هل عاش المتنبي عازبا.. أم أحب “امرأة غامضة”؟!
وأنت تقرأ أشعار أبوالطيب المتنبي، الذي يوصف بأشعر العرب، هل ورد إلى ذهنك موقع المرأة في حياته؟ وهل هي حاضرة كمحبوبة كما فعل أغلب الشعراء العرب القدامى أم لا؟
بل هل تزوج الرجل؟! أم أنه قضى عمره في مدح الأمراء والملوك والإطراء على الذات ونسي المرأة؟!
بخصوص المرأة بشكل عام فالمتنبي لم ينسها، فقد وردت في شعره لكن ليست بالطريقة المعتادة عند سلفه من الشعراء، وقد كتب رثاء لجدته لأمه، وكتب في المرأة عموما في ثنايا مدح الآخرين.
وهنا يختلف المؤرخون والدارسون لشعره وحياته، هل من امرأة حقيقية في حياة الرجل، أم أنه كان يبني أنسجة من الوهم!! فنحن نعرف حب جميل وبثينة وحب عنترة وغيرهما، ولكن لماذا لم نسمع اسم المتنبي مقترنا بأنثى محددة.
الشمس والهلال سيان
بادئ ذي بدء فإن المتنبي قد لا يكون محتقرا للمرأة كما يتصور البعض، فهو الذي نفى أن يكون للتذكير علو على التأنيث في قوله:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
لكن هناك من يرى أن المتنبي شاعر مخادع، فكثير من أقواله لا تعكس بواطنه، فقد كان يجري أحيانا على السياقات العامة لأجل المنفعة، ولهذا فإن دراسة شعره سواء بشكل عام أو بخصوص المرأة لن تعطينا أي حقيقة واضحة حول تاريخ حقيقي.
وهذا يجاري نظرية تقول بعزل النص عن السياق التاريخي للمؤلف، وقد ينطبق ذلك على شعر المتنبي، برغم دراسات حاولت سبر حياة المتنبي مثل كتابات طه حسين أو علي الجارم وعبدالله الطيب.
المتنبي ومحبة الجمال
كان المتنبي بشكل عام من خلال شعره يبدو محبا للجمال بشكل عام، ويرى النور في الأشياء التي تستحق ذلك وفق ذهنيته وتصوراته، برغم أن هناك من يراه محبا للذات وشغوفا بالأنا متكبرا لا يهتم بأحد ولا بجمال سوى نفسه.
لكن المعاني الخارجية الباهرة سوف ترينا بعضا من خبايا النفس مرات، حتى لو أن الشخص عاش بشخصية أخرى مدلسة لواقعه، ولنقرأ قوله في إحدى غزلياته يصف “حبيبته”، التي لا نعلم عنها شيئا، بأنها كالشمس في سطوعها ونقاوتها، وجمالها الآخاذ.. يقول:
كأنها كالشمس يعيي كف قابضه
شعاعها ويراه الطرف مقتربا
وهذا جزء من فيض في تجليات الجمال عنده، والاستعارة في هذا الباب، التي يمكن أن تخفف من حدة الخلوة التي كان يعشقها والقول بأنه كاره للآخر أو للمرأة أو الزواج، برغم أن لديه أبيات يشرح فيها أن سبب ابتعاده عن الزواج هو عدم رغبته أو خوفه من إنجاب الذرية أو أن ينجب أولادا ليس لهم من قيمة كسائر الذين يمارسون حياة مجترة لا طائل وراءها يستوي فيها فعل الحياة والموت، يقول:
في الناس أمثلة تدور حياتها
كمماتها ومماتها كحياتها
هِبتُ النكاح حذار نسل مثلها
حتى وفرت على النساء بناتها
وفي البيت الثاني صراحة واضحة أن الرجل لم يتزوج، ولم ينجب. لكن هل هذه هي الحقيقة؟! هل شعر المتنبي هو حياته الحقيقية؟!!
حقيقة زواج المتنبي من “أم محسّد”
هناك إشارة إلى أن المتنبي تزوج وهي إشارة غامضة تأتي في مواضع مختلفة من كتب التاريخ، بل إنه أنجب ولدا أسماه “محسّد” قُتِل معه في رحلته الأخيرة التي انتقل فيها عن العالم يوم داهمه فاتك الأسدي. ولكن لا يعرف متى أحب المتنبي أم محسد ومتى تزوجها وأنجب منها، فذلك غير واضح تماما.
وللمتنبي أبيات قالها في حلب مخاطبا أميرها، يظن أنها في شأن “أم محسد” وأسرته التي تركها خلفه وأن الإنسان يمكن أن يجول في العالم كيفما شاء لولا الأسرة والأبناء، إذ ينشد:
إن الذي خلفت خلفي ضائع
ما لي على قلقي إليه خيار
وإذا صحبت فكل ماء مشرب
لولا العيال وكل أرض دار
إذن الأمير بأن أعود إليهم
صلة تسير بذكرها الأشعار
وهناك رأي بأنه أراد أن يفصل حياته الخاصة ويكتمها كما يفعل بعض العرب، فآثر أن تكون خاصة به، يقول:
كتمت حـبك حتى منك تكرمة
ثم استوى فيه إسراري وإعلاني
كأنه زاد حتى فاض عن جسدي
فصار سقمي به في جسم كتماني
هل شغله المجد الذاتي؟
ثمة رأي غالب أنه برغم الدراسات الكثيرة التي تناولت حياة المتنبي وأشعاره إلا أنها لم تقدر على تحديد امرأة معينة كان الرجل يهيم بها عشقا، كما عند أقرانه من الشعراء.. وهناك من يرى أنه “لم تمتلكه المرأة ولم يشغله الحب”، إذ كان يترفع بطموحه الخاص وتوقه لبناء المجد الذاتي.
ويرى الدكتور سعد الشلبي أن المتنفس الوحيد الذي يفصح فيه المتنبي عن حبه المكتوم للمرأة هو مطالع قصائده، كقوله:
هام الفؤاد بأعرابية سكنت
بيتا من القلب لم تمدد له طنبا
بيضاء تطمع في ما تحت حلتها
وعز ذلك مطلوبا إذا طلبا
كأنها الشمس يعيي كف قابضه
شعاعها ويراه الطرف مقتربا
مرت بنا بين تربيها فقلت لها
من أين جانس هذا الشادن العربا؟
امرأة في الخيال/المثال
وهناك تصور أن المتنبي كان يهيم بامرأة في خياله لم يعثر عليها، وفي أشعاره مجرد محاولات للقبض عليها، في عالم الوهم. دون أن يحصلها في الواقع، وبالتالي فقصائده هي تصور للممكن في حيز اللاممكن، ورغم أنها لم تأت بقصيدة كاملة غزلية إلا أنه قدم صورة لعالم متكامل عن المرأة ورؤيته لها، وكسر القاعدة بأن يبدأ الشاعر بالنسيب أو الغزل، فهو يأتي عنده في أي موقع كان من القصيدة وبغض النظر عن المناسبة، كشأن المتنبي في اختراقاته لقواعد الشعر العربي.
وبخصوص المرأة الحلم، فالمقدمات الغزلية في شعر المتنبي تقدم لنا صورة لا بأس عنها، مثل قوله في إحداها:
وهل أنا بعدَكُم عائشٌ
وقد بنتَ عنّي وبانَ السكَن
فدى ذلكَ الوجه بدرُ الدجى
وذاك التثنّي تثنّي الغُصُن
فما للفراق وما للجميع
وما للرياح وما للدِمَن
كأنْ لم يكن بعد أن كان لي
كما كان لي بعد أن لم يكُن
موقفان أو رؤيتان وغموض مستمر!!
ويظل هناك موقفان حول المتنبي في هذا الموضوع، من يرى أن المرأة في شعره كما في حياته لم يكن لها من حضور واضح، وبالتالي كان وجودها هامشيا في مقابل الرأي الذي يرى أن المرأة كان لها نصيب كبير، وسيطرت عليه وانعكس ذلك بجلاء على قسم كبير من شعره، لكنه سلك طريقا غير السابقين ما جعل الصورة عنده غير مألوفة في ذلك الباب.
أخيرا.. يمكن الخلوص إلى أن زواج المتنبي كما عدمه يظل لغزا، وهو في الأساس مشروع شاعر غامض. وليس من قول إن المرأة غائبة عنه فهي حاضرة يكيّفها وفق الموضوع والحيلة والزمن، كما فعل في قوله بشأن أم سيف الدولة مدحا عن موتها:
ولو كان النساء كمن فقدنا
لفضلت النساء على الرجال
أما أم محسد الزوجة “المزعومة” فهناك من يرى أنها تلك الشامية التي أعجبته، فلو تزوج المتنبي فلن يغامر بسوى المرأة التي يحب.. وقد قال في تلك التي دغدغت عواطفة:
شامية طالما خلوت بها
تبصر في ناظري محياها
فقبلت ناظري تغالطني
وإنما قبلت به فاها
فليتها لا تزال آوية
وليته لا يزال مأواها
أحب حمصا إلى خناصرة
وكل نفس تحب محياها
حيث التقى خدها وتفاح لـبنان
وثغري على حمياها
لكن كل ذلك لا يعني أي حقيقة. لنكن حذرين. فالمتنبي شاعر مختال. هذه هي الحقيقة التي يجب أن نتأكد منها، وشخصيته برغم ما كتب عنها إلا أنها ما زالت غامضة لم تسبر أغوارها بما يكفي وما يقال عنها لا يتعدى وجهات النظر.
العربية نت