هل يَكفِي اعتِراف السفير فيلتمان بفشل سياسة أمريكا في سورية؟ ولماذا يتهرّب من ذِكر الأسباب الحقيقيّة لهذا الفشَل؟ وهل الحِصار الاقتصادي الخانِق هو البديل للوصول إلى الإصلاح السّياسي؟
اعتِراف جيفري فيلتمان السّفير السّابق وحامِل المِلف السّوري السّابق في الإدارة الأمريكيّة بفشَل سياسات إدارتيّ ترامب وأوباما في سورية في حديثٍ أدلى به إلى صحيفة “الشرق الأوسط” ونشرته اليوم لم يَكُن مُفاجِئًا لأنّ الوقائع على الأرض التي تُؤكِّد هذا الفشَل واضِحةٌ للعيان، فالنّظام السّوري الذي رصدت له هاتان الإدارتان مِئات المِليارات من الدّولارات لإسقاطه ما زال في سُدّة الحُكم، والجيش العربي السوري استطاع استِعادة أكثر من 80 بالمِئة من الأراضي السوريّة لسيطرته، والأهم من ذلك أنّه ما زال مُتماسِكًا ومُواليًا لقِيادَتيه السياسيّة والعسكريّة، رُغم عشر سنوات من الحرب المُتواصلة، ومن الطّبيعي أن يتجنّب السفير فيلتمان هذه الحقائق، وأُخرى كانت وراء فشل المشروع الأمريكي في سورية أبرزها وقوف حُلفائها الرّوس والإيرانيين وحزب الله في خندقها طِوال سنوات الحرب.
الفقرة الخطيرة في حديث فيلتمان الذي ما زال يُعتَبر مرجعيّةً في الشّأن السوري خاصّةً والشّأن الشّرق أوسطي عامّةً بالنّسبة إلى المُؤسّسة الأمريكيّة العميقة، إشارته إلى أنّ البديل الأمريكي الجديد للفشل العسكري، هو تشديد الحِصار الاقتصادي ليس فقط على سورية وشعبها، وإنّما أيضًا على حُلفائها في طِهران وروسيا، لأنّ هؤلاء الحُلفاء لا يملكون الإمكانيّات الاقتصاديّة اللّازمة لإنقاذ “النّظام الحاكم” اقتصاديًّا على حدّ قوله، وهذا ما يُفَسِّر فرض إدارة ترامب قانون “قيصر”، والإيعاز لحُلفائها في المِنطقة بتشديد الحِصار على سورية وحزب الله وفرض عُقوبات اقتصاديّة شَرِسَة على إيران لتجفيف مواردهم الاقتصاديّة “فهؤلاء يُمكِن أن يتدخّلوا لإنقاذ النّظام عسكريًّا، ولكنّهم لا يستطيعون إنقاذه اقتصاديًّا”، حسب أقوال السفير.
سياسة الخنق الاقتصادي لم تفشل في تغيير الأنظمة في كوريا الشماليّة وإيران، بل أعطَت نتائج عكسيّةً تمامًا، من حيث تعزيز صُمودها، واعتِمادها على النّفس في تطوير البدائل العسكريّة والاقتصاديّة، وكسر الحِصار من خِلال فتح آفاق اقتصاديّة جديدة في توازٍ مع تعزيز الجبهة الداخليّة وثقافة الصّمود، وإيجاد أدوات الرّدع العسكريّ ذاتيّة الصّنع، وخاصّةً المنظومات الصاروخيّة المُتطوّرة، ولهذا من الصّعب أن تُحَقِّق هذه السّياسة النّجاحات المُفتَرضة، أيّ الخنق الاقتصادي لتحقيق أهدافها رُغم الآلام المُوجِعَة النّاتجة عنها وتتّضح إرهاصاتها على الأرض في سورية، لأنّ خِيار الرّضوخ والاستِسلام غير مطروح مُطلَقًا.
مشروع الحِصار التّجويعي الأمريكي المَفروض على سورية اتّخذ عدّة مسارات، أبرزها السّيطرة على احتِياطات النّفط والغاز، والأراضي الزراعيّة الخصبة شرق الفُرات حيث تتركّز القوّات الأمريكيّة وقوّات “قسد” الكرديّة المُوالية لها، وهذا يعني حِرمان سورية من مصدريّ الطّاقة والغذاء معًا، وهذه قمّة الفاشيّة.
لا شك أنّ هذه السّياسة حقّقت بعض أهدافها على المدى القصير على الأقل، بالنّظر إلى أزَمة الطّاقة في سورية، والطّوابير للسيّارات أمام محطّات الوقود، وارتِفاع أسعار المواد التموينيّة نسبيًّا، ولكن في ظِل سياسة “الصّبر الاستراتيجي” والنّفس الطّويل المُتّبعة حاليًّا ربّما يُمكن تجاوز، أو حتّى تخفيف آثار الحِصار على المَدى البعيد.
لا شك أنّ اتّخاذ خطوات ملموسة وشفّافة باتّجاه الإصلاح السّياسي ومُحاربة الفساد، مسألة ضروريّة، ومطلب مشروع في سورية لا بديل عنها، ولكن هذا الإصلاح قد يكون من الصّعب أن يتَحقّق في ظِل الحِصار الاقتصادي والتدخّلات العسكريّة الرّاهنة التي تشهدها سورية، بل يُمكِن أن يُعطِي هذا الحِصار نتائج عكسيّة من حيث تشديد سياسة القبضة الحديديّة.
بعد اعتِرافه بفشل سياسات الإدارتين الأمريكيّتين السّابقتين في سورية وإيران وليبيا والعِراق والشرق الأوسط عُمومًا، كان يجب على السّفير فيلتمان أن يُطالب بتغييرها جذريًّا، واللّجوء إلى سِياساتٍ أُخرى بديلة جوهرها الأساسي المُفاوضات ولُغة الحِوار، رأفَةً بالشّعب السّوري الضّحيّة الأكبر للسّياسات السّابقة الفاشلة، وهو الشّعب الذي تدّعي الإدارات الأمريكيّة كَذِبًا الحِرص عليه.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية