هذا الروائي المالطيّ الفرنكوفونيّ بجذوره العربيّة
هو أوّل من أخرَج مالطا عن “صمتها” الأدبيّ والفكريّ والإبداعيّ، وقدّم خطاباتها المعنيَّة في هذه المضامير إلى الجدل النقديّ الأوروبيّ، ومن ثمّ العالَميّ، ولو بخطوات أوليّة مُتواضِعة، يُنتظر أن يستكملها الجيل الإبداعيّ المالطيّ الجديد، المشغول بدَوره في البحث عن لغة أدبيّة مالطيّة جديدة ومُفارِقة.
على أنّ السرديّات القصصيّة والروائيّة والمسرحيّة الخاصّة بالكاتِب المالطيّ الكبير فرانس سموت (1945 – 2011) ظلّت تفوح منها رائحة مالطيّة عربيّة الجذور، والهوى اللّاهوتيّ المسيحيّ المَشرقيّ، الذي يَعتبر بَيت المقدس قِبلته الروحيّة الأثيرة، والدافعة له ليظلّ إنساناً مُحبّاً ومُنفتحاً على الآخرين، ولا يفرّق البتّة بين الأديان والأعراق والشعوب والأُمم.
تعود علاقتي بالروائي المالطي الكبير فرانس سموت إلى العام 1988 عندما التقيته في العاصمة المالطيّة فاليتا، وكان وسيطي في التعرّف إليه شاعرٌ إيطالي صديق يدعى ألبيرتو ميرالّلي يتردّد بشكلٍ مكثّف على جزيرة مالطا وبلدَين عربيَّين هُما لبنان وتونس. وكان سموت وقتها مُنجذباً، بل مخطوفاً بالأمثال والأقوال المالطيّة المأثورة، ويعتبرها خلاصات شعريّة أو وَمضات قصصيّة، هي الأرسخ في الذاكرة بين العلامات الأدبيّة كافّة. وقد شاطرته يومها رأيه في ذلك، لأنّ المثل الشعبي يظلّ درساً أدبيّاً لا يُقاوَم، بفرادة معناه القويّ وغير المزنّر بالكُتب وبروتوكولاتها؛ فضلاً عن أنّه يشكِّل وحدة إبداعيّة مُتنامية، لها ابتداء وعمق وذروة تسمو بها. والأهمّ من هذا كلّه، أنّ المثل الشعبي هو نِتاج إبداع جماعيّ لأناس مجهولين أفاؤا واستنطقوا تجارب حياتهم اليوميّة، واعتكفوا عليها بالوعي، ورجاحة الرأي، وسعة القلب، وخرّجوا تعابير إبداعيّة حسيّة ويقينيّة بأقلّ الكلمات كثافة وأوقعها تأثيراً، على غرار هذا المثل اليوناني الرائع: “حيث تكون الحرّية، فهناك وطن”.
أعجب تعليقي هذا الأديب المالطي، فصرخ قائلاً: ” لا يُستغرب المثل العظيم من معدن قائله والمقتنع به على السواء.. أنتَ منذ الآن صديقي أيّها الشاعر اللّبناني، وأنا فخور بصداقتك هذه”…
وفي المناسبة قام فرانس سموت بعد سنوات طويلة، أي في العام 2006 بترجمة عذبة وناجحة لكِتاب الإيطالي مايكل أنطونيو فاسالي: “الشعارات والأمثال والأقوال المأثورة في اللّغة المالطيّة”.
أمّا لقائي الثاني بالروائي المالطي الصديق، فكان هذه المرّة في باريس في العام2007، هو الذي كان يتردّد على فرنسا، باعتباره فرنكوفونيّاً مالطيّاً كَتَب عن الثورة الفرنسيّة وقِيَمِها التنويريّة بصيغة غير مُعلَّبة وغير مكرورة، وجاءت دراسته الاستثنائيّة العميقة تحت عنوان: “الثورة الفرنسيّة.. التاريخ والمعنى”.
كما كَتب الأديب سموت دراسة تاريخيّة أخرى عن غزوة نابليون لمالطا في العام 1798، وما تركته من أثرٍ ثقافي على سكّان الأرخبيل المالطي.. قال لي معلِّقاً على دراسته: ” كتبتها انطلاقاً من عبارة الإيرلندي أوسكار وايلد التي تقول: “واجبنا الوحيد تجاه التاريخ هو إعادة كتابته بصيغة تُوائم تكرار اللّاوعي فينا حوله”. وهنا طلبتُ من صديقي التوسّع بشرح ما ذهب إليه، فأجابني: ” بونابرت لم يكُن فاتحاً عسكريّاً وسياسيّاً من نوع كلاسيكي في التاريخ، بل كان نموذجاً يمثّل إطاراً مرجعيّاً للثقافة في فِعالها السياسي والواقعي، وغالباً ما نراه يسعى إلى فرْض نظامٍ ثقافي عميق ومُنفتح على مجتمع الآخرين، عِماده الإيحاء بأنّ النتائج الإيجابيّة للثقافة غير مسؤولة عن المقدّمات الأمنيّة والسياسيّة السلبيّة التي تسبقها”.
يُعتبر فرانس سموت أحد المؤسّسين المركزيّين لـ”حركة النهضة الأدبيّة المالطيّة” في أوائل السبعينيّات من القرن الفائت، وهي حركة اهتمّ بظاهرتها “حزب العمّال” المالطي، لأنّه كان يرى فيها الجهة الثقافيّة المالطيّة الطليعيّة التي بالضرورة ستشكِّل له رأسمالاً رمزيّاً ومعنويّاً مُستداماً في حال وصل إلى السلطة. ومن هنا تطابقت الآراء بين هذا الحزب المالطي وبين أديبنا سموت في أمورٍ سياسيّة عديدة، على رأسها مسألة مُعارَضة مشروع دخول مالطا الاتّحاد الأوروبي، فكتب أديبنا في هذا الخصوص دراسة سياسيّة تحليليّة مطوّلة تحت عنوان: “لماذا لا للاتّحاد الأوروبي” صدرت في العام 2003، أي قبل سنة واحدة من دخول جمهوريّة مالطا الاتّحاد الأوروبي في العام 2004.. ولمّا سألته عن مغزى معارضته دخول بلاده نادي دول الاتّحاد الأوروبي أجاب: ” لأنّنا سندمِّر خصوصيّتنا الثقافيّة والحضاريّة كمالطيّين بأيدينا، ودائماً لحساب دول أوروبيّة قويّة تفرض شخصيّتها الثقافيّة والتاريخيّة علينا بصيغٍ جاذبة وخُلّبيّة، ولا يُمكن في المحصّلة إلّا أن تستسيغ هذه الصيغ أغلبيّة المُواطنين في بلادي، ولا ترى فيها أيّ سلبيّة ثقافيّة تذكر.. وهنا قمّة الخداع القاتل بذكاءٍ للهويّة المالطيّة، مهما كان عدد المُنتمين إليها أو ضآلة المساحة الجغرافيّة التي يتشكّل منها وطنهم”. ولكنّ الاتّحاد الأوروبي، يا صديقي، يحفظ الخصوصيّات العرقيّة والثقافيّة واللغويّة لجميع الدول المنضوية تحت لوائه؟.. سألته، فعلّق على الفور: “هذا في الظاهر فقط، وأرجو ألّا تُخدع أنتَ يا صديقي على غرار انخداع شرائح مالطيّة طويلة عريضة حول هذا الأمر”. وما هو مفهومك لهويّتك المالطيّة؟ ما تعريفك لها سوسيولوجيّاً، إتنيّاً وثقافيّاً؟.. أجابني فرانس سموت: ” أنا مالطي أباً عن جد. وُلدت على أرض هذا الأرخبيل المتوسطيّ الضيّق في مساحته الجغرافيّة، ولكنْ المأهول بكثافة، كما لا تضارعها أيّ كثافة سكّانيّة في جغرافيا أخرى مأهولة على هذا الكوكب. وهذا يعني سرّ تمسّك أهلي ومواطنيّ المالطيّين بأرضهم، جيلاً عن جيل. أمّا هويّتي الإتنيّة ووضعيّتي السوسيولوجيّة والثقافيّة، فهي تعدّديّة بالطبع ونِتاج لكلّ هذا التكوين التاريخي والإنساني الحالي الذي باتت تشكّله جمهوريّة مالطا اليوم. نحن خلاصة شعوب عديدة مرّت وتعاقبت ورسا منها ما رسا على أرض جزرنا الصغيرة التي تُشكِّل بلغة الاستراتيجيّات البحريّة القديمة: البوّابة/ المحطّة للعبور إلى أوروبا”.
وهل تجري فيك “دماء ثقافيّة” عربيّة، انطلاقاً من أنّ العرب هُم وحدهم الذين ما زالت لغتهم تشكّل أكثر من 80 في المائة من مكوّنات اللّغة المالطيّة المُتداوَلة اليوم، وما تبقّى من مفردات وتعابير مالطيّة مُتداوَلة تتوزّعه اللّغات الإنكليزيّة والإيطاليّة وقليل من الفرنسيّة.. فضلاً عن بعض العاميّات المَغاربيّة، وخصوصاً التونسيّة. ولكنّ هذا الأمر غير شائع، ولا يَعترف به إلّا الدارسون المختصّون، وفي دوائرهم العلميّة المحدودة فقط.. ما تعليقك؟.. أجابني: ” نعم تشكِّل اللّغة العربيّة نسبة كبيرة من مكوّنات لغتنا المالطيّة المُتداوَلة اليوم، وهذا الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث العلمي والتدقيق التجريبي فيه، حتّى تكون النتائج واضحة ومُقنعة للجميع. ولكنْ مع الأسف، لا أحد يشجِّع على هذا الأمر…”؛ لماذا يا ترى؟ قاطعته بسؤالي فأجاب: ” ربّما لأنّ الثقل السياسي والحضاري للعرب لم يعُد موجوداً، فضلاً عن أنّه لا أحد من اللغويّين والأدباء والمثقّفين العرب يهتمّ بالأمر، وجرياً على ذلك، فإنّ المالطيّين لا يكترثون بدَورهم للأمر”. وكيف تقرأ محاولات الزعيم المالطي الكبير دوم منتوف تعويم اللّغة العربيّة في مالطا، وفرْضها كلغة إجباريّة تدرَّس في المدارس المالطيّة كافّة؟.. أجاب: “هذا صحيح.. نعم حدث ذلك، ولكنّ هذه التجربة التعليميّة للعربيّة في مالطا سرعان ما توقّفت، ولم يكترث لها أحد من المالطيّين، الّلهم إلّا قلّة قليلة تكاد لا تُذكَر بينهم… والسبب، أعود وأكرّر، يعود إلى تراجع النفوذ العربي، سياسيّاً وثقافيّاً. وإذا كنتُ شخصيّاً أتفهّم وضعيّة السياسة العربيّة المُتراجعة والمُرتبكة، إلّا أنّني لا أفهم، البتّة، تجاهل الكثير من الأدباء واللغويّين والمثقّفين العرب لمثل هذا الأمر”.
هنا أقفلتُ حواري مع الروائي المالطي الصديق بالقول إنّ الأغلب الأعمّ من الشعراء والأدباء واللغويّين العرب لا يعرفون، أصلاً، شيئاً عن “العربيّة المالطيّة” وقرابتها الوثيقة للغتهم الأمّ، وذلك حتّى نحاسبهم بعد ذلك حول ما إذا كانوا سيتولّون مثل هذا الأمر أو يتجاهلونه.
والأنكى من ذلك كلّه أنّ هناك الكثير من المؤتمرات اللغويّة العربيّة على مدار السنة في غير بلد عربيّ يتجاهل المعنيّون بها أمر “العربيّة المالطيّة” التي قال عنها أحد اللغويّين اليسوعيّين الألمان الثقاة بعد دراسته العلميّة لها على أرض مالطا مدّة سنتَين: ” إنّها اللّغة العربيّة الأنقى”.
في نِتاجه القصصيّ والروائيّ
كاتِب غزير الإنتاج فرانس سموت. أصدر الكثير من الأعمال التي تتوزّع على أجناس أدبيّة كالرواية والقصّة والحكاية والمسرحيّة والنقد والسيرة، فضلاً عن الترجمات والدراسات اللغويّة والسياسيّة واللاهوتيّة والتربويّة والميثولوجيّة… إلخ. لكنّ السرد الروائي والقصصي، هو عنوان هويّته الأدبيّة المركزيّة. وتشكّل روايته “القفص” واحدة من الأعمال الروائيّة الرائدة على مستوى الأدب المالطي والأوروبي الحديث، وهي تروي قصّة الإنسان المتشظّي داخل قفص الذات وقفص العالَم. بطله في الرواية، بل أبطاله جميعاً، يتكلّمون كمَن يفردون أرواحهم على الركام والضجر.. كمَن يسلّمون أنفسهم للأشباح، وعبثاً يحاولون تصحيح علاقات ذاتيّة وموضوعيّة أصابها العطب والخراب.
أمّا روايته “الحلم المالطي”، فتشكِّل بدَورها “مانفيستو” انتماء وطني وعاطفي لبلده الجميل مالطا. هو يدمج بين الطفولة السياسيّة والطفولة الثقافيّة والطفولة الوطنيّة، وهي تنضج جميعاً فيه على قاعدة أمداء حلم أو عشق وطني تلقائي لبلد صغير، لكنّه بالنسبة إلى محبّيه بحجم العالَم والأساطير المتراصّة فيه.
في كلّ عمل روائي لفرانس سموت، ينبغي أن تُقسّم قراءتك الواحدة له إلى قراءتَين: واحدة واقعيّة تربط بين الأحداث داخل العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة والطبقيّة المالطيّة، طبعاً مع اشتباك الشخصيّات في الرواية والأحداث والتنقيب في حقول دوافعها وحركة أدوارها وهي تتراكم على مسرح الحدث. وقراءة أخرى – أحبّذها شخصيّاً – تميل إلى أسْطَرة العمل الروائي وتفجير احتمالات أخيلته بأنساقها الفانتازيّة كافّة، وتأويلها كلّها، أو على الأصح، تحميلها أحياناً ما لا طاقة للعمل الأدبي نفسه على احتماله.
وبنظرة أبعد مدى، نقول إنّ أيّ عمل أدبي ناضج وعميق تتكشّف لقارئه بالضرورة (عبر العدسة الأسطوريّة الأخرى لديه) مشاهد وأصقاعٌ من الرؤى والمَظاهر والعوالِم ما لا تخطر على بال صاحب النصّ الأصلي. هكذا يصير النصّ الأدبي ملك قارئه في النتيجة، وملك حرّية تناوله له، والتحليق الخصوصي فيه، والمُزاوجَة بين أمدائه، وإعادة توليدها، واستنفاد احتمالاتها، واكتشاف ما بينها من تناقض وتضادّ وتآلف، ومن ثمّ مُلامَسة، حتّى الحدود الصوفيّة والروحانيّة التي تستولد نفسها بنفسها في العمل، وخصوصاً لكاتبٍ من طراز فرانس سموت تعتريه نزعة صوفيّة مسيحيّة في مختلف أعماله الإبداعيّة.
عظمة هذا الكاتِب المالطي تتلخّص في أنّ لديه الإحساس بالفاعليّة المكانيّة والزمانيّة لوطنه الصغير مالطا. كما أنّه فَلسَفَ المعاني في لغته السرديّة، وتفكَّر عليها وأوثقها بأشياء الحياة والنَّفس والكون. أمّا هويّته المالطيّة، فدائماً ما كانت، ولا تزال، توحي بأنّها عربيّة معذّبة، مشتقّة من أديم الأرض واللّهفات والأشواق المتحيّرة.. إنّها هويّة الصوت الإنساني الغريزي الطبيعي والحيّ كالألم.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)