أعادت المعارك المندلعة في الشرق السوري، والتي وصلت بعض نيرانها إلى شمال شرق البلاد، بين بعض العشائر العربية و»قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، فتْح ملفّ العشائر السورية، بعد أكثر من عقد على حرب مزّقت التركيبة العشائرية، وأعادت تشكيلها وفق انتماءات مختلفة. غير أن المعارك غير المتكافئة بين قوات تمتلك راجمات صواريخ ومدعومة بطيران «التحالف الدولي»، وفصائل صغيرة تحمل أسلحة متوسّطة وخفيفة، لم تُحدث، بعد نحو أسبوع على اندلاعها، أيّ تغيير حقيقي في خريطة السيطرة. وإذ تتواصل معارك الكرّ والفرّ بين الجانبَين، تدخّلت واشنطن أخيراً لتهدئة الأجواء، عبر لقاء أجراه نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، إيثان غولدريتش، وقائد عملية «العزم الصلب»، جويل فويل، مع «قسد» و»مجلس سوريا الديموقراطية» (مسد)، وبعض زعماء القبائل في دير الزور.
ومن المفارقات التي يمكن الوقوف عندها، الشرارة الرئيسة التي أشعلت هذه المعارك، والمتمثّلة في اعتقال «قسد» قائد «مجلس دير الزور العسكري»، أحمد الخبيل، الملقّب «أبو خولة»، أحد المكوّنات العربية لـ»قسد»، في قاعدة أميركية، إثر كمين نصب له ولعدد من قادة المجلس، عبر دعوتهم إلى اجتماع لحلّ نزاع سابق على خلفية محاولة «قسد» إبعاد «المجلس» عن بعض المناطق في ريف دير الزور، ونشْر قوات كردية فيها، ليردّ الأخير بالعصيان المسلّح، قبل تهدئة الأمور وإلقاء القبض على الخبيل وعزْله والإعلان عن تحويله إلى المحاكمة. واللافت أن «أبو خولة» لا يحوز مكانة رفيعة في الأوساط العشائرية، إذ يُعدّ بالنسبة إلى كثيرين مجرّد قائد ميليشيا اضطلعت، خلال سنوات الحرب، بممارسات مسيئة في حقّ سكان المنطقة، إلى جانب نشاط فصيله في عمليات التهريب.
وفي ضوء التطوّرات الأخيرة، ترى مصادر عشائرية من تيارات سياسية مختلفة، تحدثت إلى «الأخبار»، أن للمعارك الجارية أسباباً تاريخية، وأخرى معيشية، موضحةً أن المنطقة الشرقية من سوريا عانت، على مرّ العقود الماضية، جملة احتكاكات بين المكوّنَين العربي (العشائري) والكردي، الأمر الذي أدّى، مع تحكُّم الأكراد بالسلطة في «الإدارة الذاتية» التي يقودونها، إلى عودة الاحتكاكات والنعرات، وسط شعور متزايد بالمظلومية في الأوساط العربية. يضاف إلى ما تقدَّم، بحسب المصادر، «سوء الأوضاع المعيشية في المنطقة، على الرغم من التحكّم بأبرز موارد النفط في الشرق السوري، والموارد الزراعية»، بما فيها القمح الذي تفرض «قسد» على المزارعين بيعه لها في مناطق سيطرتها، وتتأخّر في دفع ثمنه، بالإضافة إلى المضايقات المستمرّة على الحواجز، والإقالات المتواصلة بين وقت وآخر لبعض أبناء العشائر واتهامهم بالارتباط بـ»داعش». وأدّى ذلك بمجمله إلى تحضير بيئة مناسبة للاشتعال أمام أيّ شرارة، وهو ما حدث مع اعتقال الخبيل، وانتشار تسجيلات مصوّرة لأحد أبنائه يَطلب فيها «نخوة العشائر»، ما يعني أن هذه المعارك لم تندلع نجدةً لشخص الخبيل، وإنما للمكوّن العربي العشائري.
وفي هذا السياق، تشرح المصادر أن العشائر في سوريا مرّت، على مدى العقود الثلاثة الماضية، بجملة تغييرات في تركيبتها، بدءاً من موجات الجفاف التي ضربت البلاد بين عامَي 2006 و2008، وما رافقها من موجات نزوح لقسم كبير من أبناء العشائر نحو المدن، ما أدّى إلى انقطاعهم جزئياً عن الأجواء العشائرية التي كانوا يعيشونها، ومروراً بالانقسامات العمودية والأفقية التي ضربتها نتيجة انتماء قسم من أبنائها إلى فصائل «جهادية» مختلفة، من بينها تنظيم «داعش»، وليس انتهاءً بحالة الانقسام السياسي التي ترافقت مع ظهور وجهاء جدد مدعومين بالمال، على حساب الوجهاء التاريخيين الذين اكتسبوا «المشيخة» بالوراثة، وفق العرف السائد. ويُفسّر ما تقدَّم، وجود عدد كبير من الوجهاء التابعين للعشيرة نفسها، لكلٍّ منهم موقف مختلف، سواء بسبب المصالح الاقتصادية والارتباطات السياسية، أو حتى بسبب خريطة السيطرة وما أفرزته من سلطات مختلفة بين منطقة وأخرى (في ريف حلب مثلاً، تسيطر تركيا، وفي الشرق الولايات المتحدة الأميركية، وفي بعض المناطق الشرقية والشمالية تسيطر الحكومة السورية التي انحاز قسم من وجهاء العشائر التاريخيين فيها، إليها).
وفق هذه الأوضاع، يمكن فهم طبيعة الصراع القائم؛ وكذلك، تضارُب التصريحات التي تتناقلها وسائل الإعلام لوجهاء العشائر، وفقاً للانتماء السياسي، حيث تجري على هامش المعارك الميدانية، معارك إعلامية رَسمت صورة أكبر لنتائج المعارك القائمة فعلياً، الأمر الذي علّقت عليه المصادر العشائرية بالقول إن «المعركة الأهمّ التي يمكن عندها الحديث عن تغيير، هي المعركة مع القوات الأميركية»، والتي ما زالت، على رغم من انحيازها لـ»قسد»، تمتلك سطوة على بعض الفصائل ذات الانتماء العشائري التي تحاول استثمار هذه المعارك بحثاً عن مكاسب آنية. من جهتها، حاولت تركيا استثمار الأوضاع، أملاً بإحداث تغييرات ميدانية تحت غطاء المعارك العشائرية، عبر الزجّ بمقاتلين من الفصائل التابعة لها تحت مسمّى «الدعم العشائري» على عدد من جبهات ريف حلب الشمالي الشرقي، وبشكل خاص مدينة منبج التي تمثّل المركز التجاري الأبرز لـ»قسد»، وحيث فشلت أنقرة، خلال السنوات الماضية، في قضمها، بسبب الموقف الروسي الرافض من جهة، والرغبة الأميركية الواضحة في الإبقاء على بعض النقاط المتقدّمة نحو مناطق النفوذ التركية.
وعن نتيجة هذه المعارك، ترى المصادر أن الفرق في التسليح بين «قسد» والعشائر من جهة، والقبول الأميركي بتحكّم الأكراد في «الإدارة الذاتية»، يتقاطع مع مشروع واشنطن لتشكيل فصائل من مكوّنات عربية تنشط عسكرياً فقط من دون أيّ تأثير سياسي، سواء في الرقة (شمال)، أو في منطقة التنف عند المثلّث الحدودي مع الأردن والعراق، ما يعني أن أيّ أمل بتغيير حقيقي على الأرض سيصطدم بالوجود الأميركي، المحرّك الأبرز لما يجري، طالما أن نيران المعارك ما زالت بعيدة عن القواعد الأميركية، ولا تشكّل تهديداً مباشراً لها.
صحيفة الأخبار اللبنانية