هل هزيمة ١٩٦٧ قدر؟ التأريخ والتشفّي الصهيوني (3)
لا أزال أعالج الكتاب الصادر حديثاً للمؤرّخ الإسرائيلي، غي لارون، «حرب الأيّام الستّة: تمزيق الشرق الأوسط»، الصادر عن دار نشر جامعة «ييل».
لا شك أن لارون، بالرغم من سمعة «المراجعة التاريخيّة للكتاب» (والمُراجعة هي الوصف الذي تكسبه تلك الكتب التي ترفض الرواية الإسرائيليّة الرسميّة عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي وعن تاريخ الصهيونيّة)، اعتنق المبالغة التقليديّة (الـ«موساديّة») عن قدرات وتفوّق العدوّ.
تراه يزهو، مثلاً، أن سلاح الجو الإسرائيلي «راقب كل حركة لكل ضابط وكل طائرة لسلاح الجوّ المصري» (ص. ٢٠٧). أليس مِن مبالغة في هذا القول؟ كل ضابط، وكل حركة؟ لكن التقدير الصهيوني حول قدرات الجيوش العربيّة كان صائباً وإن لم يكن مُعلناً—لأن العدوّ أراد ان يظهر بمظهر الضحيّة لا المعتدي.
كان العدوّ يعرف أن أكثر ما يمكن أن يفعله الجيش المصري ضدّه هو ضربة جويّة محدودة، كما أن طائرات الـ«ميغ» في حوزة مصر كانت محدودة في مداها (لم تكن تلك الطائرات تستطيع حتى أن تصل إلى المطار الجوّي الأساس في جنوب فلسطين المحتلّة، ص، ٢٠٨). أما الكتمان الذي اعتمده العدوّ حول تفوّقه الأكيد وحول الضمانات الأميركيّة بنجدة إسرائيل في حالة تعرّضت لـ«اعتداء» فكان مفيداً. دولة الاعتداء، كعادتها، لجأت إلى المقارنات مع النازيّة، وعبّأت يهود العالم. وفي الأسابيع التي تلت الحرب، جمع يهود العالم نصف ميليار دولار (أي ميليارات الدولار بقيمة دولار اليوم) لعوْن جيش العدو. وفي تعبئة العالم الغربي ويهود العالم، زوّرت وشوّهت حكومة العدوّ — كعادتها في تعاطيها مع تصريحات قادة دول وتنظيمات تواجه إسرائيل — تصريحات لعبد الناصر: وكان عبد الناصر قد تحدّث قبل الحرب عن «تدمير» قوّات العدوّ إذا ما تعرّضت مصر للعدوان، قائلاً بالحرف في خطاب أمام وفد مؤتمر العمّال العرب في ٢٦ أيّار ١٩٦٧: «فإسرائيل إذا بدأت بأي عمل عدواني ضد سوريا أو ضد مصر فحتكون المعركة ضد إسرائيل معركة شاملة مهياش معركة محصورة في حتّة… حتكون معركة شاملة وحيكون هدفها الأساسي هو تدمير إسرائيل» (نص الخطاب في «الأهرام»، ٢٧ أيّار، ١٩٦٧، كما يرد في «الوثائق العربيّة»، عام ١٩٦٧، ص. ٣٤٣). لكن «إذا» الشرطيّة تختفي من الترجمات الإسرائيليّة والصهيونيّة وتتحوّل كلمة «تدمير» (والتي شرحها عبد الناصر في مقابلة مع مراسل غربي، قائلاً إن هدف كل حرب هو تدمير قوّات العدو)، إلى كلمة «إبادة» (ص. ٢١٦). (مع أن هدف تدمير دولة احتلال ليس مشروع إبادة كما تصوّره الصهيونيّة بل مشروع تحرير). وكعادتها شاركت الصحافة الإسرائيليّة «الليبراليّة» في الحملات المشحونة للحرب، وطلع زئيف شيف (الكاتب المختصّ بالشؤون العسكريّة والذي كان بوقاً محضاً للآلة العسكريّة ـ الاستخباراتيّة للعدوّ، مثله مثل يوسي ملمِن اليوم) بمقالة يساوي فيها بين هتلر وبين عبد الناصر (هذه نغمة معتادة في دعاية العدوّ، كل مَن يعاديها، هو هتلر آخر، إسلاميّاً كان أم شيوعيّاً، فلسطينيّاً كان أم إيرانيّاً)، وحذّر الصحافي «المستقل» هذا من مخاطر عدم شنّ إسرائيل للعدوان. (ص. ٢٦٥)
واستعانت قيادة الجيش الإسرائيلي بكلمة «تدمير» (بعدما حوّلتها في الإنكليزيّة والعبريّة إلى «إبادة») ليس فقط في دعايتها الموجّهة نحو الغرب، بل أيضاً في بياناتها العسكريّة الداخليّة. فالكولونيل شمويل غورديش، قائد اللواء السابع المدرّع، توجّه إلى جنوده بالقول: «عبد الناصر يريد أن يبيدنا. لذلك يجب أن نبيده. لا تهدروا قذائف المدفعيّة على المدفعيّة المصريّة. اجتاحوهم أينما يكونون. اقتلوا، اقتلوا العدوّ» (ص. ٢٩٣). لو أن هذه اللغة وردت في تصريحات عسكريّة عربيّة، لكانت تُستخدم في كتب عن نماذج الخطاب الفاشي والنازي.
ويُعزّز المؤلّف القناعة بأن المخابرات الأميركيّة كانت يومها من أكثر الأجهزة الأميركيّة دعماً لعدوان إسرائيل (و«مآثر» نائب رئيس وكالة المخابرات، جيمس إيلغلتون، الذي ربط بين دعم إسرائيل وبين مواجهة الاتحاد السوفياتي، في دعم إرهاب إسرائيل معروفة). فهو حاول أن يُدبّر ذريعة اشتباك بين القوّت المصريّة والإسرائيليّة كي يبدأ الجانب المصري إطلاق النار، ليتحمّل المسؤوليّة عن الحرب (كان يريد أن يبعث بسفينة في مضيق تيران كي يستفزّ الجانب المصري ويجعله يطلق النار عليها، ص. ٢١١).
والعامل النوعي الذي عزّز التفوّق النوعي للعدوّ ضد كل القوّات العربيّة لم يكمن فقط في الدعم الأميركي والبريطاني والألماني والفرنسي بصورة خاصّة، بل كمن أيضاً في سياسة التسليح السوفياتيّة التي حرصت على تزويد حلفائها — حتى في فيتنام وكوبا وفقاً لدراسة حديثة عن الموضوع بين سنوات ١٩٦٥ و ١٩٦٧— بالأسلحة الدفاعيّة فقط (ص. ٢٢٦). وكتاب لارون يضيف جديداً عن المداولات السوفياتيّة حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي وعن عمق الخلاف بين الطرف السوفياتي والطرف العربي (وبين نظام خروتشوف والنظام الذي تلاه، وحتى بين شخصيّات الاتحاد السوفياتي في الحقبة هذه). ومُنظِّر الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، ميخائيل سوسلوف، عارض أي حرب بين العرب وإسرائيل وأوضح مدى اختلاف حكومته في موقفها مع موقف ماو تسي تونغ «المتطرّف» بالنسبة إلى الحرب ضد إسرائيل. والقيادة السوفياتيّة في تدخّلها لحلّ الخلاف في الحزب الشيوعي الإسرائيلي أصدرت رسالة رسميّة عارضت فيها «التعصّب الشوفيني ضد إسرائيل بين العرب» كما أنها حرصت على التمييز بين مختلف التيّارات والشخصيّات في داخل الكيان (ص. ٢٣٠-٢٣١).
وللأسف، يظهر كالعادة دور لبنان الرسمي كدور مُتواطئ (منذ إنشاء الكيان حتى نهاية الحرب الأهليّة وإعادة بناء الجيش على أسس جديدة وعقيدة جديدة) مع العدوّ الإسرائيلي في كل مراحل الصراع. فالتعامل العربي مع مشروع تحويل نهر الأردن كان ضعيفاً ومنافقاً: قويّاً في الخطب، وموارباً وخاضعاً للإملاءات الصهيونيّة ـ الأميركيّة في السرّ. والنظام الأردني التزم سرّاً بتعليمات مشروع جونسون في سحب المياه من سد المخيبة، ولبنان لم يرد الالتزام بالمشروع العربي لتحويل مجرى الحاصباني والوزّاني نحو بانياس. (لارون يعتبر أن لبنان لا يحتاج إلى مياه للريّ، ص. ١٢٢ لأنه ينطق باسم مصالح المزارعين في لبنان). وتجاهلت الحكومة اللبنانيّة الالتزامات التي وقّعتها في القمّة العربيّة الخاصّة بموضوع تحويل مجرى نهر الأردن (وينسب لارون الكذب اللبناني الرسمي بأنه كان نتيجة ضغوطات من الفلاّحين اللبنانيّين في الجنوب لأنهم لم يرغبوا بمياه ريّ إضافيّة. لكن كيف عرف لارون بأهواء ومزاج المزارعين اللبنانيّين؟ من جريدة «دافار» و«حيروت» (راجع الحاشية ١١ في ص. ٣٢٩). لم يكتفِ لبنان بتجاهل التزامه العربي أمام قمّة عربيّة بل هو أرسل (في أواخر ١٩٦٤ وأوائل ١٩٦٥) عبر الفرنسيّين رسالة سريّة إلى الحكومة الإسرائيليّة يقول فيها إن لبنان ليس في وارد إكمال أعمال التحويل التي بدأها، ،وأنه «لم يفعل ذلك إلّا لإرضاء الرأي العام العربي» (ص. ١٢٢). لكن إسرائيل طالبت بالمزيد من الضغوطات على لبنان وهدّدت باللجوء إلى القوّة فيما وصفت الحكومة الفرنسيّة أعمال التحويل اللبنانيّة بأنها «مزحة». لكن رابين هدّد لبنان رسميّاً في خطاب له في ١٤ تمّوز من عام ١٩٦٥ فتوقّفت أعمال التحويل اللبنانيّة (الشكليّة) بالكامل.
والوثائق الإسرائيليّة عن الحرب الاسرائيليّة وما سبقها تظهر كم أن العدوّ يتحدّث بلسانيْن أمام العالم، وكم يحرص على حجب مقاصده بلغة منمّقة، على عكس الأنظمة العربيّة التي كان خطابها يخفي مقاصد خجولة ومتحفّظة. فهذا موشي دايان يتحدّث في نيسان من عام ١٩٦٧ في مقالة فيقول عن جيش العدوّ: «مع أن الاسم الرسمي للجيش الإسرائيلي هو «قوّات الدفاع الاسرائيليّة»، فإنها ليست قوّة دفاعيّة… وأوضح مشهد للمنهج الجديد… هو في غياب التحصينات والجدران على الحدود… ببساطة، إن قوات الدفاع الاسرائيليّة هو قوّة مُقاتِلة عدوانيّة بعقليّة هجوميّة». إن الجيش الإسرائيلي يضع هذا المنهج موضع التطبيق في فكره وتخطيطه وخطة عمليّاته. (إن قيَم الهجوم) تسري في الحامض النووي (للجيش الإسرائيلي) وهو محفور في نخاعه العظمي» (ص. ٢٧٥).
لا، لم تكن هزيمة ١٩٦٧ حضاريّة أو ثقافيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة أو خلقيّة. كل هذه الأصناف من أدب تحليل النكسة كان إما خبيثاً في نواياه، أو عاطفيّاً في مقاصده، وأبعد ما يكون عن الدراسة العلميّة لأسباب الهزيمة الحقيقيّة. المؤرخ الصهيوني لارون كان أكثر تحديداً في تحليل أسباب النكسة. يلخّصها بالقول إن «مفتاح» نصر إسرائيل كمنَ في «التخطيط البعيد المدى» (ص. ٢٨٥). ويضيف أن العدو راكم معلومات استخباراتيّة عن «الأعمال الروتينيّة» لجيوش العرب على مرّ أكثر من عقد من الزمن. ويقول إن الجيوش العربيّة افتقرت إلى التخطيط والإعداد. ولارون مُحق أن الجيوش العربيّة أُعِدّت لحماية الأنظمة لا لتحرير الأرض أو رد عدوان إسرائيل، لكن النظام اللاديموقراطي يستطيع لو أراد ولو أعدّ أن يحقّق نصراً عسكريّاً. وحالة القلق والتحسّب الأمني و«التطهيرات» المتوالية في صفوف الجيوش العربيّة أضعفت من القدرات العسكريّة: فالنظام السوري «طهّر» ٢٠٠٠ ضابط و٤٠٠٠ ضابط صف منذ ١٩٦٦ حتى سنة الهزيمة. ودراسة كينيث بولاك، «العرب في الحرب» الفعاليّة العسكريّة، ١٩٤٨-١٩٩١» هو أيضاً يُعطي أسباباً تقنيّة وتكتيكيّة وليس حضاريّة أو تاريخيّة للقصور العسكري العربي المعاصر (والمُلفت أن دراسة بولاك تعطي صورة أفضل عن الأداء العسكري العربي المُعاصر مما يرد في الثقافة العربيّة المعاصرة، خصوصاً في أدب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الذي له من الصفات العلميّة ما لقصيدة نزار قبّاني «هوامش على دفتر النكسة»).
أما عن موضوع التجسّس الإسرائيلي، فيبدو من بحث لارون (الذي يعتمد على كم من الوثائق العسكريّة والأميركيّة المُفرَج عنها) أن العرب وقعوا ضحيّة أسطورة «إيلي كوهين» (إن أسطورة إيلي كوهين كانت أخطر من كوهين نفسه). لقد بولغ كثيراً في الفائدة التجسّسيّة للجاسوس الإسرائيلي المزروع في سوريا، وبولغ أيضاً في موقعه (بعض الروايات الاسرائيليّة، مثل «الموسوعة اليهوديّة الافتراضيّة» — والتي يعتمد عليها الصهاينة لضخّ الدعاية في مواد «ويكيبيديا» عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي — يزعم أن صداقة نشأت بين كوهين وبين أمين الحافظ وأن الأخير كان يريد أن يعيّنه نائباً لوزير الدفاع، وليس في الزعم من صحّة كما أن منذر الموصلّي (مدير مكتب الحافظ)، حكم على المعلومات التي كانت بحوزة كوهين بأنها «عامّة»، وهي وصلته من ثرثرات الماخور الذي أداره). لكن لارون لا يبالغ مثل التأريخ الصهيوني التقليدي، ويتحدّث أكثر عن وسائل تجسّس غير بشريّة، مثل اختراق شبكات الهاتف (ما يعزّز وجهة منظر المقاومة في لبنان في حماية شبكتها السلكيّة، والتي فضحها مروان حمادة في لقاء مع السفير الأميركي، لكن ليس بهدف خدمة العدوّ لأن حمادة — مثله مثل فؤاد السنيورة — لا يحتاج إلى فحص دم في وطنيّته). يقول لارون إن إسرائيل استثمرت مئات الملايين من الدولارات عبر السنوات التي سبقت الهزيمة على تكوين شبكة كوماندوس خاصّة مهمّتها زرع أجهزة تنصّت على شبكات الهاتف في «لبنان وسوريا وسيناء» (ص. ٢٩١). ويزهو الصهاينة بجاسوسيْن، كوهين في سوريا وولففغانغ لتز في مصر. (لا يذكر لارون في روايته أن فعالية لتز كانت محدودة وأن من أعماله «الناجحة» إرسال طرود مفخّخة أدّت إلى قتل مدنيّين في مصر، وأنه تزوّج من امرأتيْن (في مخالفة لقانون دولة العدوّ). وينقل لارون عن لتز حديثاً يزعم أنه أجراه مع جنرال مصر، والحديث لا يتصف بالصدقيّة والعبارات المستخدمة فيه هي عبارات لغة غربيّة.
والركون إلى الروايات والبيانات والتقارير العسكريّة العبريّة، لا يُمكن الركون إليه لما فيه من دعائيّة وأكاذيب فيما يُنسب للعرب (شعوباً وقادة). فلارون ينقل عن مصدر إسرائيلي لا مراجعَ لديه أن القيادة السوريّة كانت تلقي بالجنود الدروز في المواقع الأماميّة، وأن ضباطاً علويّين كانوا يربطون جنوداً دروزاً خارج الخنادق ويعرّضوهم للقصف المدفعي الإسرائيلي، وأنهم صرخوا بهم: «موتوا على يد أسيادكم». (ص. ٣٠٠). تستطيع التقارير الإسرائيليّة اختلاق ما تشاء، وتصبح في المخيّلة الرسميّة والاستشراقيّة الغربيّة تأريخاً لا يُرد.
والحكومة الأميركيّة، بالأمس كما اليوم، عوّلت على هزيمة حزيران من أجل رسم خريطة جديدة للمنطقة، وظنّت أنها تستطيع أن تميت قضيّة فلسطين. وخمّن والت روستو، في مذكّرة إلى جونسون، بأن شرقاً أوسط جديداً — لعلّه مثل الشرق الأوسط الجديد التي وعدت به كوندليسا رايس خلال عدوان تمّوز— سيسود وأن الاعتدال وقبول وجود إسرائيل ستكون من سماته. لكن روستو، ربط صعود الشرق الأوسط الجديد بـ«تحجيم عبد الناصر».(ص. ٣٠٣). هل كان ذلك مؤشراً على ضلوع أميركي في اغتيال عبد الناصر؟ ليس من دلائل بعد. ليس بعد. هذه الدلائل — لو توفّرت — تكون مدفونة في وثائق لا يُفرَج عنها ولا بعد مئة عام من الزمن.
وتوهّمت الحكومة الإسرائيليّة المنتشية بالنصر العسكري أن الحل لمشكلة الشعب الفلسطيني آتٍ لا محالة. قال موشي دايان في أيلول ١٩٦٧ في اجتماع حزبي: «لنقل للفلسطينيّين…ليس لدينا حل لكم وستستمرّون في العيش كالكلاب. سنرى ماذا ستسفر عنه هذه المسيرة… قد يغادر ٢٠٠٠٠٠ فلسطيني في غضون خمس سنوات وهذا شيء عظيم». لكن لارون يضيف أن دايان سرعان ما أدرك وهم تخيّلاته (لكن لارون المُراجع يصف سياسات دايان نحو الفلسطينيّين بأنها تمزج بين «الليبراليّة وبين الإجراءات القاسية» (ص. ٣٠٥). (يروي الحاكم العسكري في الضفّة الغربيّة، شلومو غازيت، الذي أوكل إليه دايان التحكّم بالأراضي الفلسطينيّة المحتلّة في ١٩٦٧، في كتابه «الجزرة والعصا: سياسة إسرائيل في يهودا والسامرة»، حقيقة فلسفة دايان. لكن كتاب غازيت لا يحدّد لنا ما هي «الجزرات» التي كان الاحتلال يقدّمها للفلسطينيّين، إلا في عدم استخدام العصا — هذه هي الجزرة الإسرائيليّة. لكنه يضيف أن الاحتلال عامل الشعب الفلسطيني معاملة حسنة ومن أمثلته عن هذه المعاملة الحسنة، تعيين عربي في «مجلس التبغ الوطني» ومجلس الزيتون الوطني» (ص. ٢٦، من كتاب غازيت). وكان إيبا إيبان نفسه يقول عن سياسة دايان نحو الفلسطينيّين أنها كانت تعتمد على «تأمين القوت الفردي للفلسطينيّين لكن من دون كرامة وطنيّة»).
أما الكلام الصهيوني الغربي، والذي لا يزال يتردّد في الخطاب العربي الليبرالي حتى الساعة، مِن أن الحكومة الإسرائيليّة قدّمت عرضاً سخيّاً للانسحاب (فقط) من الأراضي السوريّة والمصريّة بعد الحرب، فإن لارون يحسم الأمر في ذلك ويقول إن الحكومة الإسرائيليّة كانت تتوقّع أن تجبرها الإدارة الأميركيّة على الانسحاب (كما فعل أيزنهاور في عام ١٩٥٦). لكن بعدما أدركت أن أميركا لن تجبرها على الانسحاب، تراجعت الحكومة الإسرائيليّة عن العرض الوجيز (ص. ٣٠٦).
وفي درس اللمقاومة ضد إسرائيل، يعترف المؤلّف — من دون قصد — بأن عمليّات «فتح» ضد إسرائيل كانت فعّالة للغاية (خلافاً لمزاعم العدوّ يومها، وخلافاً لمزاعم سلطة أوسلو التي تعادي وتستخف بأعمال المقاومة): يورد لارون تعداداً إسرائيليّاً يظهر فيه أن «فتح» قامت بـ ١٢٥عمليّة بين ١٩٦٥ و١٩٦٧ (وقتلت فيها ١١ إسرائيليّاً)، بينما هي قامت بـ٥٨٤٠ عمليّة في السنوات الثلاث التي تلت هزيمة حزيران، وأدّت إلى مقتل ١٤١ إسرائيليّاً (كعادة الصهاينة، يدمج لارون بين المدنيّين والعسكريّين في تعداد «ضحايا» العدوّ، وذلك لتصوير المقاومة على أنها حرب ضد المدنيّين حصريّاً (ص. ٣١١).) إن الإيغال في الانهزاميّة في حرب ١٩٦٧ هو مثل الإيغال في الانتصاريّة في حرب ١٩٧٣. الغاية من المنهجيْن هو سياسي، إما للانتقاص من نظام ما، أو لتعزيز الشرعيّة السياسيّة لنظاميْن لم يتوقّفا لعقود عن استغلال حرب لم تحرّر أرضاً محتلّة. لقد كُتب عن نقد هزيمة ١٩٦٧ (عربيّاً) أكثر بكثير مما كان يجب أن يكتب في نقد أدب نقد الهزيمة، الذي أدّى إلى زيادة الإحباط الذي ولّدته الهزيمة. بولغ كثيراً في تحليلات أسباب الهزيمة، فيما كانت أسبابها محدّدة ومعروفة. الهزيمة كانت نتيجة استثمار بريطاني وفرنسي وأميركي وألماني (مالي وعسكري واستخباراتي في دولة العدوّ) من دون أن يقابله استثمار مقابل من الاتحاد السوفياتي. كان الاتحاد السوفياتي يمدّ الدول العربيّة بالسلاح الدفاعي، فيما نعمت إسرائيل بسلاح هجومي. وعبد الناصر تمنّع عن المبادءة بالحرب لأنه ليس فقط خشي من ردّة الفعل الأميركيّة بل لأن الطرف السوفياتي منعه من ذلك. أما إسرائيل، فهي علمت أن ضربتها (الأولى) ستحظى بتأييد أميركي أكيد، وهذا ما حصل.
