هل هناك أدب سوري؟ المخيّلة المحتلّة
هناك من يعتقد أن الأدب والشخصية السورية تحققا منذ قرون، لكن ثمة من يرد الأدب إلى وطنية ضيقة. وثمة من يعتبر أن الأدباء السوريين لم يبدعوا في سوريا ولكنهم أبدعوا في بيروت.
بدا النقاش على أشده حين طُرح السؤال: (هل هناك أدب سوري)؟ البعض علل ذلك بالحقيقة الحضارية البعيدة للبلاد السورية، في حين ناقش الآخرون هوية الأدب من موقع الرافض لمنحه جنسية أو توطيناً تبعاً للجغرافيا أو الإقطاعات السياسية، رادين ذلك إلى شخصية الكتابة نفسها؛ فيما ردها آخرون إلى هوية أصحابها.
سؤال يشبه الإهانة ــ يقول الكاتب حسن م. يوسف (للسفير) موضحاً: «السؤال بصيغته هذه يتطلب مني أن أتحدث بثلاثمئة كلمة عن سوريا وأدبها الممتد في الزمن حوالي تسعة آلاف عام، وهذا أمر يمس كلا من المسؤول عنهما: الأدب وسورية! لست من هواة التعريفات، فأنا من رأي الفيلسوف الهولندي (باروخ اسبينوزا) إذ يقول: (كل تعريف هو نفي) إلا أن أية إجابة على السؤال الوارد أعلاه تقتضي تحديد كلمتين وردتا فيه هما (الأدب) و(سوريا) وهذا المسعى لا يقل تنطعاً عن محاولة اختصار ماضي وحاضر كل من صحراء كاليهاري والربع الخالي، مثلاً، بحفنة رمل».
تشمل كلمة (أدب) كل ما دوّنه الإنسان تعبيراً عن خبراته الإنسانية على مر التاريخ، وهذا يتضمن كل أنواع الشعر من تقليدي وتفعيلة وحديث؛ إضافة لمختلف أجناس النثر من أساطير ومقامات وقصص وروايات ومسرحيات وأدب رحلات، وقصص خيال علمي …الخ؛ أما كلمة سوريا فهي لا تقتصر على الجغرافيا والبشر الذين يعيشون ضمن حدود سوريا الحالية البالغة (185180 كم مربع) بل تشمل جل بلاد الشام والهلال الخصيب ــ يوضح الأديب حسن م. يوسف مضيفاً: «اسم سوريا وفق أوفر النظريات الأكاديمية حظاً مشتق من آشور. ولو حصرنا كلامنا بحدود سورية الحالية سنجد أنفسنا أمام بلد ظل حاضراً باستمرار على مدى آلاف الأعوام، ففي أواخر القرن الماضي اكتشفت في منطقة منقار البطة بأقصى الشمال الشرقي من سورية مدينة ضخمة اسمها (حاموكار) تم تدميرها من قبل غزاة قبل خمسة آلاف عام مما يجعلها أقدم مدينة في تاريخ البشرية.
نعم الأدب السوري موجود ومعبّر عن بيئته بألق! ــ يرى صاحب (العريف غضبان) أن الأدب السوري لا يقتصر على حنا مينة وعبد السلام العجيلي وسعد الله ونوس وسعيد حورانية وبدوي الجبل ومحمد الماغوط وأدونيس وعادل قرشولي ونزار قباني وعمر أبو ريشة وكوليت خوري ومحمد الفراتي ووليد إخلاصي وغادة السمان وعلي الجندي … وغيرهم ممن أثروا الأدب العربي والعالمي، بل يشمل (أغنية المهد الأوغاريتية) وأسطورة (أقهت ابن دانيال) وفلسفة (زينون) وفكر (لقيان السميساطي) وشعر (ميلاغر) الذي كتب في القرن الثالث قبل الميلاد يقول:» صُوْرْ كانت مربِّيتي، وجَدرة، التي هي أتيكا، التي تقع في سوريا، ولدَتني. فإذا كنت سورياً أين هي الغرابة؟ أيها الغريب، إننا نَقْطن بلداً واحداً هو العالم، وشيء واحدٌ أَنْبَتَ كلَّ البشر!».
كلام (حسن م. يوسف) سانده فيه الشاعر زيد قطريب: «بالطبع هناك أدب سوريّ، وسوري تعني كل سوريا التاريخية التي تمتد من طوروس إلى زغروس ومن المتوسط إلى البحر الأحمر وصحراء النفوذ.. وقد قرأنا ذلك الأدب منذ فترات ما قبل الميلاد حتى اليوم، لكن الملاحظ أن الأدب السوري بهويته الحقيقية كان يغيب تبعاً لعامل التأثيرات القسرية التي تعرّض لها جراء غزوات الآخرين، وكان ظهوره وغيابه في كل مرحلة مرتبطين بمدى تنفس الحيوية السورية وتمكنها من إنبات أغصان جديدة بعيداً عن أيدي الحطّابين من الغزاة الجيران على نحو خاص».
الخصوصية في الأدب هي عالميته بالتأكيد؛ فنحن لن نضيف جديداً إلى الذائقة البشرية عندما نكتب مثلما يكتب الألماني أو الأميركي، حتى الثقافات الأخرى تبحث عن خصوصيتنا في أدبنا وتستهجن كل تقليد أعمى للثقافات الأخرى – يقول (قطريب) موضحاً: «طبعاً هذا لا ينفي عامل التفاعل بين كل الثقافات التي أنتجتها البشرية لكن بمنطق التفاعل وليس الغزو ودعم ثقافة على حساب أخرى.. يمكن القول اليوم إن المخيلة السورية واقعة تحت الاحتلال بكل بساطة وهو جزء من بحث نقدي أعدّه حالياً، احتلال النص الديني من ناحية، واحتلال النص الصحراوي من ناحية أخرى، ولن نعثر على ذاتنا في النص الأدبي إلا بتحرير المخيلات من هذين الاحتلالين وهذا ما فعله الماغوط إلى حد ما، وأيضا أدونيس والسياب وفايز خضور والبياتي وغيرهم كثير لكن بنسب مختلفة؛ فالقضية فكرية شائكة مثلما هي مرتبطة بأسلوبية الكتابة، ولا يمكن أن نضيف شيئاً إلى الأدب العالمي ما لم يتم التحرير من الاحتلالين المذكورين؛ فعالمية الشعر الأميركي تأتي من أميركيته.. كذلك الرواية في أميركا اللاتينية، والهايكو الياباني، فالفرادة تأتي من الخصوصية والمحلية لكن الجميع جزء من الطيف البشري في نهاية الأمر».
البعد الإسلامي
المحليّة ظاهرة سابقة على كل أثر إبداعي، وهي تتداخل جدليّا ً مع كل نشاط اجتماعي، بما في ذلك الأدب، إذ تمنح للأدب خصوصيته التي تميّزه عن غيره، وتستمد في الوقت ذاته بعضا من عناصر حيويتها واستمرارها. وبالتالي فالمحليّة في الأدب، سورياً كان، أم مصرياً، أم فرنسيّاً، لا ينتجها الأدب بحد ذاته، بل خصوصيّة الهوية المجتمعيّة التي يجسّدها – يداخل هنا الناقد (ياسر اسكيف) على كلام (م. يوسف) و (قطريب) فيقول: «لنا في الدراسات التي تناولت جذور الواقعيّة السحرية في أدب أميركا اللاتينيّة ما يدعم ذلك. والأمر هنا لا يخصّ الأدب وحده، بل الكل الثقافي الذي يشكل الأدبُ جزءاً منه. إذا من الشخصيّة الثقافيّة التي تشير إلى جماعة بشرية دون غيرها تبدأ كل الخصوصيات، وبالتالي المحليات. وهنا يجوز السؤال إن كان هنالك يوماً ما يمكن أن ندعوه ثقافة سورية. إذ ما من مفهوم للوطنيّة السورية قد مورس لعقود طويلة، وكانت الغلبة دوماً لنوع من تماهي الوطني في القومي لدرجة أضاعت المفهومين وأطاحتهما، ومعهما أطيحت الشخصيّة السورية التي إن وجدت نفسها يوماً، على نطاق بالغ الضيق، فإنما خارج الحدود الإدارية السورية، وبنسب جغرافي صريح».
بالنسبة لـ (اسكيف) كان الأمر دوماً يتجسّد له بثقافةِ سوريِّين، وليس بثقافة سورية. وهذا ينسحب تماماً على الأدب كنشاط إنساني في إطار مُجتمعي مُحدّد – يعقب الناقد السوري: «يمكنني القول بوجود أدباء سوريين، لكنّ سوريّتهم، إلا في حالات نادرة جداً، لم تأتِ من خصوصيّة مميّزة تعكس هوية محليّة، بل من الانتساب الجغرافي الإداري، وهذا لا يخصّ الأدب السوري وحده، إنما سائر الآداب التي أُنتِجَتْ في الأقطار العربية. والسبب في رأيي يعود إلى طغيان البعد الإسلامي على الثقافة الناطقة بالعربية، وأحيانا يترافق مع القومي/السياسي؛ فالمحليّة في الأدب تذكرني دوماً بالسجّاد الفارسي، أو الأقنعة الأفريقيّة. إنها الوشم الذي يميّز، والرائحة التي تشير، والملمس الذي يقود. وهذا ما افتقر إليه الأدب المكتوب بالعربية دوماً، ومنه الأدب المُنتج في الحيز السوري. مع أنه من المُفترض، نتيجة للتعدد في الهويات والخصوصيات ضمن التشكيلة المجتمعيّة السورية، أن تكون الأكثر إمكانية لخلق التميّز في المُنتج الأدبي. غير أن داء (أمّة عربيّة واحدة) قد أجهض كل تطلع بهذا الخصوص».
الهويات الضيقة
ليست المحليّةُ تواريخَ وأسماء أمكنة، أو حديثاً عن عادات وتقاليد، بل هي الروح التي تنبض في كلّ هذا لتشــكّل ما لا يشبه غيره. وإن كان من عالميّة في الأدب فهي في خصوصيته الشديدة، وليس العكس أبداً. والأدب الأمين لروح الهوية المحليّة النابضة، والبعيد عن هوَس منافسة الآخر على خصوصيته، هو الذي يثــير فضول الآخر ويدفعه إلى الاهتمام به والسعي للإطــلاع عليه.
الروائي (خليل صويلح) تساءل مستغرباً: «(أدب سوري)!؟ بهذا المعنى المباشر لا أجده إلا في مسلكه الجغرافي، ما يتعلّق بمسقط الرأس، والبيئة الأولى، ما عدا ذلك، فإن الأدب لا يمكن تأطيره بالهويات الضيّقة، ودمغة المختار. أن تكتب باللغــة العربية فهذا يعني نفي الحدود، وإطاحة مركزيــة الأدب، وتالياً، ليس مهماً أن تكون سورياً أو موريتانياً، فالأدب صوت الفرد، والتلقي صوت الجموع، كما أن الأدب حصيلة حفريات لا تعترف بالجغرافيا، قد يكون أبو حيان التوحيدي (البغدادي)، أقرب إلي، وأكثر تأثيراً من أي كاتب سوري مثلاً».
في حال جرّبنا أن نضيّق فتحة العدسة، وفقاً لرغبة السؤال ـ يضيف صاحب (دع عنكَ لومي): «لن أجد المثال الشافي في التعبير عن شخصية محليّة متخيّلة في رواية مثلاً، صارت علامة، على غرار الروح المحليّة التي حققها نجيب محفوظ في رواياته. وفي المقابل لا يمكنني أن ألجأ إلى أسماء مثل أدونيس، ومحمد الماغوط، ونزار قباني، وغادة السمّان كأمثلة تفيد بوجود أدب سوري، فهؤلاء لم يحققوا حضورهم لولا هجرتهم إلى بيروت، وتالياً إعادة تصــدير أصواتهم إلى بلد المنشأ. لنكفّ إذاً، عن رسم مثل هذه الخرائط، ونردد مع ماركيز (المهم أن تكتب أدباً جيّداً) وكفى».
صحيفة السفير اللبنانية