هل ستُواجه المُعارضة السوريّة مصير نظيرتها “الإخوانيّة المِصريّة” وتبدأ الرّحيل إلى ملاذاتٍ آمنة خارج تركيا؟
أثارت تسريبات صحافيّة من إيران وروسيا حول طلب تركيا من الائتلاف الوطني السوري المُعارض مُغادرة أراضيها فورًا موجةً من الجدل في أوساط المُعارضة السوريّة أوّلًا، والأوساط الإقليميّة ثانيًا، وتباينت الآراء حول هذه المسألة بين نافٍ ومُؤكّد، بينما التزمت السّلطات التركيّة الرسميّة الصّمت المُطبق، ولم يصدر عنها أيّ تعليق، والشّيء نفسه ينطبق على قيادة الائتلاف الوطني في إسطنبول.
الذين يُؤيّدون هذه الرّواية، أيّ إبعاد الائتلاف الوطني من الأراضي التركيّة مثلما جاء في برقيّة لوكالة “سبوتنيك” الرسميّة الروسيّة، يربطون بين هذا التطوّر و”الانقلاب” اللّافت في الموقف الرّسمي التركي المُتَمثّل في المُصالحة مع الدولة السوريّة، والرئيس بشار الأسد، وفتح صفحة جديدة في العُلاقات وبِما يخدم مصالح البلدين، ويُشيرون إلى “سابقةِ” إقدام السّلطات التركيّة على إبعاد المُعارضة المِصريّة وحركة “الإخوان المُسلمين” تحديدًا، وإغلاق منصّاتها الإعلاميّة التي كانت تبث من إسطنبول، وتِكرار الشّيء نفسه مع حركة “حماس” بعد إعادة العلاقات التركيّة- الإسرائيليّة إلى أزهى عُهودها.
أمّا النّافون لهذه الأنباء، المُشكّكون في صدقيّتها، ورغم اعترافهم بأن هُناك بعض التّغيير في الموقف التركي تُجاه المُعارضة السوريّة، يقولون إنّه لم يصدر أيّ تأكيد رسميّ لهذه الخطوة، أيّ إبعاد الائتلاف الوطني، وأن التّسريبات جاءت في وسائل إعلام مُعادية للمُعارضة السوريّة مِثل روسيا وإيران، ولم تأتِ عبر وسائل إعلاميّة حياديّة، “موثوقة” ويغيب عن ذِهن هؤلاء أن اختيار منابر رسمية إيرانيّة وروسيّة كانَ مقصودًا لإيصال الرّسالة، والتّمهيد لما يُمكن أن يترتّب عليها من خطواتٍ لاحقة.
الأمْر المُؤكّد أن الرئيس رجب طيّب أردوغان يُعطي أولويّةً قُصوى هذه الأيّام للمُصالحة مع سورية، ومُحاولة إيجاد حَلٍّ سريع للتخلّص من حواليّ أربع ملايين لاجئ سوري على الأراضي التركيّة باتت قضيّتهم تحتلّ مكانةً بارزةً في حمَلات المُعارضة ضدّه وحزبه الحاكم (العدالة والتنمية) مع اقتراب موعد الانتِخابات الرئاسيّة والتشريعيّة المُقبلة (حزيران العام المُقبل)، ففي ظِل إغلاق أوروبا أبوابها ونوافذها أمام اللّاجئين السوريين، وتفاقم الأزمة الاقتصاديّة التركيّة، وتنامي الغضب الشّعبي، وتراجع شعبيّة الحزب الحاكم في استِطلاعات الرأي، لم يبق إلا بابًا واحدًا للتخلّص من هؤلاء وبطَريقةٍ فاعلة وسريعة، ونحن نتحدّث هُنا عن الباب الرّسمي السوري الأقل كُلفَةً سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، خاصَّةً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حليف البلدين، والمُتواجدة قوّاته في الأراضي السوريّة، يقف بقُوّةٍ خلف هذه المُصالحة.
مصدر مُقرّب من السّلطات السوريّة أكّد لنا في اتّصالٍ هاتفيّ معه أن السّلطات التركيّة لا يُمكن أن تتخلّى عن الائتلاف الوطني السوري المُعارض الذي يحظى باعترافٍ دوليّ، وتُريد استِخدامه كورقة ضغط في المُفاوضات المُتسارعة حاليًّا مع نظيرتها السوريّة بوساطةٍ روسيّة، فالرئيس أردوغان يُريد “حصّة” في أيّ حَلٍّ قادم في سورية، سياسيًّا كانَ أو اقتصاديًّا، وفتْح الطُّرقات أمام صادراته إلى الخليج، ولهذا لن يُفرّط بهذه الورقة، وكُل ما يفعله الآن هو مُمارسة ضُغوط على “الائتلاف” وقيادته كعمليّة “تدجين” أو “تطويع” لها، وبما يتماشى وينسجم مع السّياسة التركيّة الجديدة تُجاه سورية، والفصل بين الائتلاف “المُعتدل” والفصائل الأخرى المُصَنَّفة “إرهابيًّا” الموضوعة حاليًّا على مائدة التّصفية، وِفْقًا لتفاهماتِ قمّة سوتشي مع بوتين، وبُنود اتّفاق أضنة المُرَجَّح، لتحقيق المطالب الأمنيّة للبلدين.
أوّل خطوات التّدجين، والكلام للمصدر نفسه، تتمثّل في وقف التّمويل، للائتلاف أو تقليصه بالاتّفاق مع قطر، وسحب العديد من الامتِيازات التي تتمتّع بها قيادته ومُعظم كوادره على الأراضي التركيّة، وإغلاق بعض المكاتب، ووردت أنباء تُؤكّد هذه الضّغوط، مِثل تأخير صرف الرّواتب، حتى أن قِيادة الائتلاف لم تجد الأموال اللّازمة لشِراء تذاكر ونفقات الإقامة لوفدها للسّفر إلى جنيف، وما زال من غير المعروف ما إذا كانت هذه الضّغوط المحسوبة جيّدًا، مُؤقّتة أو دائمة، والإجابة مُرتبطة بردّة فِعل الائتلاف على هذه الضّغوط، سلبًا أو إيجابًا.
الرئيس أردوغان المعروف بحساسيّته الشّديدة تُجاه النّقد، خاصَّةً إذا جاء من حُلفائه، أو المُستفيدين من دعمه، أُصيب بحالةً من الصّدمة من جرّاء إقدام بعض فصائل المُعارضة السوريّة في إدلب وشمال سورية بالهتاف ضدّه بعد تصريحاته المُؤيّدة للمُصالحة مع دِمشق، وإقدام بعض المُتظاهرين على إحراق العلم التركيّ، ولم يكتف بالإيعاز للمُخابرات التركيّة باعتقال جميع من حرقوا العلم، أو أطلقوا شِعارات تُدين تركيا و”خِيانتها” للشعب السوري وقضيّته حسب أدبيّاتهم، وإنّما ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، أيّ رفع “البِطاقة الحمراء” في وجه جميع فصائل المُعارضة السوريّة كتحذير، وإنذار، ويبدو أن هذه الخطوة أعطت ثِمارها، وأرهبت مُعظم هذه الفصائل لانعِدام الخِيارات أمامها.
السّلطات التركيّة، تُنفّذ عمليًّا على الأرض ولا تُبلّغ أحدًا بخطواتها، فعندما غضبت على المجلس الوطني السوري المُعارض أغلقوا مكاتبه فورًا، وأوقفوا امتيازاته، وقطعوا الأموال عنه، وسحبوا السيّارات الخاصّة لقيادته، فرحَل إلى السعوديّة وبقيّة القصّة معروفة.
الحُكومات، وعلى رأسها التركيّة، تستخدم المُعارضات كأدوات، وأوراق ضغط ضدّ خُصومها، وبما يخدم سياساتها ومصالحها، وعندما تتغيّر الظّروف وتتقدّم المصالح تكون هذه المُعارضات الضحيّة الكُبرى، فالسّلطات التركيّة لم تتورّع عن تسليمِ قياداتٍ وكوادر مُعارضة من عِرقيّة الإيغور لتحسين العُلاقات مع الصين، رُغم أن هؤلاء من أُصولٍ تركيّة، وغضّت النّظر عن تصفياتٍ لمُعارضات شيشانيّة وإيرانيّة وعربيّة على أراضيها.
الاتّصالات السريّة السوريّة التركيّة تسير بشَكلٍ مُتسارع هذه الأيّام، والوصول إلى اتّفاقٍ برعايةٍ روسيّة باتَ وشيكًا، فالرئيس أردوغان في عجلةٍ من أمْره ويُريد اتّفاق المُصالحة هذا قبل الانتخابات، ولهذا بدأ يتجاوب مع الشّروط السوريّة التي تُطالب “بالأعمال وليس بالأقوال”، ولعلّ عمليّة “التّدجين” و”التّطويع” للائتلاف الوطني السوري هو أوّل الغيث، وبداية المُفاجآت، واسألوا المُعارضة الإخوانية المِصريّة ونُجومها الإعلاميّة وأينَ هُم الآن، وأين مِلف اغتيال الصّحافي جمال خاشقجي، ولماذا بدأت مُعظم المُعارضات العربيّة في إسطنبول تبحث عن مكانٍ آخَر.
ونختم بمَثلٍ إنجليزيّ شهير يقول “عندما تتصارع الفيلة فإنّ العُشب هو الضحيّة”، وربّما يُمكن قلب هذا المَثَل وتطويره بالقول “إذا تصالحت الفيلة فإنّ المُعارضات هي الضحيّة الكُبرى” والسّعيد من اتّعظ بغيْره.. واللُه أعلم.