نورا أمين: لا توجد سيرة ذاتية في الأدب
نورا أمين (1970) روائية وقاصة وممثلة مسرح ومترجمة مصرية مقيمة في ألمانيا، حصلت على ماجستير في الأدب المقارن من جامعة القاهرة، وفي عام1995 نشرت مجموعتها القصصية الأولى «جمل اعتراضية»، وتبعتها رواية «قميص وردي فارغ». تؤمن نورا أمين بضرورة تحرير جسد المرأة، وضرورة النظر في مفهوم الجسد كصورة ثقافية وفنية واجتماعية، وهو ما يظهر دائماً في أعمالها. قدمت أمين في العام 2011 ما يُعرف بـ «مسرح المقهورين»، وآمنت على مدار سنواته السابقة بأنه وسيلة لمقاومة القهر، ومواجهة المشكلات الاجتماعية في بلادها. وأصدرت أخيراً رواية «ساركوفاج» (دار العين)، وتقدم فيها نموذجاً مختلفاً لصورة الأم، ورؤية خاصة لمفاهيم الوحدة، والتسامح، والموت.
> انشغلتِ عن الرواية بالمسرح… هل يمكن القول إنك قررت تدارك ذلك بإصدار «ساركوفاج»؟
– نعم؛ توقفتُ عن كتابة الرواية نحو 7 سنوات، وحتى أستدعي قدرتي على كتابة نص صعب مثل «ساركوفاج»، بخاصة إني كنتُ في أكثر لحظاتي هشاشة وضعفاً، كان لا بد من استدعاء نهاد صليحة ولذلك أهديتها الرواية التي كانت بالنسبة إليّ احتفاء بها، وبوجودها داخلي.
> حدثينا أكثر عن علاقتك بالناقدة الراحلة نهاد صليحة…
– هي أحد الأعمدة التي كنت أستند إليها في حياتي، كانت أكبر مصادر دعمي، ساعدتني على فهم تحولات حياتي الشخصية التي كانت في صعود وهبوط وأزمات مستمرة، كانت تمنحني الإيمان بأن غداً أفضل، وتجعلني أتمسك بالأمل دائماً في تحقيق كل ما أريده.
> الراوي في «ساركوفاج» يحكي بضمير الأنا في ما يشبه المونولوغ الداخلي… هل ذلك يشير إلى أنها كُتبت دفعة واحدة؟
– صحيح… النص الأصلي استغرق قرابة شهر من الكتابة المكثفة الممتدة على مدار عشر ساعات يومياً، وهذا أسلوب فرض عليّ الانعزال تماماً حتى أتحسس حياة البطلة، وأتوحد مع وحدتها، وهو أمر تطلب مني النوم نهاراً، والسهر ليلاً، كوسيلة تساعدني على تدفق الكتابة. حتى وصلت إلى الثلث الأخير من النص، أصبحت في حالة لهاث حقيقية. وأُعد هذا النص غير النصوص الأخرى التي كتبتها، فلم أكن أسير وفق خطة ما أثناء الكتابة، إنما تركت لقلمي حريته، من دون أن أعلم إلى ماذا سوف أصل، الشيء الوحيد الذي كان واضحاً بالنسبة إليّ هو إحساس الوحدة. ولذلك يبدو النص في لحظات أقرب إلى المونولوغ المسرحي، كونه قائماً على صوت واحد.
> هناك إشارات ضمنية لثورة كانون الثاني (يناير)، لكنها غير معنية بنجاح الثورة أو فشلها إنما بفكرة الموت والفقد… هل كانت وسيلتك لإبراز فكرة الوحدة؟
– نعم؛ الرواية في الأساس ليس لها محمل سياسي وذكر الثورة جاء كونها رمزاً للتجمع في الذاكرة الوطنية لمصر، فأشرتُ إليها باعتبارها أيقونة للميثاق الجمعي في خيالنا حول مفهوم الجماعة، وقمتُ بربطها بحياة البطلة التي كانت يوماً ما جزءاً من هذه الجماعة، ثم أصبحت فرداً وحيداً منكسراً، فكانت الإشارات غير الواضحة للثورة ترجمة للمسار من الجماعة إلى الوحدة، للانكسار، للموت.
> حملت لغة الرواية تعبيرات دقيقة وواضحة… هل استخدمتِ هذه اللغة البسيطة عوضاً عن كون النص غير مرئي على خشبة المسرح الذي تكون فيه العلاقة مباشرة مع المُتفرج؟
– نعم في هذا النص تحديداً أردتُ تبسيط اللغة إلى أقصى درجة، ولم أرغب في الخوض في حِرفية اللغة، فكان التحدي في «ساركوفاج» هو تحدي الاختزال والتخلي عن الحرفة اللغوية. وبالفعل كان ذلك عوضاً عن أن النص غير مرئي، لكني اكتشفت أيضاً أنه صالح لأن يقدم على خشبة المسرح.
> يلجأ بعض الكُتاب إلى كتابة عبارات في بداية أعمالهم الأدبية تنفي حقيقة ما يرد في العمل من أحداث، وهي غالباً تكون محاولة غير موفقة تؤكد حقيقة ما كُتب، فهل نعتبر النفي المكتوب في روايتك كذلك لإبعاد احتمال أن تكون سيرة ذاتية؟
– ما الذي يهم إذا كان النص له علاقة بسيرتي الذاتية، أم لا؟ الأشياء متساوية، ولا أحد يعلم الحقيقة، حتى الأشياء التي نعتقد بحقيقتها، مع الوقت نراها من منظور آخر. ذكرياتنا قابلة للتبدل بفعل الزمن، وبفعل وجهة نظرنا. ومن ناحية أخرى أجد هناك انطباعاً عاماً يطارد كتاباتي بأن لها علاقة بسيرتي الذاتية، ولذلك كتبت هذا التحذير، رغم تخوفي من أن يؤدي إلى تأثير عكسي مع القارئ أو الناقد كما تذكرين. لكن بعد تجربة «ساركوفاج» يمكنني القول إنه لا توجد سيرة ذاتية، في الأدب. التحذير يحوي قدراً من السخرية لكسر حِدته، وربما يضحك القارئ إذا قرأ التحذير بعد انتهائه من الرواية.
> ولكن، لماذا يرى بعض النقاد أن روايات النساء تنقل سيرهن الذاتية؟
– لست أدري.
> لماذا جاءت صورة الأم في الرواية غير نمطية؛ لجهة تناقضها وتضارب مشاعرها؟
– أثناء الكتابة كانت تراودني مخاوف، وتمر أمام عيني تابوهات، ورقابة ذاتية، وتصورات وأحكام شخصية عن الصورة النمطية للأم. ثم أقف في لحظة ما، وأتساءل كيف أتحرر من كل ذلك؟ أخيراً قررت أن تكون البطلة ذات عقل حر. وبالتالي جاء النص عن الأم كنموذج للأنوثة، وفيه نقد للقدسية المهيمنة على شخصية الأم، في الأدب العربي، أنها قدسية تنزع عنها إنسانيتها، ورغباتها، وطيشها، وحريتها، وحياتها. هو إطار وهمي يخلق سلطة للطفل على أمه، تساعد على نمو الأنانية داخله، وتجعل الأم ذاتها بالنسبة إليه ملكية خاصة وحباً خرافياً، كأنه البصمة الجينية في خيالنا لتعريف الحب.
في هذا النص حاولتُ كسر هذه القُدسية الزائفة، وإعادة رسم صورة للأم الجميلة الفاتنة العاشقة، وليس فقط بصفتها التقليدية الحنونة الفاضلة، لكنها هي أيضاً الشهوانية، القابلة للخطأ، وهذا لا يقلل من محبتها، ولا يجب استخدامه كسلاح ضدها. هي كائن من حقه أن يعيش وأن يستمتع بحياته، وأن يخطئ. وأعتقد أن صورة الأم بهذه الطريقة نادرة في الأدب.
> قلتِ سابقاً إن العالم لا يستوعب أن تكون المرأة كاتبة وممثلة وراقصة… لكن كيف حدث ذلك معك؟
– بالفعل، نادرًا ما يحدث أن يجمع أحدهم بين الرقص والمسرح والكتابة الروائية والترجمة، ولكن هذا حدث معي بحكم نشأتي في أسرة تهتم بالأدب والرقص في الوقت ذاته. ولذلك، ظلت هذه المكونات معي حتى الآن. والحقيقة أن المسألة لها علاقة بتحرير الطاقات، إذا أراد أي شخص تحرير طاقته، وكسر الاعتقاد بأن الفرد لا يستطيع أن يكون متعدد الموهبة، فمؤكد أنه سينجح، أما إذا انصاع، وأغلق صدره على طاقته، فسيظل سجيناً للمقدسات الفكرية الخاطئة.
> كتابك «تهجير المؤنث» فيه دعوة أو مناشدة لتحرير الجسد، وهي الدعوة ذاتها التي نلمسها في أعمالك الأخرى مثل «قبل الموت»… هل يمكن اعتبار ذلك هو الإطار العام لكتاباتك؟
– نعم؛ لأن جسد المرأة يُعد حقل دلائل مرتبطاً بالتاريخ الذي يكرس لسلطة النظام الأبوي، وسلطة الرجل على المرأة، وطبقاً لرؤية هذا النظام، فإن جسد المرأة يتلخص في منطقة الرحم المُهمة بالنسبة إلى الرجل لأسباب عدة؛ منها أنها تحمل الأطفال الذين يشكلون متن القبيلة، وبالتالي أصبح جسد المرأة مادة، ولذلك فإن أقرب طريقة لتقديم الجسد في شكل حر، هو عرضه على المسرح، والدعوة إلى تحريره بالكتابة، بإكسابه قيماً مختلفة عن السائد.
> إذا كانت هذه رؤية المجتمع للمرأة، فما تفسيرك لرؤى بعض المثقفين المتسقة مع الرؤية ذاتها؟
– هؤلاء المثقفون غير منفصلين عن التاريخ. هم جزء من تركيبة هذا المجتمع. ولكن رغم تواصل جيل التسعينات الذي أنتمي إليه مع التراث، إلا أنه تميّز بتجربة مختلفة عن القديم.
> كيف ترين إنتاج ذلك الجيل؟
– هذا سؤال كبير يجيب عنه النقاد.
> تنتمين إلى عائلة عميد الأدب العربي طه حسين… حدثينا عن تأثيره في وعيك الثقافي؟
– لم أقابله يوماً في حياتي. كل ما يربطني به أنه يمتّ بصلة نسب لوالدتي التي كانت تهتم بكتبه بصفتها أكاديمية وباحثة. ومن ناحية أخرى، كان أخوه الأكبر صديقاً لجدتي، تلك المرأة الريفية التي ترى في طه حسين نموذجاً للنجاح. هذا لفتَ انتباهي إلى وجوده، فقرأتُ «الأيام» وأنا طفلة، فأدركتُ أن هناك عالماً آخر يمكن أن نخلقه بالكتابة، وأن هناك أشخاصاً آخرين سيقرأون ما سنكتبه، وأن التأليف يمنحنا حيوات وشخصيات كثيرة. رأيتُ أن ذلك يمكن أن يعوضني عن كوني ابنة وحيدة، وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى ثنائية الوحدة والجماعة.
> بدأتِ في العام 2011 تجربة «مسرح المقهورين»… أين هو الآن؟
– أُعد كتابات نظرية عن تلك التجربة، تمهيداً لإصدارها في كتاب. أيضاً أنتظر لحظة تشبه ثورة يناير لتعطيني دفعة مشابهة لاستئناف «مسرح المقهورين».
صحيفة الحياة اللندنية