هـــي ثـــورة (فواز طرابلسي)

فواز طرابلسي

كتب الروائي والكاتب الفرنسي الكبير جان جينيه «إن محاولة التفكير في الثورة أشبه بأن يصحو المرء ليبحث عن المنطق في الحلم الذي حلمه». («الأسير العاشق»). ولعل جينيه في نصه الملهم والملغز معا يريد دفعنا لأن نبحث عن اللامنطق وعن اواليات الحلم في الثورات.
مع دخول الثورات العربية عامها الثالث حري بنا ان نحاول ذلك. فتطلب الدقة في التسمية والتفكير إن هو الا لفهم مسارات تقلب حيواتنا رأسا على عقب، ومحاولات السيطرة عليها بالفكر والإرادة.
تنفجر الثورات عندما لا يعود الحكام قادرين على الاستمرار في الحكم ولا يعود المحكومون قادرين على تحمّل حكامهم. واحسب ان ما بين ثلاثة أو أربعة عقود من الاستنقاع كشفت هذه الحقيقة. ويلجأ الناس إلى الثورة عندما يتعذّر الإصلاح أو يفشل. فلم تكن الثورات لتقوم لو نجحت تطبيقات المجتمع المدني، بتفسيراتها النيوليبرالية الطاغية، والتعديلات الهيكلية التي أملاها صندوق النقد الدولي، على مدى ربع قرن، في تحقيق إصلاحات جادة في السلطة والمجتمع العربيين.
لذا تجهر الثورات العربية بعمق الازمة التي تصدر عنها – البطالة، الفساد، الاستبداد، الفقر، انسداد آفاق الأمل أمام الشباب، احتقار الفرد وامتهان قيمته الإنسانية. وهي تعبّر عن أهدافها في شعارها الموحد – عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية. والشعار يعيّن بدوره الشرط الضروري لتحقيق الأهداف الثورية: استبدال الأنظمة القائمة بأنظمة بديلة.
وتتميّز الثورات عن الانقلابات بخاصَّةٍ أساسيةٍ: تمثيلها الشعبي الواسع والعميق وتوسلها قوة الشعب من اجل تحقيق أهدافها. نعني: حضور الشعب بما هو قوة أساسية ولاعب حاسم في النزاعات على السلطة وتوازنات القوى الاجتماعية. والشعب هنا ليس يعادل السكان وإنما هو تكتل متفاوت من الفئات المجتمعية تجمعها مهمة تاريخية مشتركة.
ولا بد من القول أن ما من ثورة في التاريخ تنجح كليا. وكثيرة هي الثورات التي تفشل. والمؤكد ان ما من ثورة فشلت دون ان تستدعي ثورات إضافية أو إصلاحات عميقة لاستكمالها مع ما يعنيه ذلك من تغييرات جذرية في سائر نواحي حياة الشعب المعني.
في مصر ضم «الشعب» فئات تتراوح بين رأسمالية مهمشة وقطاعات واسعة من الطبقات الوسطى المصدومة في فرص العمل والارتقاء الاجتماعي إلى جماهير واسعة من العاطلين عن العمل والفقراء، في الريف والمدينة، والمهمشين وسكان العشوائيات وسواهم.
على ان هذا «الشعب» من حيث التمثيل السياسي تمثّل في قوى متفاوتة بل متناقضة. فمن جهة قوى مدنية حداثية تسعى لتجاوز النظام الاستبدادي وبناء دولة ديموقراطية تعددية وإعادة الاعتبار للتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. ومن جهة أخرى تيارات مختلفة من الإسلام السياسي تلتقي مع الآنفة الذكر على تفكيك النظام الاستبدادي، بالارتداد على ما في الدولة العربية من عناصر ومؤسسات وتشريعات حديثة ومدنية واستبدالها بمبادئ من الشريعة الإسلامية، أقلاً، بما فيها من تمييز بين المواطنين بناء على الانتماء الديني والمذهبي وبين رجال ونساء.
والغريب انه جرت مقارنة الثورات العربية بكل الثورات في العالم الا بالأقرب وبالأشبه. اعني الثورة الإيرانية التي حوت الليبراليين والديموقراطيين واليساريين، بمن فيهم تنظيمات ماركسية عاملة على إسقاط النظام بواسطة الكفاح المسلح، يقابلههم إسلاميون يسعون للارتداد على مشاريع الشاه التحديثية، في الأرياف خصوصا، واستبدال الدولة الشاهانية بجمهورية ثيوقراطية تحت رايات ولاية الفقيه.
يقودنا هذا إلى مسألة السلمية في الثورات. الثورات تتعاطى بالقوة والعنف. مارس «الشعب» في الثورات العربية صنوفا مختلفة من الضغوط بواسطة قوة العدد لإلزام الطبقات الحاكمة على الإصلاح، ثم على التغيير، وصولا إلى استخدام القوة والعنف لإسقاط الحكام وأنظمتهم. وقد فرض الشعب إرادته باحتلال الساحات العامة وتنظيم التظاهرات المليونية والصمود في الاعتصامات وإعلان الإضرابات النقابية والعامة وكسر قرارات منع التجول، وصولا إلى معارك الشوارع بما ملكت ايمان المحتجين من حجارة وزجاجات حارقة، فيما لجأت السلطات إلى قنابل الغاز والرصاص الحي والدهس بالمدرعات وسواها لكسر قوة الشعب وإخراجه من ساحات الفعل والتأثير.
لسان حال الشعب للحكام: لا توجد سجون تتسع لكل الناس. ولن تستطيعوا إبادتنا جميعا. والفيصل في أمر جنوح الثورة إلى المزيد من العنف، بما فيه العنف المسلّح، هو سلوك السلطات تجاه ما يمارسه الشعب من الضغط بواسطة قوة العدد من اجل تحقيق مطالبه. في مصر فرضت قوة الشعب على الجيش الخيار بين اللجوء إلى عنف غير محسوب العواقب، والتخلص من رأس النظام من اجل إنقاذ النظام بعناصره الأساسية. كاد الأمر ان ينتهي بتنحي الرئيس لنائبه. وبدأ الحديث الأكاديمي والإعلامي عن مرحلة ما بعد الثورة فور سقوط حسني مبارك. أفشل الضغط الشعبي محاولات إنقاذ النظام بواسطة المؤسسة العسكرية. ومال الخيار الأميركي بوضوح باتجاه الإخوان المسلمين، المحمولين إلى السلطة في المرحلة الانتقالية على شرعية انتخابية ضعيفة لكنها معززة بالمال السعودي والقطري. ولم تعدم وسائل الإغراء: المحافظة الاجتماعية لـ«الإخوان» ونظرتهم الثقافوية الدينية ونجاحهم في تقديم أنفسهم بما يكفي من «الاعتدال» في القضية الفلسطينية، من خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، والخيار الغربي الأصلي بوحدانية «الحرب العالمية ضد الارهاب»، وباعتماد الوسطية الإسلامية في مواجهة الجهادية الإسلامية، وأخيرا وليس آخرا لخيارات «الإخوان» النيوليبرالية الاقتصادية الجامحة، إذ سارعوا إلى القبول بقرض الصندوق الدولي وشروطه والشروع في ضبط الحريات النقابية العمالية.
كان العام المنصرم مسرح ذلك الانقلاب الإسلامي لاحتكار السلطة. ويشهد مطلعُ العامِ الثالثِ الثورةَ ضد الانقلاب مفتتحا صراعا لا هوادة فيه بين خيارين.
إن ما يجري الآن في ارض الكنانة يعلن ان أجزاء حيوية من الشعب المصري، في معارضتها الاحتكار الاسلاموي للسلطة، تعارض أيضا النظام المدعوم بالمال السعودي والقطري والرعاية الأميركية. وهذا رد بليغ على الذين يريدون تصوير الثورات العربية على انها مؤامرات أميركية سعودية قطرية لتعميم النموذج الاسلاموي. فإن من يعارض الاحتكار الاسلاموي للسلطة، والخيارات المجتمعية التي يقدمها «الإخوان» والسلفيون والجهاديون على أنواعهم امامه الآن كل فرص الانخراط في هذا النضال لتغليب خيار على آخر، وهو الخيار الذي تعبّر عنه جماهير القاهرة والإسكندرية ومدن السويس بالغضب والتحدي والدم.
اما الذين يريدون نتائج الثورات من دون أكلافها فلا يفعلون غير التخلّي عن اي حلم بتغيير. والذين يتوقعون التغيير السياسي من دون تحقيق الغلبة في موازين القوى على الأنظمة لن يحصدوا إلا الهزائم. والذين يعارضون الثورات «السياسية» بحجة ان المطلوب ان تكون شاملة وثقافية، ينتهون حيث ينتهي الأمر بهم دائما: بدعم الأنظمة القائمة.
بالثورة يمكن إنقاذ حلم الثورة من المنطق ومن… الفشل.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى