هل يتذكر الفنلنديون حرب الشتاء؟
لم تكد فنلندا تخرج من اضطرابات الحرب العالمية الأولى، حتى وجدت نفسها في أتون الحرب الأهلية بين الحرس الأبيض والحرس الأحمر. في اللحظة التي انهارت فيها القيصرية الروسية، تاهت فنلندا في البحث عن الجغرافيا الجديدة التي تنتمي إليها؛ كان الحرس الأحمر المتحمّس للثورة التي انطلقت على بعد عشرات الكيلومترات في سانت بطرسبورغ يأمل ضم البلاد إلى الفضاء السوفياتي، حتى لو بصيغة ما للحكم الذاتي، كما كانت في عهد القيصرية الروسية. أما الحرس الأبيض القلق من مصادرة امتيازاته عبر نظام الثورة الناشئة، فقد حصد ثمار الدعم والتدريب الألمانيين، ليتمكن الجنرال السابق في جيش القيصرية الروسية، كارل غوستاف مانرهايم، من إحكام السيطرة على فنلندا، وليكون بعد عشرين عاماً على موعد جديد في مواجهة ثانية مع الجيش الأحمر في حرب عالمية ثانية.
على الرغم من توقيع اتفاقية مولوتوف – ريبنتروب القاضية بعدم الاعتداء، ضمن شروط محددة، بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا، لم يتخلص ستالين من القلق المزمن حيال أي تحرك ألماني مفاجئ ينقض كل المعاهدات؛ وقد حدث ذلك فعلاً على مستوى واسع، ابتداءً من نقض معاهدة فرساي وصولاً إلى نقض هذه الاتفاقية السريعة.
نظر ستالين إلى الشريط الجغرافي الممتد من دول البلطيق، إستونيا ولتوانيا ولاتفيا، وكذلك فنلندا، بعينين اثنتين؛ واحدة بعين “الإجراء الميداني الاضطراري”، وثانية بعين “الانتقام التاريخي”. أما الأولى فكانت تعني الإجراء الروسي السريع والخاطف لتأمين العمق الاستراتيجي اللازم ضد تمدّد الألمان، الذي لم يكن مفاجئاً بالنسبة إلى السوفيات، وكانوا يتوقعونه في كل لحظة، أما العين الثانية فهي عين الانتقام من معاهدة بريست ليتوفسك، التي قرّرت روسيا فيها الاستغناء عن أوسع مساحات ممكنة في سبيل الخروج من الحرب العالمية الأولى بسلام، والتفرّغ لبناء الدولة الجديدة.
لم تقدّر فنلندا الضرورة الاستراتيجية المُلحّة بالنسبة إلى موسكو، ولم تقدّم المساحات الكافية لانتشار الجيش الأحمر، ما اضطر ستالين إلى إعلان “حرب الشتاء” ضد فنلندا، في سبيل السيطرة على بحيرة لادوغا وغابات كاريليا.
يذكر الفنلنديون “حرب الشتاء” بشيء من الفخر في مواجهة الهجوم السوفياتي وتكبيده خسائر ثقيلة، وفي الجانب الآخر، لم تكن الأيديولوجيا السوفياتية تميل إلى منطق إحصاء الخسائر أثناء القتال، بل بعد إنجاز المهمة، أي إن الوصول إلى الهدف هو الأهم، وبعد ذلك يتم علاج ما تكبّدته الدولة من خسائر بشرية ومادية.
ومع أن الفنلنديين حملوا للجيش الأحمر الكثير من المفاجآت (الجنود المتزلجون، تفجير الدبابات بالمولوتوف، ابتكار عمليات بسيطة لتعطيل سير الدبابات، كزرع جذوع الأشجار العريضة والأسافين في الجنازير، وقطع الاتصال بين الوحدات العسكرية الكبيرة)، إلا أن النتيجة في نهاية الأمر كانت ما طلبه السوفيات في السيطرة على الأراضي التي أمّنت عمقاً استراتيجياً، اعتقد السوفيات أنه كافٍ لصدّ القوات النازية.
في المرحلة الثالثة من عملية بارباروسا للقوات النازية في اجتياح الاتحاد السوفياتي، تحالفت القوات الفنلندية مع القوات النازية ضد الاتحاد السوفياتي. مع أن الشريط الجغرافي التاريخي (إستونيا – لاتفيا – لتوانيا – فنلندا) كان الخاصرة التي دخلت منها القوات النازية إلى عمق روسيا، إلا أن النتيجة النهائية للحرب كانت بمرور قوات السوفيات من الأراضي نفسها، ولكن باتجاه برلين هذه المرة. أدركت فنلندا الخطأ الفادح الذي ارتكبته في اللحظة التي رفع فيها العلم السوفياتي على مبنى الرايخستاغ.
اليوم، وفي لحظة ربما تكون أقل توتراً، تمتلك السياسة الفنلندية مروحة أوسع من الخيارات في اتخاذ موقف من المواجهة الروسية الأطلسية الدائرة؛ ففي حين صمّم ستالين على السيطرة الكاملة على مساحات من فنلندا واستئجار بعض الأراضي وتدمير بعض البنى التحتية لصالح مرور القوات، لم يطلب فلاديمير بوتين من فنلندا أكثر من التزام الحياد وعدم الانخراط في التحالفات المعادية.
من دون مراجعة متأنية وهادئة للتاريخ وضريبة “تحالف الجار الجغرافي لروسيا مع عدوّها”، تمضي حكومة فنلندا في تكرار الخطأ التاريخي نفسه، وتراهن على الضمانات الأمنية للناتو، في ظل بيئة أمنية باتت فعلاً متغيّرة، كما أوردت في مسوّدة التقرير الرئاسي الحكومي المشترك للانضمام إلى الناتو، ولكن هذا التغيّر يمنح فنلندا فرصاً مغرية أكثر من الانضمام إلى الحلف المعادي لروسيا!
في فنلندا، المتحدثون باللغة الروسية هم الأكثر بعد الفنلندية والسويدية ( أكثر من 77 ألف إنسان بحسب الإحصائيات الرسمية نهاية عام 2017م)، وتتشارك فنلندا مع روسيا في 1300 كلم من الحدود، وهي بذلك معزولة نسبياً عن جغرافيا الناتو. في قرار فنلندا ما فيه من تحدٍّ لمنطق التاريخ والجغرافيا، وعدم الاستجابة لدروسهما، الأمر الذي قد يبعث روح “حرب الشتاء” في نفس المقاتل الروسي في لحظة ما!
الميادين نت