هل أكّدت الحرب مخاوف إسرائيل بتحوّل حماس إلى نسخةٍ من حزب الله؟
يحاول الإسرائيليّون بذل كل جهد ممكن للتّغطية على هزيمتهم في الحرب “المثلّثة الأضلاع” من خِلال البحث بكلّ الطّرق والوسائل عن انتصارٍ عن طريق تجديد هجماتهم وبلطجيّتهم على المسجد الأقصى، و”الاستِئساد على أهالي حيّ الشيخ جرّاح العزّل في القدس المحتلّة، بشَكلٍ مكثّف في اليومين الماضيين.
وهذا لَعِبٌ حقيقيٌّ بالنّار يَعكِس ارتباكًا وهلعًا، ستكون له نتائج عكسيّة قاتلة عنوانها الأبرز “تثوير” الضفّة الغربيّة، وتصعيد حِراك أهلنا في المناطق المحتلّة عام 1948. وبِما قد يعيد إشعال فتيل انتِفاضة الصّواريخ في قِطاع غزّة مجَدَّدًا.
ما لا يراه الإسرائيليّون، والقادة في مؤسّستهم العسكريّة على وجه الخصوص، في ظل حالتيّ الارتباك والانكِسار التي يعيشونها، التّغيير الكبير الذي كشفته المعركة الأخيرة في قواعد الاشتِباك. والأسلحة الجديدة التي تملكها فصائل المقاومة. والأهم من كل هذا وذاك، الإدارة الذكيّة والمُتقدّمة للمعركة بشقّيها العسكري والسّياسي، وكيفيّة تعبئة العالم وتحشيده خلف القضيّة الفِلسطينيّة مُجَدَّدًا، وكأنّها ولِدَت من جديد.
ثلاثة حروب خاضتها “إسرائيل” في قطاع غزّة، الأولى عام 2008، وكانت حربًا من طريقٍ واحد بلا صواريخ، ولا “كورنيت” تحديدًا، ودون استِعداد، والثّانية عام 2012. شهدت سطوع نجم الصّواريخ ولكنّها كانت محدودة التّأثير، والثّالثة عام 2014 واستمرّت 55 يومًا.جرى خلالها تحطيم أسطورة دبّابة “الميركافا”، ووصول الصّواريخ إلى مستوطنات غِلاف غزّة، لكنّ الرابعة والأخيرة جاءت مختلفةً، بل مزلزلة، أصابت الدّولة العبريّة بالشّلل. ووصلت الصّواريخ (4360 صاروخًا) إلى 75 بالمِئة من أرض فِلسطين التّاريخيّة المحتلّة في 11 يومًا، والباقي لا يحتاج إلى المزيد من الشّرح.
إغلاق السّلطات المِصريّة للأنفاق على حدودها مع غزّة،
إغلاق السّلطات المِصريّة للأنفاق على حدودها مع غزّة، وبتَحريضٍ إسرائيليّ أمريكيّ، كان أكبر هديّة لفصائل المقاومة، و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” على وجه الخصوص، لأنّه جعلها تعتمد على قدراتها الذاتيّة، من حيث استخدام مواد محليّة، بِما في ذلك الأنابيب، وبقايا الصّواريخ الإسرائيليّة، وانتِشال متفجّرات من سفن بريطانيّة غارقة في البحر من زمن الحرب العالميّة الأولى، لتطوير مدى الصّواريخ إلى أكثر من 250 كم (صاروخ العيّاش) وبرؤوسٍ متفجّرة يزيد وزنها عن 200 كيلوغرام.
أكثر ما يقلِق “إسرائيل” وداعميها في الغرب هذه الأيّام أن تؤدّي عمليّة إعادة الإعمار إذا تحقّقت هذه المرّة، وبِما توفّره من مواد البناء من حديد وإسمنت الضروريّة، الفرصة لحركة “حماس” لإعادة ترميم بعض الأضرار التي لَحِقَت ببعض أنفاقها، وتوسيعها، وتقويتها. ولهذا يبحثون عن أطرافٍ “عربيّة” تتولّى عمليّة الرّقابة الشّرسة في هذا المِضمار. وهذا ما يفَسِّر “صمت” قيادة حماس في القِطاع القَلِقَة من الطّبخة الإسرائيليّة العربيّة الأمريكيّة في هذا المِضمار. فوقف إطلاق النّار لم يَكُن حِرصًا على أهلنا في القِطاع بقدر ما كانَ إنقاذًا لإسرائيل التي لم تَعُد تستطيع خوض حُروبٍ طويلة.
نظريّات جديدة بدأت تطفو على السّطح
نظريّات جديدة بدأت تطفو على السّطح، وبعد سريان مفعول الهُدنة “الهشّة” تحَذِّر من أنّ حركة “حماس” أصبحت نموذجًا مصَغَّرَا لـ”حزب الله” في جنوب لبنان. وأنّ قِيادتها في قِطاع غزّة تسير على نهج السيّد حسن نصر الله، ونحن نتحدّث هنا عن الثُّلاثي (الضيف، السنوار، عيسى) ونعترف أنّ هذه المقارنة في محلّها. وأنّ حزب الله بات مدرسة، بل أكاديميّة، وقدوة جِهاديّة تحتَذى، وهزم إسرائيل مرّتين، وحَرّر الجنوب اللّبناني. ولكن هناك فوارق رئيسيّة أبرزها عدم وجود انقِسامات طائفيّة ودينيّة في القِطاع أوّلًا، وحماس هي التي تحكم ثانيًا. ولا تدخل في ائتلافات حزبيّة سياسيّة أو عسكريّة مع آخرين ثالثًا، ولا يوجَد لديها مصرف مركزي بقيادة رياض سلامة، ولا تعاني من أزَمات اللّيرة صعودًا أو هبوطًا. وليس لديها عملة بالأساس رابعًا، ولا توجَد عندها نخبَة سياسيّة فاسدة جدًّا، خامسًا.
حماس” تتغيّر أيديولوجيًّا بسرعةٍ
“حماس” القوّة الرئيسيّة في القِطاع تتغيّر أيديولوجيًّا بسرعةٍ، وأبرز مظاهر هذا التّغيير جاء في خِطابها السّياسي المُتطوّر، والمُنفتح على القِوى الأُخرى، والتَّرفُّع عن الخِطاب الطّائفي، فلم يتَردَّد السيّد إسماعيل هنية عن توجيه الشُّكر لإيران والاعتِراف بدورها في دعم المقاومة بالصّواريخ وأسرارها، ولم يتأخّر زعيمها المُجاهد يحيى السنوار في القِطاع عن ترديد الشّعار الفتحاوي التّاريخي “إلى القدس رايحين.. شهداء بالملايين). ونسب الفضل فيه للرئيس الفِلسطيني “القائد” الشّهيد ياسر عرفات في خِطابٍ ألقاهُ في مظاهرة النّصر في القِطاع.
خِطاب حركة حماس الجديد ليس طائفيًّا ولا دينيًّا، وإنّما وطنيًّا عربيًّا. ولذلك لم يفاجِئنا أن تَرُدّ الحركة على لِسان السيّد أسامة حمدان، أحد قادتها في لبنان، على تحيّة الرئيس بشار الأسد بأحسن منها. والإشادة بسورية ودورها في دعم المقاومة، ممّا يعني عودتها إلى دِمشق باتت وشيكةً متجاهلةً في الوقتِ نفسه كلّ الانتِقادات الصّادرة من جماعاتٍ إسلاميّة سلفيّة متشَدِّدة. الأمر الذي فسّره البعض بأنّها أصبحت حركة تحرّر وطني، وبدأت مسيرة الخروج بسرعةٍ من منظومة الإسلام السّياسي “السنّي”. ولم تَعد تتحرّج من “المجاهرة” بالدّعم الإيراني، والعودة إلى سورية، حاضِنتها التّاريخيّة الأدفَأ.
الكثير من الآراء التي تحَذِّر من هشاشة الهُدنة الحاليّة
لا نَختلِف مع الكثير من الآراء التي تحَذِّر من هشاشة الهدنة الحاليّة. وتحَذِّر من الاطمِئنان للوعود الإسرائيليّة والأمريكيّة، والتّعويل كثيرًا مع تعهّداتٍ بإعادة الإعمار، ورصد المِليارات في هذا الصّدد فجميع هذه الوعود والتعهّدات سَمِعناها بعد عدوان عام 2014. ولم يتحقّق مِنها وَعدًا واحِدًا. وما زالت 86 ألف منزل مدمّر، مثلما نرَجِّح أنّ القِيادة الإسرائيليّة الذي بدأت تواجِه احتِجاجات غاضبة تتّهمها بالفشل وتبحث عن أيّ “نصر” ينقِذ ماء وجهها وتسوّقه لرأيها العام الغاضِب. ولكنّنا كلّنا إيمان يستند إلى بطولات رجال المقاومة وصمودهم. ووقوف الله معنا وهذا هو الأَهم، سيرتد كيدهم إلى نُحورهم مرّةً ثانية وثالثة وعاشِرة، فجُعبَة المقاومة ما زالت طافحةً بالصّواريخ والغوّاصات والضّفادع البشريّة الاستشهاديّة، والكثير من المُفاجآت.
عندما يتحدّى المجاهد السنوار الجِنرال بيني غانتس، وزير الحرب الإسرائيلي، الذي حاول اغتِياله مرّتين في أيّام الحرب الماضية. وفَشِل فشَلًا مهينًا. و”يتمخطر” بقميصه في شوارع غزّة بثلاثة حرّاس فقط، يصافِح البسطاء ويعانقهم ويشاركهم احتِفالهم بالنّصر. فهذا يَعكِس نتيجة هذه الجولة بدقّةٍ، مثلما يَعكِس الفارق بين القِيادتين الفِلسطينيّة والإسرائيليّة.
العشريّة البيضاء المجلّلة بأكاليل النّصر قادمة.. والأيّام بيننا.