هل انتهى زمن «القوائم السوداء» في الدراما السوريّة؟
أثار فيلم «الرابعة بتوقيت الفردوس» (إخراج محمد عبد العزيز) جدلاً واسعاً بعد عرضه في سوريا مؤخراً، لم يقف عند عتبة البحثَ في جدوى العمل وتشريحه كمنجزٍ فنيّ وفكريّ، بل تعدّاه إلى حدّ توجيه اتّهاماتٍ تطال الهويّة الوطنيّة لصنّاعه. حتّى أنّ بعض الأقلام لم تجد حرجاً في قراءة الشّريط وفق منظورٍ طائفيّ، يفترض أنّ المخرج تقصّد الإساءة إلى أقليّةٍ سوريّة في لقطةٍ أو اثنتين.
لو أنّ الاصطياد السّابق جاء في سنوات السّلم لسهُلَ تجاهله أو التعامل معه، تجاوزاً، كغلطٍ قابلٍ للتفنيد والتصويب، لكنّ العارفين بكواليس العمل الفنيّ في سوريا يدركون جيداً أنّ اتهاماً من هذا الطراز كان من شأنه أن يُعرّض محمد عبد العزيز للمساءلة لولا أنّ الأخير قد أنجز فيلمه تحت لواء «المؤسّسة العامّة للسينما»، التي أجرت بدورها مسحاً رقابياً للشريط قبل الإقرار بجواز عرضه في صالات دمشق.
هذا الحدث لم يكنِ الأوّل من نوعه، إذ أنّ الحرب السّورية أفرزت تصنيفاتٍ مشوّهة مسّت كلّ أشكال الجمال القديمة، وجاءت نتائجها كارثيّة على صعيد العمل الفنيّ، فصرنا نسمع عن شركات إنتاجٍ لتشغيل الممثلين الموالين، وأخرى لتشغيل الممثلين المعارضين، وعن مسلسلٍ يخدم فكر الموالاة وآخر يُبيّض صفحة المعارضة. نستذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، اعتذارَ عددٍ من الممثلين المحسوبين على الشّارع المؤّيد عن عدم المشاركة في الجزء الثّالث من سلسلة «ولادة من الخاصرة» (نصّ سامر رضوان/ إخراج سيف الدين سبيعي) بحجّة أنّ العمل يُقارب الأزمة السّورية من وجهة نظرٍ تتنافى مع قناعاتهم الشخصيّة. الأمر ذاته تكرّر مع مسلسل «حلاوة روح»، فالعمل الّذي كتبه رافي وهبي وأخرجه شوقي الماجري ألبس الراديكاليين الإسلاميين ثوباً ملائكياً ولم يخصّ الدولة السورية بمؤشّراتٍ إيجابيّةٍ تذكر، الأمر الّذي جعل عدداً من صنّاعه يتبرّؤون من فكر العمل ورسالته.
واقع الحال يقول إنّ الإقصاءات (السياسيّة / الفنيّة) ازدهرت في سنوات الحرب، وذلك ليس بجديد. وفي سياق الحديث عن نتائجها، نستذكر تصريحات لنقيب الفنانين السوريين زهير رمضان قبل أشهر، قال فيها إنّ النقابة تدرس جديّاً إلغاء عضوية عددٍ من الممثلين السوريين بحجّة أنّهم أساءوا لرموز السيادة الوطنيّة. وإذا كانت قائمة الأسماء الواردة في بيان النقابة محدّدة ومعلنة، فإنّ الكارثة تكمن في مساحة الارتجال الّتي تنضوي عليها «القوائم السوداء» المعمول بها في الدوائر الفنيّة التابعة للقطاع العام، والّتي باتت تصاغ بشكلٍ عشوائيّ يستند إلى «تقارير» يعدّها عددٌ من الوصوليين اعتماداً على أنصاف تصريحاتٍ وأشباه مواقف تخصّ بعضَ الفنّانين المقيمين داخلَ سوريا أو خارجها. لكنّ الرّجوع إلى أصحاب القرار في وزارة الإعلام يعيدنا دائماً إلى مربّع الحقيقة، إذ يقولون «إنّ العمل داخل سوريا متاحٌ لكلّ السّوريين المقيمين فيها، ومتاحٌ لكلّ من يدخل البلادَ بصورةٍ شرعيّة». هذا الافتراض برهنته التجربة، حيث شكّلت عودة الممثلة سلافة معمار إلى دمشق (صوّرت فيها أولى مشاهدها في مسلسل العرّاب) صفعةً لكلّ من روّج للشائعات الّتي تقول إنّ اسمها يتصدّر القائمة السوداء سابقة الذّكر، حالها في ذلك حال عددٍ كبيرٍ من الممثلين والممثلات، والأمثلة هنا أكثر من أن تُعدّ وتُحصى.
تسعى الدولة لتكريس سياسة المصالحات فنيّاً وسياسياً، وقد أثبت هذا النهج فاعليته بالنسبة لكثيرين. لكنّ الاستمرار به والاشتغال على إنجاحه يقتضي، بالضرورة، وضع حدٍّ لكلّ من يمتهنون الضّرب تحت الحزام وكتابةَ وصفات التخوين ومنح صكوكِ الوطنيّة لهذا المواطنِ أو ذاك، أو لهذا الفنّان أو ذاك، ولعل الساحة الفنيّة أحوج ما تكون إلى هذا الصّنف من الضوابط.
صحيفة السفير اللبنانية