بلا حدود

هل قرارتنا التي نتخذها هي تعايش مع الواقع أم احتكام إلى منطق الأمور ؟

ماهر المملوك

في مسار الحياة الإنسانية، تبدو القرارات وكأنها المفاصل الخفية التي يتحدد عندها اتجاه الطريق، وطبيعة التجربة، وعمق المعنى الذي نعيشه أو نفتقده. فمنذ اللحظة الأولى للوعي، وحتى لحظة الرحيل، نجد أنفسنا محاطين بسلسلة لا تنتهي من القرارات، بعضها صغير وعابر، وبعضها مصيري يرسم ملامح أعمار كاملة. غير أن السؤال الإشكالي الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: هل نحن فعلًا من نختار قراراتنا بحرية كاملة؟ أم أننا نعيش وهم الاختيار وندفع ثمن قرارات صيغت خارج إرادتنا؟

من حيث المبدأ، يُنظر إلى الإنسان ككائن عاقل يمتلك حرية الإرادة والقدرة على الاختيار. غير أن هذه الحرية، عند التمحيص، تبدو مقيدة بعوامل نفسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، بل وتاريخية، تجعل القرار أقرب إلى نتاج تراكمي لظروف معقدة، لا إلى فعلٍ حرٍّ مستقل.

فالإنسان لا يولد في فراغ، بل يُلقى في سياق محدد: عائلة معينة، جغرافية محددة ،بيئة اجتماعية بعينها، ثقافة سائدة، نظام تعليمي، ووضع اقتصادي يفتح أبوابًا ويغلق أخرى.

وإذا تأملنا في أولى “الاختيارات” الكبرى في حياتنا، نجد أننا لم نختر عائلتنا، ولا الوطن الذي وُلدنا فيه، ولا اللغة التي نعبّر بها عن أفكارنا، ولا القيم الأولى التي تشكّل وعينا. هذه المحددات المبكرة تلعب دورًا حاسمًا في رسم إطار قراراتنا اللاحقة. فالطفل الذي ينشأ في بيئة داعمة، مستقرة، تتيح له التعليم والتجربة، لا يمتلك الأدوات ذاتها التي يمتلكها طفل آخر نشأ في بيئة مضطربة، فقيرة، أو عنيفة. ومن هنا، يصبح الحديث عن “تكافؤ الفرص في الاختيار” حديثًا نظريًا أكثر منه واقعيًا.

أما في ما يخص اختيار الدراسة والعمل، فإننا غالبًا ما نعتقد أننا أصحاب القرار الكامل. غير أن الواقع يكشف أن هذا الاختيار محكوم بسوق العمل، وبما يفرضه المجتمع من تصنيفات للنجاح والفشل، وبضغوط العائلة أحيانًا، وبهاجس الأمان الاقتصادي في معظم الأحيان. كم من شخص درس تخصصًا لا يحبه، لا لأنه اختاره عن قناعة، بل لأنه “الأكثر طلبًا” أو “الأضمن مستقبلًا”. وهنا يبرز سؤال الثمن: هل ندفع لاحقًا ثمن قرار لم ينبع من شغفنا، بل من خوفنا؟

الأمر ذاته ينسحب على اختيار شريك الحياة، الذي يُفترض أن يكون أكثر القرارات خصوصية وحرية. ومع ذلك، فإن هذا الاختيار يتأثر بشكل عميق بمنظومة القيم الاجتماعية، وبالتوقعات الثقافية، وبالصورة النمطية للعلاقة “الناجحة”. كثيرًا ما نختار  أو نُقنع أنفسنا بأننا اخترنا ضمن دائرة المقبول اجتماعيًا، لا ضمن ما ينسجم فعليًا مع ذواتنا العميقة وحقيقة واقع مشاعرنا . ثم نكتشف لاحقًا أننا نعيش نتائج قرار لم نختبر حقيقته إلا بعد فوات الأوان.

أما اختيار الوطن أو الهجرة، فيُعد من أكثر القرارات تعقيدًا وألمًا. فهل يختار الإنسان الهجرة لأنه يريد ذلك حقًا، أم لأنه أُجبر عليها تحت وطأة الحروب، أو الفقر، أو انسداد الأفق؟ وهل البقاء قرار حر، أم استسلام لواقع لا يملك الفرد أدوات تغييره؟ في هذه الحالة، يصبح القرار أقرب إلى “أقل الخسائر الممكنة” منه إلى خيار مثالي.

من هنا، يمكن القول إن الإنسان يدفع ثمن قراراته، لكنه لا يدفعه دائمًا بوصفه صاحب السيادة الكاملة عليها. أحيانًا يدفع ثمن قرارات اتخذها بوعي، وأحيانًا يدفع ثمن قرارات فُرضت عليه، أو تشكّلت في وعيه دون أن يدرك حجم تأثيرها. السعادة أو التعاسة، النجاح أو الإحباط، ليست دائمًا نتيجة حسن أو سوء الاختيار، بل قد تكون نتيجة محدودية الخيارات ذاتها.

ومع ذلك، لا يعني هذا نفي المسؤولية الفردية أو إنكار دور الوعي. فمع نضج الإنسان، تتسع مساحة الإدراك، ويصبح أكثر قدرة على مراجعة قراراته، وتصحيح مساره، ولو جزئيًا.

إن الحرية الحقيقية لا تكمن في امتلاك خيارات مطلقة، بل في الوعي بالقيود، وفهم الذات، واتخاذ القرار الأكثر انسجامًا مع القيم والواقع مع مصارحة صادقة مع الذات .

وفي المحصلة، حياتنا هي نتاج تفاعل دائم بين ما اخترناه، وما فُرض علينا، وما قبلناه صمتًا، وما قاومناه بوعي. ولسنا دائمًا عقلاء أو محظوظين في قراراتنا، لكننا نظل مسؤولين عن محاولة الفهم، وعن السعي لتقليل كلفة الثمن الذي ندفعه.

فالقرار، مهما كان ناقصًا أو مشروطًا، يظل لحظة مواجهة بين الإنسان وذاته، وبين ما هو كائن وما يتمنى أن يكون وبين ماكان يتمناه ويحلم به وبين ما انتهى به الزمان والمكان  .

وكما قال الشاعر ،

عايزنا نرجع زي زمان                              قول للزمان ارجع يا زمان

وهات لي قلب لا داب ولا حب                  ولا انجرح ولا شاف حرمان…!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى