هل فقدت الإمبراطورية الأميركية رؤيتها الاستراتيجية؟

 

كتاب “الإمبراطورية والجمهورية في عالم مُتغيّر” للكاتِب الأميركي جورج فريدمان، لعلّه من أهم الكتب الاستراتيجية التي صدرت في الأعوام القليلة الماضية، والتي ترسم مسار النظام الدولي للعقد المقبل، أي القرارات الواجب اتّخاذها والنتائج المُحتمَلة لتلك النتائج. فمهمة هذا الكتاب -بحسب مؤلّفه- هو الكتابة عن نقاط الضعف الأميركية التي تتطلّب حلولاً.

التنبّؤ بقرن من الزمان هو فن الاعتراف بالمستحيل، يقول شرلوك هولمز:”عندما تحذف المستحيل ، فلا بدّ من أن ما يتبقّى هو الحقيقة مهما كانت غير مُحتمَلة. فمن الأفضل ترك التنبّؤ للمدى الطويل”.

يقول فريدمان: “في عهد الرئيس بوش والرئيس أوباما فقدت الولايات المتحدة الرؤية الاستراتيجية الطويلة المدى. وبدلاً من ذلك انطلق الرؤساء الأخيرون في مغامرات عشوائية، وأهداف لا يمكن تحقيقها، ونتيجة لذلك بالغت الولايات المتحدة في قدرتها على مدّ نفوذها في أنحاء العالم، الأمر الذي سمح حتى للاعبين الصغار أن يكونوا الذيل الذي يحرّك الكلب”.

 تحوّلت الولايات المتحدة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي من الاستراتيجية التي تركّز على محاولة احتواء القوى الكبرى، إلى محاولة بلا هدف مُحدّد، لاحتواء القوى الإقليمية المُهيمنة المُحتمَلة، عندما أضرّ سلوكها الحساسيات الأميركية.

لكن الولايات المتحدة كان لديها مخزون هائل من القوّة في التسعينات من القرن العشرين، وهو ما منحها مساحة فسيحة للمناورة وللتمتّع بنزواتها الأيديولوجية، فعندما تكون مُهيمناً بشكلٍ ساحقٍ فإنك لا تضطر إلى العمل بدقّة الجراح. ولم تكن الولايات المتحدة مضطرة للفوز،عندما كانت تتعامل مع الجهات الاقليمية المُهيمنة المُحتمَلة، بمعنى هزيمة جيش معادٍ واحتلال وطنه. ومن وجهة النظر العسكرية كانت الغارات الأميركية في التسعينات هجمات إجهاضية هدفها المباشر هو إغراق قوة إقليمية واعدة في الفوضى لإجبارها على التعامل مع التهديدات الإقليمية والداخلية في الزمان والمكان الذي يختاره الأميركيون، بدلاً من السماح لها بالتطوّر ومواجهة الولايات المتحدة بحسب الجدول الزمني للدولة الصغرى.

بعد الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001، أصبحت الولايات المتحدة التي استبدّت بها فكرة الإرهاب أكثر تشوّشاً، فغابت عنها رؤية مبادئها الاستراتيجية الطويلة المدى بالمرة. وكبديلٍ لذلك، خلقت هدفاً استراتيجياً جديداً، لكنه بعيد، وهو القضاء على تهديد الإرهاب. وكان المصدر الرئيسي لهذا التهديد هو تنظيم القاعدة.

عند الردّ على هجمات “القاعدة” في أفغانستان والعراق، اصطدمت الولايات المتحدة بالعالم العربي. وكان الهدف هو بيان القدرة الأميركية. والهدف كان ضربات إجهاضية وليس هزيمة الجيش.

لا بدّ من أن تبدأ الخطوة الأولى: العودة إلى سياسة الحفاظ على توازن القوى الإقليمي في المنطقة الرئيسية للاشتباك العسكري الأميركي، وهي مسرح عمليات يمتد من البحر المتوسّط إلى جبال هندكوش. ففي نصف القرن المنصرم كانت هناك ثلاثة توازنات قوى محلية لم تعد موجودة أو مستقرّة هي : الصراع العربي – الإسرائيلي، فالإسرائيليون لم يعد جيرانهم يهدّدونهم، وهم يحاولون الآن خلق واقع جديد على الأرض. والصراع الهندي- الباكستاني، فباكستان أضعفتها الحرب في أفغانستان ولم تعد ثقلاً مقابلاً فعّالاً للهند. والصراع الإيراني – العراقي وهو الأكثر أهمية، فالدولة العراقية انهارت تاركة الإيرانيين أشدّ القوى العسكرية بأساً في منطقة الخليج الفارسي.

مع أن الشرق الأوسط هو نقطة البداية لعودة أميركا إلى التوازن، فسوف تتطلّب أوراسيا كذلك إعادة ترتيب للعلاقات. فعلى مدى أجيال كان إيفاء تقدّم أوروبا التكنولوجي مقصوراً عن موارد روسيا الطبيعية وقوّتها العاملة وهي أحد أهداف السياسة الخارجية الأميركية.

في أوائل التسعينات عندما كانت أميركا القوّة الأعظم. وقد فقدت موسكو سيطرتها ليس على الاتحاد السوفياتي وحسب، بل روسيا وكان ذلك الهدف مهملاً. وعقب الحادي عشر من أيلول – سبتمبر عام 2011 مباشرة تقريباً، خلق التزام القوى الأميركية غير المتوازن بمسرح العمليات الذي يمتد من المتوسّط إلى جبال همالايا، فرصة سانحة لجهاز الأمن الروسي كي يستعيد نفوذه. ففي عهد الرئيبس بوتين بدأ الروس فرض أنفسهم من جديد حتى قبل الحرب مع جورجيا وسرّعوا عملية إعادة ظهورهم منذ ذلك الحين. ونتيجة لذلك تواجه الولايات المتحدة الآن قوّة إقليمية كبيرة لها أجندتها المختلفة التي من بينها السعي لأن يكون لها نفوذ في أوروبا.

على الرغم من ذلك، يؤكّد فريدمان أن الولايات المتحدة تمتلك ما أسماه “القوّة العميقة” وتعني القوّة الاقتصادية والعسكرية والسياسية بكمياتٍ مناسبةٍ وداعمةٍ لبعضها: وهي عميقة من ناحيةٍ أخرى حيث تقوم على أساسٍ من المعايير الثقافية والأخلاقية. فكل المهارة في العالم لا يمكنها تعويض الضعف الشديد. فأوروبا قوية اقتصادياً ولكنها ضعيفة عسكرياً، وتقوم على أساس شديد الضحالة، وهناك إجماع ضعيف من الناحية السياسية، وخاصة في ما يتعلّق بإطار الالتزامات المفروضة على أعضائها.

يردّ فريدمان على الأصوات الأميركية التي تطالب أميركا بالانسحاب إلى الداخل وترك العالم يسير كما يريد، بقوله: “لكن هذا لم يكن الوقت الذي تنتج فيه الولايات المتحدة 25 بالمائة من ثروة العالم. وهذا الإنتاج وحده يوقعها في شراك شؤون العالم. وتضمن السيطرة البحرية الأميركية على البحار قدرة الولايات المتحدة الاقتصادية على الوصول إلى العالم، ويمنحها القدرة على حرمان البلدان الأخرى من هذه القدرة. حتى إذا أرادت الولايات المتحدة تقليص اقتصادها إلى حجمٍ أقل ازعاجاً، فليست واضحة كيفيّة إحداث ذلك، ناهيك عن أن الأميركيين سوف يدفعون الثمن عند تقديم الفاتورة.

يؤكّد فريدمان أن ما تقدّم “لا يعني أن الولايات المتحدة مرتاحة بقوّتها، فقد تحرّكت الأمور بسرعة أكثر من اللازم. وهذا هو السبب في أن إعادة الولايات المتحدة إلى التوازن سوف تتطلب كذلك إجبار الولايات المتحدة على قبول موقعها الفعلي. فسقوط الاتحاد السوفياتي ترك الولايات المتحدة من دون منافس على الهيمنة العالمية”.

ويمُعن فريدمان بتوضيح مقصده بالقول إن “ما لا بدّ من مواجهته على نحو صريح، هو أنه سواء أردنا أم لم نرد، وسواء أكان ذلك مُتعمّداً أو لا، فقد خرجت الولايات المتحدة من الحرب الباردة، ليس باعتبارها المُهيمن العالمي فحسب، بل باعتبارها إمبراطورية عالمية”.

يرى فريدمان أن الأميركيين ليست لديهم رغبة في الإمبراطورية، ولا يعني هذا إنهم لا يريدون منافع اقتصادية واستراتيجية، بل يعني ببساطة إنهم لا يريدون دفع الثمن. يريد الأميركيون من النمو المتوقّع أن يفتح لهم الأسواق وليس الآلام.

إن الإمبراطوريات نادراً ما تكون مخطّطة أو متعمّدة، مثل إمبراطوريتي نابليون وهتلر، وتلك التي كانت كذلك لم تدم. أما تلك التي تصمد فتنمو نمواً عضوياً، وغالباً ما يكون وضعها الإمبراطوري غير ملحوظ إلى أن يعظم حجمها. وهذا ما كانت حال الإمبراطورية الرومانية والبريطانية، غير أنهما نجحتا لأنهما ما أن بلغتا الوضع الإمبراطوري لم تقرّا بذلك وحسب، بل تعلّمتا كيف تديران هذا الوضع.

البنية الأميركية للهيمنة على عكس الإمبراطورية الرومانية أو البريطانية ، غير رسمية، وهذا لا يقلّل من كونها واقعاً، فالولايات المتحدة تسيطر على المحيطات، واقتصادها مسؤول عن ربع إنتاج كل شيء. وإذا يتبنّى الأميركيون الأيبود أو صيحة غذائية جديدة، فإن المصانع والمزارع في الصين وأميركا اللاتينية تُعيد تنظيم نفسها لخدمة الأمر الجديد.

الحقيقة التي يجد الأميركيون صعوبة في استيعابها، هي أن حجم الإمبراطورية الأميركية وقوّتها مزعجان ومثيران للمشكلات بطبعهما. وهو ما يعني أن الولايات المتحدة نادراً ما تتّخذ خطوة من دون تهديد ما أو إفادة أخرى. وبينما تجلب هذه القوة مزايا تجارية اقتصادية هائلة، فمن الطبيعي أن تخلق أعداء. فالولايات المتحدة جمهورية تجارية، وتعيش على التجارة، غير أنه لا يمكنها الحفاظ على هذا الرخاء وهي منعزلة عن العالم. ولهذا السبب إذا كانت الولايات المتحدة تعتزم الحفاظ على ثروتها وحجمها، فإن الخيار الوحيد هو تعلّم كيفية إدارة نفوذها المُزعج بطريقةٍ ناضجة.

وإلى أن يتم الاعتراف بالإمبرطورية على ما هي عليه، فإنه من الصعب مناقشة فائدتها وإيلامها، وفوق ذلك حتميّتها. والقوّة التي لا منافس لها خطيرة جداً، ولكن القوّة التي لا منافس لها ولا تعي ما يجري حولها ولا تكترث له، هي أشبه بالفيل الهائج.

إن العقد المقبل لا بدّ من أن يكون عقداً تنتقل فيه الولايات المتحدة من الجهل المتعمّد بالواقع إلى قبوله، وإن على مضض. وستأتي مع هذا القبول سياسة خارجية جديدة أكثر تقدّماً، ولن يكون هناك إعلان للإمبراطورية، بل فقط إدارة أكثر فاعلية.

الجدير بالذكر أن جورج فريدمان هو رئيس مجلس إدارة ستراتفورد في أميركا.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى