هل تركيا معرَّضة لمنعطف استبدادي؟ (كاترين غويست)

 
كاترين غويست

هل تعيش تركيا اليوم أقوى أزماتها منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" الى السلطة عام 2002؟ الليرة التركية فقدت عشرة بالمئة من قيمتها خلال الشهر الماضي، والذي شهد عاصفة سياسية تسبّبت بها فضيحة فساد نالت من رئيس الوزراء نفسه، رجب طيب اردوغان؛ ومنذ انفجار الفضيحة، لا يتوقف أردوغان عن التصريح عالياً بأن ما يتعرّض له ما هو إلا مؤامرة حاكها حليفه السابق، فتح الله غولن، وتهدف الى إسقاطه. ولا يتوقف أردوغان أيضا عن إقالة مسؤولين كبار في الشرطة والإدارة. بل هو عازم على إقتراح مشروع قانون للبرلمان يعطي الحق القانوني للحكومة بفرض وصايتها على الجهاز القضائي. كيف بلغت الأمور في تركيا هذا الحدّ؟ ما هي النتائج المحتملة لهذا الصراع؟
هناك نقاط رئيسية يجب التطرق اليها في محاولة الإجابة على هذه التساؤلات:
أولا، ماهي جمعية فتح الله غولن؟ تعود نشأة جمعية "حزمت" (الخدمة) الى السبعينات من القرن الماضي. كانت على الشكل التنظيمي للشبكات، ويرأسها الإمام فتح الله غولن. هذا الداعي الاسلامي البالغ الثلاثة والسبعين من العمر، يعيش اليوم في الولايات المتحدة منذ ان ترك تركيا عام 1999، هرباً من ملاحقة السلطات التركية له بتهمة القيام بأنشطة "معادية للعلمانية". أنشطة الجمعية منكبة على مجموعة المدارس الخاصة التي تديرها، وهي تملك مجموعة من الأقنية التلفزيونية وصحيفة يومية اسمها "زمان"، هي الأكثر مبيعاً في تركيا.
تقول الجمعية ان أنصارها يعَدّون بالملايين وان لها "نقاط" ذات نفوذ في الشرطة والقضاء وفي عالم المال والاستثمار؛ فهي لها جمعيتها الخاصة برجال الأعمال. يقول المؤرخ التركي سميم اكغونول بهذا الصدد: "لا يوجد تنظيم هرمي في جمعية "حزمت". فتح الله غولن يعطي رأيه بموضوع، يلقي الخطب الدينية. أما تعليماته، فيتبعها "المقربون" منه، وينفذونها حرفياً".
يقول جامعي تركي آخر، هو هاكان يافوز أن هدف هذه الحركة هو "إنشاء دولة محافظة، وتحويل تركيا الى قوة إقليمية تملك رؤيتها الخاصة بالإسلام".
أما زميلته الباحثة دوروتي شميد فتضيف انه، في مجال العادات والتقاليد، لا تخفي حركة "حزمت" نزعتها المحافظة، خصوصاً في ما يتعلق بمكانة المرأة في المجتمع. أما "الحداثة" التي يدعيها زعيمها، فتح الله غولن، فهي تقتصر على المسائل الإقتصادية، وعلى تأييده للديبلوماسية الأميركية".
إلا ان الحركة، حسب سميم اكغونول، هي محافظة في المسائل الإجتماعية، ولكنها أكثر "قومية" من حزب "العدالة والتنمية"، خصوصاً في ما يتعلق بحقوق الكرد والأرمن.
ثانيا، طبيعة العلاقات بين أردوغان وغولن: منذ أن سيطر حزب "العدالة والتنمية" على الحياة السياسية التركية، عام 2002، وجمعية "حزمت" هي الحليف الأساسي للحكومة. فالجمعية تستند الى الأوساط الثقافية والإجتماعية نفسها التي يعوّل عليها الحزب الحاكم، وهي الطبقة الوسطى الدنيا ذات الجذور الأناضولية. ان هذه الشريحة التركية، وغالبية أفرادها هاجروا الى إسطنبول، عرفت صعوداً اجتماعية حقيقياً منذ وصول "العدالة والتنمية" إلى السلطة. والجمعية ساهمت في إرساء سلطة الحزب عبر مؤسسات، بقيت حتى وقت متأخر قريبة من النظام الأتاتوركي العلماني القديم، فيما دعم الحزب الاسلامي الحاكم تعيين مقربين من غولن في الإدارات الرسمية.
بعد التوترات الأولى بين حزب "العدالة والتنمية" حول السياسة الخارجية، استفحل الخلاف حول المسألة الكردية، وهي حسب سميم اكغونول "الخط الأحمر للقوميين الأتراك". وهو يتابع بأن "الغولينيون" عارضوا الحوار الذي بدأ عام 2011 مع الحزب العمالي الكردي، بزعامة عبد الله أوجلان. لكن الحرب بين الحليفين السابقين اندلعت في تشرين الثاني الماضي، عندما أعلنت الحكومة عن نيتها في إلغاء مدارس مساعدة على النجاح في الشهادات، تدير جمعية غولن المئات منها في تركيا، ما كانت تسمح لها بتعزيز مواردها وبتجنيد عناصرها (…).
ثالثا: هل تعود تركيا الى الإستبداد؟ منذ وصوله إلى السلطة، تمكن حزب "العدالة والتنمية" الحاكم من إعادة الجيش إلى ثكناته، بعد تحميل قادته مسؤولية عدة محاولات إنقلابية، باسم حماية القيم العلمانية للجمهورية التركية. المحاكمات الضخمة للمتهمين من العسكر انتهت بأحكام بسجن المئات من الضباط ذوي الرتب العالية. بالنسبة إلى سميم أكغونول فان هذه المحاكمات كانت بمثابة عملية "أيادي نظيفة" ضد "الدولة العميقة"، القائمة على مصالح مشتركة بين أجهزة الأمن القومي والشبكات المافيوية في آن. ولكن العدالة التركية استفادت من هذه المحاكمات لتلغي في طريقها معارضين وشخصيات معارضة ذات شأن في الحياة العامة.
منذ عامين أعلنت "لجنة حماية الصحافيين" التركية بأن تركيا هي "السجن العالمي الأول" للصحافيين. والمفارقة، يقول سميم أكغونول، "إن فقدان السلطة المصداقية نتيجة هذه التجاوزات الحادة قد يؤدي الى إعفاء اشخاص كانت براهين إدانتهم واضحة، صريحة، خلال تلك المحاكمات الصاخبة. والحال أن الدولة العميقة لم تختفِ تماما".
ولكن دوروتي شميد تلاحظ بأن تركيا "هي اليوم أكثر ديموقراطية مما كانت". ويعود ذلك، جزئياً، الى الجزْرة التي ترفعها المجموعة الأوروبية منذ العام 1999. آفاق وإمكانيات دخول تركيا الى الإتحاد الأوروبي سمح لتركيا بتحديث مؤسساتها؛ مثل إلغاء عقوبة الإعدام، وإصلاح نظام السجون، والإعتراف بالهوية الكردية وبداية تطبيع العلاقات مع أرمينيا".
ولكن سميم اكغونول يأسف بأنه "منذ أواسط العشرية الأولى من القرن الحالي، توقفت المجموعة الأوروبية عن لعب دور المحفّز على حماية الديموقراطية، بعدما رفضت تحديد تاريخ معين لدخول تركيا إلى عضوية الإتحاد الأوروبي. زيارة أردوغان إلى بروكسل، منذ أيام، تعامل معها الأتراك بلا مبالاة تامة. لو حصلت هذه الزيارة قبل أعوام لنشرت تفاصيلها على صحفات الإعلام، ولمدة أيام" (…).
أردوغان شخصية تسلطية، يحكم بلداً له تقاليد قديمة في التسلط. سمع جرس الإنذار في الصيف الماضي، مع تظاهرات شارع تقسيم، ولكنه ردّ عليها بما يشبه "مطاردة الساحرات الشريرات" بحسب دوروتي شميد، التي تتابع: "بما ان اعضاء حزب العدالة والتنمية عرفوا العمل السري، فهم يعرفون ماذا تعني خسارة السلطة. ما يدفعهم الى المغالاة في ردود أفعالهم" (…).

مجلة "الاكسبرس"الفرنسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى