الكاتبة بالحياة الإنسانية، مع رغبة عارمة في تغير العالم، فكأن الكاتبة عندما تخترق الزمان للماضي، وتراقب الحاضر، تنظر لمستقبل ملئ بالوعود، وتحن من خلال الكتابة عن الموت إلى بعث مرتقب جديد وجميل. لحياة الشعب المصري الحافلة بالمآسي. ورغم القهر المسيطر على قصص المجموعة لكننا نستشف الشعور الكامن المرتبط بطاقة الإنسان عبر بوابات العذاب .

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى