هل هناك ما يسمى بالأدب الإسلامي؟ (شعبان يوسف)
شعبان يوسف
أزعم أن هناك تيارا في الثقافة المصرية وربما كذلك العربية، يحاول بقدر كبير جدا من الدأب والإصرار أسلمة الأدب والثقافة والفنون، وينتزع منها كل ما هو مديني ومعاصر، ويصبغها بكل ما هو ديني وسلفي، وهذا التيار ليس جديدا على الحياة الثقافية المصرية، بل هو قديم جدا، وتمتد أصوله التنظيرية والفكرية والتطبيقية منذ أوائل القرن الماضي، أي القرن العشرين، وحاول هذا التيار أن ينسب كل ما يتعلق بالثقافة والقصص الإسلامية إلى هذا الأدب، وتم إدراج روايات الكاتب والمؤرخ جرجي زيدان ضمن الروايات الإسلامية، وتم الاحتفال به خاصة، وكان تأسيسه لمجلة الهلال منذ أواخر القرن التاسع عشر تكريسا ملتبسا لمفهوم الأدب الإسلامي، وهذا يثير قدرا كبيرا من الحيرة، لكون زيدان مسيحيا، وفي الوقت ذاته يكتب روايات في الدين الإسلامي إلا قليلا، مثل رواية المملوك الشارد، ولبراعة زيدان في كتابة هذا النوع من الروايات لم تحسب هذه الروايات بوضوح على ما أطلق عليه في ما بعد بالأدب الإسلامي، وكان التقريظ الذي ناله جرجي زيدان من النقاد والكتاب آنذاك، ساعد على استبعاده من أن ينحصر في خانة إيديولوجية، فأسميت رواياته بالروايات التاريخية مجازا، هذا لم يمنع أن تقتفيه بعض الأقلام في ما بعد لتكتب على منواله روايات تاريخية ذات توجه إسلامي مثل محمد سعيد العريان الذي كتب روايته الشهيرة "على باب زويلة" وعلي الجارم الذي كتب "غادة رشيد" تأثرا بعناوين زيدان التي كانت تعتمد على مفردة "غادة" وتعتبر السلالة التي اقتفت آثار كاتبنا كبيرة جدا، وآثرت أن تعطى الطابع الإسلامي المحض للروايات التاريخية، وعلى رأس هؤلاء علي أحمد باكثير، الذي كتب الشعر والمسرح والرواية، ومن أشهر رواياته رواية "واإسلاماه"، هذه الرواية التي انتشرت انتشارا كبيرا، وتحولت إلى فيلم سينمائي، وتم تقرير الرواية على المدارس المصرية، ورغم الطابع التاريخي الواضح، إلا أن الطابع الإسلامي يبدو جليا، والكاتب يقدم الرواية بآية قرآنية تقول: "قل إن آباؤكم وأبناؤكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله" ورغم أن الكاتب ينتصر في الرواية للحظة مضيئة في التاريخ المصري، إلا أنه يقرن هذه اللحظة بانتصارات إسلامية، ويقول في المقدمة: "ويشاء الله أن تحمل مصر لواء الزعامة في هذا الجهاد الكبير، فتحمي تراث الإسلام المجيد بيومين من أيامها عظيمين كلاهما له ما بعده، يوم الصليبيين في فارسكور، ويوم التتار في عين جالوت". وتعتبر هذه الرواية من أبرع هذا النوع من الروايات، فهذا الكاتب الذي ينحدر من أصول غير مصرية تنتمي لليمن، شارك في الحياة الثقافية المصرية منذ أواخر الثلاثينيات، وأحيانا تنسب له ريادة الشعر الحر، بعد ترجمته لإحدى روايات شكسبير على طريقة التفعيلة، ولكنه انحاز للمسرح ذي الطابع الإسلامي أيضا في ظل مرحلة الأربعينيات التي كانت تموج بمختلف التيارات، وازدهرت هذه التيارات بقوة شديدة في تلك الفترة، فهناك من انحاز للرواية التي تتكئ على التراث المصري القديم، ومن أبرز هؤلاء نجيب محفوظ الذي كتب ثلاث روايات هي "عبث الأقدار"، "رادوبيس" و"كفاح طيبة"، وكتب سيد قطب الزعيم المرشح لقيادة الإخوان المسلمين في ما بعد تقريظا عالي النبرة عن رواية "كفاح طيبة" وأبدى حماسة لها منقطع النظير فعلا، وطالب وزارة المعارف آنذاك بتدريسها في المدارس، وهو أيضا الذي كتب روايتين شبه مجهولتين، ولم يحاول إعادة نشرهما في ما بعد في حياته، وهما "أشواك" و"المدينة المسحورة"، والروايتان فيهما الطابع الرومانسي الذي كان يسم كتابات قطب الإبداعية، ولكنها رومانسية غليظة إذا صح التعبير، هذه الرومانسية كانت المقدمة الطبيعية لدخول سيد قطب إلى عالم التطرف، وربما لم يستطع كل من كتبوا عن تحول سيد قطب ربط المرحلتين بعضهما ببعض، واعتبر نقاد ومؤرخو سيبد قطب أن الذي حدث له ما هو إلا انقلاب جذري على ما سبق، واعتبره البعض انقلابا لفشله في تحقيق أدنى مستوى في الكتابة الإبداعية، والكتابة النقدية الأدبية، وهذا ما يخالف الحقيقة، إذ ان كتابات سيد قطب المتعددة حققت رواجا وفاعلية كبيرين في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، وهو لم ينفض يده عن الأدب كارها أو هاربا أو فاشلا أو متمردا، بل إنه ترك هذا المجال لأن هناك نداهة التغيير ندهته، وجذبته بقوة نحوها، لكن هرطقة الباحثين جعلتهم يهرفون كثيرا في التفسير والتحليل دون أدلة دامغة، وعندنا دليلنا الدامغ في أن قطبا لم يكفّر النقد الأدبي مطلقا وهذا ما تبين لنا من رسالته لصديقه وتلميذه الناقد أنور المعداوي، يقول قطب في الرسالة: "أخي أنور ….. تنتظر عودتي لآخذ مكاني في ميدان النقد الأدبي؟ أخشى أن أقول لك: إن هذا لن يكون، وأنه من الأولى لك أن تعتمد على نفسك إلى أن ينبثق ناقد جديد! إنني سأخصص ما بقي من حياتي وجهدي لبرنامج اجتماعي كامل يستغرق أعمار الكثيرين، ويكفي أن أجدك في ميدان النقد الأدبي لأطمئن إلى هذا الميدان". ولو كان قطب يعمل على تكفير الأدب، لكان أبدى النصح لصديقه بالابتعاد عنه وهجرته، والأدهى من ذلك في ظني، أن كتابات سيد قطب الإبداعية في ذلك الوقت كانت تنم عن روح إسلامية خالصة، ولذلك فنحن ننسبها إلى الكتابات الإسلامية، فالكتاب المشترك الذي نشر مرة واحدة عام1947 وهو "الأطياف الأربعة" وشارك فيه محمد وأمينة وحميدة وسيد قطب، كان بمثابة نفحات إسلامية، عبّر فيها الإخوة الأربعة عن روح شديدة التدين، ولكنها شديدة الضياع أيضا، وينقطع بعد هذا الكتاب الأخوان محمد وسيد عن الكتابة الأدبية، وتواصل الأختان أمينة وحميدة تطوير محاولاتهما الأدبيتين، ولهما قصص منشورة في مجلات وصحف عربية ومصرية، وكانت مجلة "الاديب" اللبنانية تنشر لهما قصصهما.
مصطفى صادق الرافعي
وقبل هذه المرحلة كان المؤسس لمدرسة الأدب الإسلامي هو الكاتب البليغ مصطفى صادق الرافعي، وهو أحد الغلاة في نقد طه حسين وتقريعه وتكفيره عند صدور كتاب "في الشعر الجاهلي" عام 1926، وكان معظم كتابه "تحت راية القرآن" ردا على طه حسين، وتخيفا لكل ما كتبه، ونافيا كرامة وأحقية أي جديد أتى به طه حسين وصحبه، وكان للرافعي حواريون وقراء وأنصار، وكان لطه حسين أيضا حواريون وقراء وأنصار، وكان الاثنان طرفي نقيض في معركة لم تقتصر عليهما فحسب، بل جذبت إليها زعيمي الأمة آنذاك سعد زغلول وعبد الخالق ثروت باشا الذي أهدى له طه حسين الكتاب، وهو يعلم ما ينتظر الكتاب من جلد وتشهير وتكفير ومنع وحجب، وربما أراد الاحتماء بهذا القطب فأهداه له إهداء لطيفا ذا مغزى، فتصدى له الرافعي ومن لف لفه، ولكن الرافعي لم يكن يرد ويعارض طه حسين فقط، ولكنه كان يؤسس لما أسمي بعد ذلك بالادب الإسلامي، ومن يقرأ كتابه "تحت راية القرآن" فسيجد أصول التنظير للادب الإسلامي بعمق، ولم يكتف الرافعي بالتنظير فحسب، لكنه بالفعل قدم نماذج أدبية وقصصية إسلامية، تتسم بالتشدد والتعصب والانحياز كاملا للقيم الإسلامية، نافيا حاجتنا إلى أي تجديد، وساخرا من هذا الجديد ومحقرا له بكل السبل، والرافعي راح على مدى حياته ينال من كل من كانوا يطالبون بالجديد، وإن كانت طبيعته البدوية الذكورية دفعته ليكتب نصوصا أدبية مختلفة عن النصوص الموجهة، فكتب رسائله العذبة والرقيقة إلى حبيبته مي زيادة، هذه الرسائل التي أفلتت بأعجوبة من القبضة الرافعية الحارسة للتراث السلفي للأمة الإسلامية والعربية، ولكن نصوص كتابه الضخم "وحي القلم" هي التي كانت مدججة بهذا الأدب المدجج بالروح الحارسة للقيم الإسلامية كما يراها، وبعد رحيله انتقى منها محمد سعيد العريان ـ حارس تراث الرافعي ـ بضعة نصوص، وعنونها بـ"قصص إسلامية مختارات من كتاب وحي القلم" وفي مقدمة طويلة للعريان يقول: "وهذه قصص إسلامية – كما أسميناها – لا كما أسماها كاتبها لأنه لم ينشئها حين أنشأها لتكون كتابا بخصائصه وصفاته، وإنما هي جزء من مجموعة أنشأها لغرض أعم من الوجه الذي اخترنا له هذه القصص" ورغم هذا التعسف في التسمية إلا أن العريان يقنن هذه القصص بأنها "انواع من المناجاة يحاول فيها أن يتحدث إلى نفس كل مسلم، وإلى كل عربي، في كل ما يهم المسلمين والعرب من شؤونهم في تلك الفترة من التاريخ التي سبقت الحرب العالمية الثانية". وسنلاحظ أن هذه القصص والنصوص تعتمد على خاصيتين أساسيتين حتى نستطيع أن ننسبهما إلى ما يسمى بالأدب الإسلامي، الخاصية الأولى تتلخص في ترجمة الروح الإسلامية إلى قصص تحض على اجتناب الرذائل، والرحمة، والتوجه إلى الله، وهكذا من قيم ومعان إسلامية وإنسانية عامة، والخاصية الأخرى هي الاستناد إلى قصص إسلامية من عهود مختلفة، تنشد تخليد هذه القصص التي تشيد بالتاريخ الإسلامي أيما إشادة، وهاتان الخصيصتان هما ما سارت عليهما كوكبة من الأدباء والأديبات في ما بعد.
لكنني أود أن ألفت النظر إلى كاتب آخر كرس حياته للكتابة الأدبية الإسلامية، وهو يحتاج إلى درس مستقل وخاص ومطول، ولن تجدي هذه السطور للتعريف به، أقصد الكاتب والأديب نجيب الكيلاني، وهو كان ينتمي لتنظيم الإخوان المسلمين، وكان أحد ضحايا النظام الناصري، وتم اعتقااله مع جماعته في الستينيات، وهو كتب رواية سجلت هذه التجربة تحت عنوان "رحلة إلى الله" وله كذلك "ليل وقضبان" و"الطريق الطويل" و"النداء الخالد" وغيرها من روايات، وأنشأ سلسلة روايات تحت عنوان "روايات إسلامية"، والمدهش أن من هذه الروايات رواية عنوانها "الظل الأسود" تدور أحداثها على أرض الحبشة وتحكي قصة اغتصاب "هيلاسيلاسي" عرش الحبشة، بمساعدة الاستعمار، وما خلفه ذلك الاغتصاب من حرب أهلية استمرت طويلا، وبالطبع فالرواية تنتصر فيها للدين الإسلامي مطلقا، ويعتبر نجيب الكيلاني أحد الحجج في ما يسمى بالأدب الإسلامي.
ولا نستطيع أن ننسى رواية منسية أو تكاد تكون مجهولة وهي رواية "رحلة في أحراش الليل" لحميدة قطب، شقيقة سيد قطب، هذه الرواية التي تسرد قسوة المعتقل وفظاعته، وتصف بدقة ما تناهى إلي سمعها من تأوهات وتشنجات المسجونين الذين سقطوا في قبضة الجلاد، وهي تهدي الرواية: (إلى أخي الحبيب … سيد، إليك في عالمك العلوي الذي اصطفاك الله له، بفضله سبحانه، أهدي هذه المجموعة القصصية الأولى، تحكي قصة معاناة عشناها معا، والفضل فيها، بعد الله سبحانه، راجع إليك، فأنا وما أنتج ما حييت ـ بفضل الله ـ إنتاج من إنتاجك "وستلاحظ هنا أن حميدة تطلق على نصها هذا "مجموعة قصصية" ولكنها في مقدمتها تبدي حيرة في تصنيف هذا النص، فتقول: "ولست أدري ـ حقيقة ـ في أي خانة من خانات "الكتابة" أضعها، فأنا حتى الآن، وبعد أن أتممتها، لا أستطيع أن أضعها يقينا في تصنيف معين من تصانيف الأدب"، والرواية أو المتتالية أو المجموعة القصصية، لا تخرج كثيرا عن شهادات أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، الذين كتبوا ذكرياتهم ويومياتهم ومذكراتهم عن فترة اعتقالاتهم، وعن قصص التعذيب التي تعرضوا لها، مثل كتاب "أيام حياتي" للزعيمة الإخوانية زينب الغزالي، أو "البوابة السوداء" لأحمد رائف، أو "عندما غابت الشمس" مذكرات السجون والمعتقلات لعبد الحكيم خفاجي، وغيرها من كتب ومذكرات، إلا أن "رحلة في أحراش الليل" لحميدة قطب، تختلف في أنها لا توثق ولا تؤرخ ولا تسجل، ولكنها تنشئ نصا أدبيا يخلو من زعم التأريخ والتوثيق والشهادة، لذلك فهي أطلقت عليه مجموعة قصصية وهي مرتابة، ولكنه يشترك مع النصوص والشهادات الأخرى في صفة وصف التعذيب والتنكيل، وهذه هي القصة المشتركة في معظم ما يكتبه الإسلامويون، فنحن لا نعرف لهم أدنى اهتمام في مجلاتهم بالادب الحقيقي، ومجلة الدعوة في إصداريها الخمسيني والسبعيني لم نلحظ هذا الاهتمام، فالأدب مهمش ومقصى ومستبعد، وربما يكون مستهجنا ومستنكرا، فالأدب عندهم هو كل كتابة تخدم الدعاية للدين الإسلامي، ولا أظن أن توليهم المسؤولية الثقافية سيجني خيرا، فكيف يرعى الإسلامويون ما لا يقتنعون به، وما لا يحبونه، وأظن أن الاهتمامات الشكلية بالأدب والثقافة، هي اهتمامات مرحلية حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وقبل أن أغلق باب التعليق أود الإشارة إلى كاتب تم تهميشه واستبعاده، هو الكاتب علي أبو المكارم، وكتب رواية أظنها تستطيع أن تصمد لو سلّطنا عليها شروط الرواية، وهي رواية "الموت عشقا" وهي رواية صدرت عام 1990، وهي تؤرخ لجماعة الإخوان المسلمين، وتعرضت فنيا وموضوعيا لحياة الجماعة، ولأن الكاتب له علاقة درسية ومعرفية وفنية بالأدب وكتابة الرواية، جاءت الرواية على شكل غير دعائي، وهو كان مستبعدا لأنه كان معاديا للسلطة السياسية والثقافية في المرحلة الماضية، وكانت له رواية تحت عنوان "العاشق ينتظر" تتحدث عن وزير ثقافة شاذ ومخرب وفاسد، ولم ألحظ أن خبرا واحدا جاء في الصحف حول هذا الكاتب أو ما يكتب، رغم أنه أستاذ مرموق في مجال اللغويات، وشغل منصب عميد كلية دار العلوم لفترة من الفترات.
وبعيدا عن ذلك فلدينا بعض فقافيع أدبية تكتب قصصا إسلامية، ولا ترقى إلى مستوى القصص، ولا تعتمد في إنشاء هذه القصص إلا المنحى الدعائي الفج، الذي لا يكتب لهذا النوع أي استمرار وتطور ورقي، وإذا كان هذا هو حال القص والرواية، فحال الشعر والمسرح أكثر تعاسة، ولا يزيد عن تلك الحالة إلا في الشكل.
صحيفة السفير اللبنانية