لقد كان قسطنطين زريق أكثر تحفّظاً وتعقّلاً في كتابه عن «معنى النكبة» في تحليله لأسبابها من الكتابات التي تلت هزيمة ١٩٦٧، إذ تجده محذّراً من اليأس (ص. ١٣) وشارحاً أن المعركة مع العدوّ هي معركة طويلة (وأرفق ذلك بنصائح عمليّة كان من نتائجها أنها ألهمت أمثال جورج حبش وهاني الهندي ووديع حدّاد وغيرهم). فترى ياسين الحافظ يتأرجح بين وضع الهزيمة في سياقها التاريخي وبين الذهاب بعيداً في تحديد مكمن العلّة في الهزيمة وهي — بنظره — «تخلّف» العرب (ص. ١٠٠، من «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة»، في «الأعمال الكاملة لياسين الحافظ»). لكنه في دراسته عن التجربة الفيتناميّة راجع كتاب التجربة التاريخيّة الفيتناميّة») يصل إلى خلاصة أن الشعب الموحّد والمُعبّأ يمكن له «اختراق أسوار التخلّف» — لكن بقيادة «طليعته الثوريّة الحديثة» (ص. ١٠٨ من «الأعمال الكاملة»).
شطّت كثيراً كتابات النكسة في لوم «الإنسان العربي»، وحتى العنصر العربي. وقد حذّر حسين مروّة في مقالة في «الآداب» (عدد تموز ـ آب ١٩٦٧) من السلبيّة التي تبلغ «حدود الهدم…فضلاً عن كونه مناقضاً كل المناقضة للروح الحضاريّة التي يدعونها لأنفسهم»، واتهم هؤلاء النقّاد برمي الإنسان العربي في «مهاوي اليأس القاتل والانهزاميّة المميتة». وأصبحت الهزيمة مناسبة لضخ الفكر الرجعي الديني والغيبي بديلاً من الفكر التقدّمي. وكتاب «أعمدة النكبة» (كان أكثر الكتب مبيعاً عن حرب ١٩٦٧) يستهل شرح أسباب النكبة بلوم «فقدان الإيمان» (مع أن العنوان الفرعي للكتاب هو «بحث علمي في أسباب هزيمة ٥ حزيران»)، ويستشهد الكاتب بانتصارات عسكريّة المسلمين الأوائل متجاهلاً هزائم أخرى تاريخيّة للمسلمين. لم يشرح المنجّد أسباب انتصار الجيش الأحمر في الحرب العالميّة الثانية (ولم تكن الدولة السوفياتيّة ديموقراطيّة — ردّاً على أبواق النظام السعودي الديموقراطي الذين نسبوا وينسبون الهزيمة إلى غياب الديموقراطيّة في جمهوريّة عبد الناصر). إن كتاب لارون هو جزء من دعاية العدوّ عن نفسه من خلال الانتشاء المُستمرّ بنصر حقّقّه في عام ١٩٦٧. والإنتاج العربي السياسي فيما يُسمّى بـ«النقد الذاتي بعد الهزيمة» يؤدّي نفس غرض انتشاء العدوّ.
صحيفة الأخبار اللبنانية