هذه تجليات وأسباب التغيير الأميركي تجاه إسرائيل (2)
صحيح أن الدعم الديمقراطي لإسرائيل آخذ في التراجع، خاصة بين الناخبين الديمقراطيين الشباب، فإن المؤسف الذي يجب أن ينتبه إليه المهتمون بعدالة القضية الفلسطينية وأهمية أي تحول في الموقف الأميركي تجاه القضية هو أنه مع ميل الحزب الديمقراطي يسارا إلى جانب الفلسطينيين.
فإن الجمهوريين يتجهون يمينا تأييدا لإسرائيل في الآونة الأخيرة. فقد أظهر استطلاع جديد أجرته مؤسسة “يوغوف أميركا” لاستطلاعات الرأي YouGovAmerica أن 23٪ من الديمقراطيين يتعاطفون مع الفلسطينيين مقارنة بـ 5٪ فقط من الجمهوريين. وفي أوساط الديموقراطيين في الكونغرس، هناك عدد قليل من المنتقدين الصريحين لإسرائيل، مثل أعضاء ما يسمى بـ “الفريق” التقدمي في الحزب الديمقراطي squad (النائبة رشيدة طليب من ولاية ميشغان وإلهان عمر، من منيسوتا، وألكزاندرا أورتيز، نيويورك، وبيرني ساندرز، السناتور الديمقراطي، فيرمونت). ساندرز، وهو بالمناسبة يهودي، كتب مقالا ناريا في الصحيفة الأوسع انتشارا وأهمية في الولايات المتحدة، نيويورك تايمز، أثناء الحرب على غزة، انتقد فيها بشدة عنف الهجمات الإسرائيلية وتلكؤ إدارة بايدن في المطالبة بوقف لإطلاق النار.
لكن الحقيقة هي أن العداء تجاه إسرائيل يظل موقفًا أقلية داخل صفوف الديمقراطيين. في العام 2019، صوت 16 نائبا ديمقراطيا فقط (من أصل أكثر من 240 عضو كونغرس ديمقراطيا في مجلس النواب الأميركي) ضد إدانة حركة مقاطعة إسرائيل BDS.
معظم الديمقراطيين حتى الآن يتحلون بالموقف الذي يتخذه الرئيس بايدن شخصيا بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقد تمثل هذا الموقف في أحدث تجلياته في البيان الذي أدلى به بايدن يوم الخميس الذي سبق وقف إطلاق النار في غزة الجمعة قبل الماضية، الذي قال فيه: “أعتقد أن الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء يستحقون العيش بسلام وأمان وأن يتمتعوا بأوضاع متساوية من الحرية والازدهار والديمقراطية.” وهذا الموقف يتماشى مع الموقف الديمقراطي التاريخي تجاه إسرائيل. فتاريخيا، كان الحزب الديمقراطي هو الذي احتضن اليهود الأميركيين – كما فعل مع أقليات أخرى – وهو الذي وقف إلى جانبهم منذ البداية. فالرئيس الديمقراطي هاري إس ترومان كان أول من اعترف باستقلال إسرائيل سنة 1948، وكذلك عمق الرئيسان الديمقراطيان بعده جون إف كينيدي وليندون جونسون التحالف الأميركي الإسرائيلي. ولكن الرئيسين الديمقراطيين أيضا جيمي كارتر وبيل كلينتون هما اللذان حققا اختراقات من أجل السلام في الشرق الأوسط من خلال الضغط على الجانبين لتقديم تنازلات (اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، 1979، وأوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل، 1993، واتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، 1994).
وفي حين أن مواقف الديمقراطيين قد تحورت بصورة أكبر في السنوات العشرين أو الثلاثين الماضية لصالح الفلسطينيين، فقد غير الجمهوريون في المقابل مواقفهم أكثر بكثير من الديمقراطيين، ولكن باتجاه الميل أكثر إلى جانب إسرائيل. فقد أصبحوا متعصبين مؤيدين لإسرائيل ويعارضون أي محاولة لوضع حد للصراع المتفاقم بين إسرائيل والفلسطينيين منذ أكثر من 73 سنة، كما حدث في مواجهة غزة الدموية الأخيرة. فقد انتقدت نيكي هايلي، السفيرة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة التي عينها ترامب، بايدن “لدعوته إسرائيل إلى وقف التصعيد بينما لا تزال جماعة حماس الإرهابية تطلق الصواريخ على المواطنين الإسرائيليين”. (بالطبع، كان بايدن يدعو حماس إلى وقف إطلاق الصواريخ أيضًا.) واتهم السناتور الجمهوري توم كوتون بايدن بـ “الرضوخ للمتعاطفين مع حماس داخل حزبه” من خلال المطالبة في النهاية بوقف إطلاق النار.” وادعى السناتور الجمهوري تيد كروز أن “كل صاروخ من صواريخ حماس قد يكون مكتوبًا على جانبه اسم جو بايدن“.
لم يُظهر أي من هؤلاء الجمهوريين أدنى قلق أو تعاطف تجاه مقتل أكثر من 250 فلسطينيًا (من بينهم 67 طفلاً على الأقل) في قطاع غزة – أو أي وعي بأن التصعيد الحالي نتج عن التهديدات الإسرائيلية بطرد العائلات الفلسطينية في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية ومضايقة المتعبدين ممن كانوا يريدون الصلاة في المسجد الأقصى في الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان.
غير أن علينا أن نتذكر أن الحزب الجمهوري لم يكن دائمًا متحيزًا لإسرائيل بصورة مطلقة كما نراه اليوم. فقد كان الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور هو الذي أجبر القوات الإسرائيلية (ومعها البريطانية والفرنسية) على إخلاء شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة خلال العدوان الثلاثي على مصر العام 1956. وبالمثل أجبر الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته (اليهودي) هنري كيسنجر إسرائيل على التخلي عن الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل بعد حرب العام 1973. وأعلن الرئيس الجمهوري جيرالد فورد عن “إعادة تقييم” قصيرة الأمد لسياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل إبان حكمه. وانتقد الرئيس الجمهوري رونالد ريغان إسرائيل لقصفها مفاعل العراق النووي ومهاجمتها بيروت خلال حرب لبنان عام 1982. الرئيس الجمهوري جورج إتش بوش هو الذي ضغط على إسرائيل للانضمام إلى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 مع القادة العرب، ومن بينهم الفلسطينيون، وطالبها بوقف الاستيطان في الأراضي المحتلة وأوقف منح إسرائيل قرضا أميركيا بقيمة 10 مليارات دولار حينئذ. وكان وزير خارجيته الجمهوري جيمس بيكر هو الذي أطلق تصريحه الشهير موجها كلامه لإسرائيل في العام 1991، “عندما تكونون جادين بشأن السلام، اتصلوا بنا”، مقدما رقم هاتف البيت الأبيض على الهواء مباشرة. وضغط الرئيس جورج دبليو بوش على إسرائيل لإنهاء هجومها العام 2006 على لبنان مع تزايد الخسائر المدنية وأصبح أول رئيس يؤيد قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل في العام 2002.
كان كل هؤلاء الرؤساء والدبلوماسيين الجمهوريين هم مؤيدون لإسرائيل، لكنهم سعوا أيضًا إلى الحفاظ على بعض التوازن في سياسات الولايات المتحدة تجاه الصراع العربي الإسرائيليي. فقد فهموا كان هؤلاء يدركون أن الإسرائيليين لم يكونوا على حق 100٪ دائما، وأن الفلسطينيين ليسوا على خطأ 100٪ دائما.
غير أن كل ذلك تغير مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في مطلع العام 2017. فقد سارع هذا الرجل الأناني، العنصري، المنحاز 110% لإسرائيل إلى نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس واعترف بسيادة إسرائيل على المدينة المقدسة، كما اعترف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان المحتلة، وقطع المساعدات عن الفلسطينيين، وأغلق قنلصية أميركا في القدس الشرقية وأغلق مكتب الممثلية الفلسطينية في واشنطن. بل وطرح ترامب عن خطة سلام للصراع الفلسطيني الإسرائيلي – ما أسماه بصفقة القرن – حتى بدون أي مشاركة من الفلسطينين. هذه هي القرارات التي اتخذها ترامب على أساس مصالحه الذاتية وليس على أساس مصالح الأمن القومي الأميركي كما دأب أسلافه من السياسيين الأميركيين على فعله على مدى أكثر من 70 سنة.
المحزن أن هذا النهج الأحادي الطائش من ترامب أصبح تتويجًا لتحول طويل الأمد في مواقف الحزب الجمهوري تجاه إسرائيل/فلسطين، بقيادة المسيحيين المتصهينين الذين يسمون بالإنجيليين من البيض (Evangilicals) الذين هم أكثر تشددًا تجاه تأييد إسرائيل من اليهود الأميركيين. وكما أشار موقع FiveThirtyEight، ففي حين يعتقد غالبية اليهود الأميركيين أن إسرائيل يمكن أن تتعايش مع دولة فلسطينية مستقلة، قال 23٪ فقط من الإنجيليين في استطلاع في العام 2017 إنه ينبغي على إسرائيل الموافقة على إنشاء مثل هذه الدولة الفلسطينية المستقلة. (وفي استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث العام 2019، قال 42 في المئة من اليهود الأميركيين إن ترامب كان مؤيدًا أكثر من اللازم لإسرائيل مقارنة بـ 15 في المئة فقط من الإنجيليين). ويعتقد الإنجيليون أن “الرب وهب كل الأرض المقدسة لإسرائيل – وهذا هو الحال.”
يتفق العديد من الجمهوريين الآن مع بعض الديمقراطيين الليبراليين المتطرفين في رفض حل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة. فيعتقد العديد من الجمهوريين المحافظين أنه يجب السماح لإسرائيل بأن تواصل احتلال الأراضي الفلسطينية إلى أجل غير مسمى، بينما يعتقد بعض التقدميين الديمقراطيين أن الإسرائيليين والفلسطينيين يجب أن يندمجوا في دولة واحدة – مما يعني نهاية إسرائيل كوطن يهودي خالص لليهود فقط. وفي الواقع، أغفل البرنامج السياسي للحزب الجمهوري للعام 2016 أي تأييد لحل الدولتين. وعندما يتعلق الأمر بإسرائيل – كما هو الحال مع كل القضايا الأخرى – فقد انحرف الحزب الجمهوري إلى اليمين أكثر بكثير من تحول الديمقراطيين إلى اليسار. ومواقفهما من الصراع الأخير يؤكد ببساطة هذا التحول.
باختصار، وكما قلت في مقالي الأول عن الموضوع، هناك تغير ملموس وحقيقي – وإيجابي مرحب به — في الشارع الأميركي، خصوصا في الجانب الديمقراطي من المشهد السياسي الأميركي، ويجب البناء عليه من قبل الفلسطينيين الأميركيين وحلفائهم من العرب الأميركيين. ولكن وللأسف، فإن على هؤلاء أن يدركوا أن هناك أيضا تحولا في الاتجاه المعاكس من جانب أنصار الحزب الجمهوري، بسبب ترامب وسيطرته الحالية على هذا الحزب وبسبب تغلغل المسيحيين الإنجيليين في كل مناحي نشاط هذا الحزب وصولا إلى مواقفه في قضايا السياسة الخارجية، وعلى رأسها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
خمس نجوم