نوافذ

هل ما تقوله أمّي صحيح دوماً؟!

اليمامة كوسى

عندما كنّا صغارًا، لم تكن أمي توبّخنا عندما نكسر شيئًا من أشياء المطبخ أو من أثاث المنزل مهما كان ثمينًا في عينيها. لا تزال جملتها المعتادة التي كانت تردّدها وهي تهمّ بإبعادنا عن المكان ترنّ في أذني إلى الآن: “معلش ماما.. ما في شي بالحياة ما بينكسر”.

كلمات أمي ونظرتها إلى الأمور لم تكن مجرد كلمات عابرة نسمعها لحظيًا كما أغلب الأطفال لننساها بعد حين في جولةِ لعبٍ طفولية؛ كانت تغرس كلماتها عميقًا في نفوسنا تمامًا كما تغرس جذور النرجس الذي تعشقه في زريعتها الصغيرة، تسقيها في كل حين، تشذّبها، تُرينا مواطن جمالها وتجعلنا نشمّ عطرها في كل مناسبة.

كانت تذكّرنا بها دائمًا في أكثر لحظات قربها منّا، كانت تهمسُ لنا بها وهي ترتّب ياقاتنا قبل ذهابنا إلى المدرسة، تسكبها علينا مع المياه الدافئة في أيام الاستحمام، تحدّثنا بها وهي تقبّل جباهنا في الليالي التي تؤرقنا فيها نيران الحمى.

اكتشفت مع مرور الوقت مدى عظمة الشعور الذي ينبت في داخلنا عندما نلتقي بالأفكار للمرة الأولى. تلك اللحظة يُحلو لي أن أسمّيها “لحظة التكوين”؛ اللحظة التي لا يكون قبلها للأخيلة في المرآة أي انعكاس أو معنى، فهي التي ستخلق الانعكاس وهي التي ستصنع المعنى. للبدايات قداسة قد لا ينتبه إليها كثيرون، لا سيما أولئك الذين لا يشغلون أنفسهم بتأمل تنفّس الصباح أو بمراقبة محاولات استيقاظ برعمٍ نائم.

واعتبارًا لذلك، تعلّمت خلال حياتي أن جُلّ اهتمامي يجب أن يكون منصبًا على لحظة التكوين تلك. وأصبحت أؤمن بأن المرة الأولى التي نفكر فيها بأي شيء هي الأهم، الأبقى، والأكثر استحقاقًا لوصفها بـ “المصيريّة” من بين كل المرات الأخرى، لأنها بالفعل ستحدّد مصائر ما سيتلوها وستجيب بدقة على سؤال جوهري: هل سينمو ذلك الشعور ليصبح شجرةً وارفة الظلال أم أنه سيتيبّس ويموت؟

دائمًا ما تناديني كلمات أمي الأولى في مراحل حياتنا الأولى لأتمثّلها وأعمل بها، وها هي اليوم تناديني لأحكي عنها حكايةً قصيرةً تدعوني للضحك الكثير وتجنّبني البكاء الكثير في ذات الوقت.

كنت أقف مع أصدقائي في رتل الاصطفاف الذي كانت تنظّمه معلمات المدرسة لتسهيل دخولنا إلى الصفوف. كنّا نتحدث عن الواجب الذي علينا تقديمه لمعلمة الصف الثالث ذلك اليوم، لم ننتبه إلا وقد أقحم أحد الطلاب نفسه في الحديث وأخذ يحدثنا عن مِسطَرته الجديدة وكم أنها مِسطرة بلا شبيه اشترَاها له والده من أبعد وأندر متجر في العالم!

شدنا الحديث عن تلك المِسطرة فحثثناه على إخبارنا بكل ميزاتها. كان على وشك أن يصفها بـ “الفولاذية”، إلا أنه احترم – على ما يبدو – صغر عقولنا التي قد لا تعرف ماهية الفولاذ واكتفى بوصفها بـ “الحديدية”. وطيلة الطريق إلى الصف وهو يحدثنا عنها وعن قدراتها ونحن نصغي إليه باستمتاع دون أن نطفئ لهفة حديثه.

عندما خرجت المعلمة بعد انتهاء الدرس، نادانا أبو المِسطرة العجيبة من مقعده المجاور وقال: “على فكرة، فيني عيركن مِسطرتي تسطّروا فيها كم سطر كونها مستحيل تنكسر”. استوقفتني عبارته وترددت في الإجابة قليلاً، فكرت بأنّ أمي لا يمكن أن تقول شيئًا خاطئًا. وبينما كنت على وشك شكره على عرضه ذاك، حسمت أمري وقلت بتحدٍّ: “مين قلك إنها ما بتنكسر؟! ما في شيء بالحياة ما بينكسر”.

أخذ يستخف بقولي وبدأ يكرر ما حفظناه غيبًا عن مِسطرته الحديدية تلك، لكنني لم أستطع موافقته. كان جميع من في الصف يستمع إلى الحوار بانتباه. بدت اللحظة الحاسمة قريبة للغاية عندما همّ صديقنا بإحضار مِسطرته العزيزة من دُرجِه وأعطاني إياها مبتسمًا لأجرب كسرها أمام الجميع.

لا أدري لماذا يكون مسار بعض الأحداث مختلفًا عن تصوراتنا عنه بشكل غريب للغاية. صحيحٌ أنني حينها كنت أود أن أثبت صحة عبارة أمي، لكنني بذات الوقت شعرت بأنني قد لا أستطيع فعل ذلك لأسباب كثيرة. ورغم ذلك؛ كانت الغرابة سيدة الموقف فقد استغرقت لحظة كسر تلك المِسطرة بين يديّ أقل من ثانية دون مبالغة!

عمّت أرجاء الصف لحظة صمت عارم، إلا أنه لم يلبث أن تحول إلى موجة ضحك عالية شارك فيها جميع الطلاب. وبينما كنت أحاول إيجاد صلة الوصل بين تلك المِسطرة وبين العصا السحرية التي قرأت عنها ذات مرّة، فوجئت بسيل من الدموع ينهمر من عينيه.

حزنت كيف أنه كان يبكي بينما الجميع يضحك، لكنني فكرت بأنه مَن كان صاحب فكرة الإثبات العمليّ أمام الجميع، ولست أنا. اعتذرت إليه وعدت إلى مقعدي وأنا لا زلت أفكر فيما حدث وكيف أن ما قالته أمي كان صحيحًا.

في اليوم التالي، قدّمت له مِسطرة مطابقة تمامًا لمِسطرته من غير أن أخبره كم كان من السهل إيجادها في المكاتب القريبة لكيلا أزعجهُ أكثر. قلت له: “تفضّل هي أختها لمِسطرتك، بس يعني لا عاد تنسى إنه ما في شي في الحياة ما بينكسر”.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى