هُزم ترامب وانتصرت الديمقراطية
أخيرا، وبعد حملة انتخابية شرسة تطلبت مشاركة أكثر من 155 مليون أميركي، انزاح كابوس ترامب. وهذا الكابوس لم ينزح عن صدر أميركا والأميركيين فحسب، بل والعالم بأسره، ما عدا فئة قليلة من الزعماء الديكتاتوريين الذين يُسمون الآن بـ “أيتام ترامب.” فهذا الرجل لم يعمل على مدى الأربع سنوات الماضية على توسيع الفرقة العرقية في أميركا فحسب؛ بل هو عمل بوعي وبقصد على توسيع الهوة بين البيض والسود وبين الرجال والنساء وبين البيض واللاتينيين وبين المسيحيين والمسلمين وبين الأغنياء والفقراء. كما عمل ليل نهار على تفكيك لبنات الديمقراطية الأميركية الأساسية التي كان يمقتها ويتمنى لو كان قادرا على التصرف كما يتصرف الحكام الديكتاتوريون في هذه المنطقة وخارجها.
والأسوأ من ذلك أن ترامب، على المسرح الدولي، عامل الديكتاتوريين، الذين كان يتمنى أن يتمتع ولو ببعض بمزاياهم وأن يكون مثلهم، وكأنهم هم أصدقاء أميركا الحقيقيون. يا للعيب!! وفي الآن ذاته ابتعد ترامب عن حلفاء أميركا من زعماء الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا وبقية العالم. ولهذا السبب رأينا أن الذين سارعوا إلى تهنئة الرئيس الديمقراطي المنتخب جو بايدن هم زعماء الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا وكندا، والذين تلكأوا في التهنئة هم الزعماء الديكتاتوريون، أي “أيتام ترامب”. هؤلاء حُذروا مرارا من أنهم وضعوا كل بيضاتهم في سلة ها الرجل المنزوع الشرعية ولكنهم لم يستمعوا للنصيحة. وهم سيدفعون الثمن الآن لقصر نظرهم وضيق أفقهم وضحالة فهمهم للسياسة الدولية، خصوصا في الدول الديمقراطية الليبرالية. الحقيقة البسيطة لهؤلاء أن هناك أمرا نسميه الانتخابات الشعبية النزيهة في الدول الديمقراطية التي قد تأتي بنتائج غير متوقعة. هكذا هي الديمقراطية – هي نظام هش لكنه قادر على تصحيح نفسه بنفسه. وهو صحح نفسه فعلا.
في أميركا بدأ ترامب بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض قبل أربع سنوات تقريبا بهدم أولى لبنات الديمقراطيات الليبرالية – الإعلام الحر. بدأ ترامب يصف إعلام أميركا الحر الذي اختلف معه منذ الأسبوع الأول بـ “الإعلام المزور” لأن هذا الإعلام لم يتصرف كإعلام البلاط وكان يلاحق كل هفوة وزلة وكذبة له بانتظام وحرفية، وهو ما كان يقض مضاجعه. وهو بدأ يهدم لبنات النظام القضائي الأميركي، فطرد وزير عدله الأول جيف سيشنز لأنه رفض أن يعمل وكأنه محامي ترامب الشخصي وعين بدلا منه واحدا، وهو وليام بار، الذي سيحاسبه الأميركيون على خدمته لترامب وكأنه فعلا محاميه الشخصي. كما تغول ترامب على كل مؤسسات الدولة الأميركية المؤسسية من الدفاع إلى الخارجية والسي آيه أيه وأف بي آي وغير ذلك من مؤسسات الحكومة الأميركية. بعد أسبوع من خسارته الانتخابات سارع ترامب إلى عزل وزير دفاعه مارك إيسبر لأن الأخير رفض طلب ترامب بأن يدخل قوات الجيش الأميركي إلى شوارع أميركا لقمع المحتجين من أنصار “حياة السود مهمة” التي انطلقت بعد قتل شرطي أبيض بطريقة مهينة رجلا أسود في ولاية منيسوتا، جورج فلويد. هو يجهل أنه في الديمقراطيات لا تتدخل القوات المسلحة في الشؤون الداخلية، القوات المسلحة هي للدفاع عن أمن البلاد والمواطنين فقط. نعم فقط! وتفيد التقارير أن ترامب يفكر في عزل مديرة السي آي أيه جينا هاسبل ومدير أف بي آي كريستوفر ريه، رغم أنه هو الذي عينهما! السبب أن هذين أيضا رفضا أن يكونا موظفين تابعين له، بل هما يعملان بإخلاص للدستور الأميركي.
وطرد ترامب وزير خارجيته الأول ريكس تيلرسون، لأن هذا الأخير سُمع وهو يهمس بإذن زميله وزير الدفاع الأميركي الأول في عهد ترامب جيمس ماتيس بالقول بعد خروجهما من اجتماع مع ترامب بأن ترامب “حمار.” ومع أن تيلرسون لم يعترف بأنه قال ذلك، أدبا منه، ولكنه قال في كتابه الذي ألفه بعد خروجه من وزارة الخارجية بأن ترامب لا يصلح أن يكون رئيسا. وهكذا قال عنه وزير دفاع جيم ماتيس ومستشاره للأمن القومي السابق اليميني جون بوليتون وثاني رئيس لهيئة موظفيه في البيت الأبيض الجنرال جون كيلي وغيرهم الكثير. كما استبدل ترامب عدة رؤساء لهيئة موظفي البيت الأبيض وعدة مستشارين للأمن القومي، وهو أمر غير مسبوق في أية إدارة سابقة. كثيرون هم الذين عزلهم ترامب في سنواته العجاف الأربع تلك واستبدلهم برجال من نوعية من يسمون بـ “yes men” أي الرجال الذين يقول نعم سيدي فقط!! كل هؤلاء خرجوا باستنتاج واحد: هذا الرجل لا يصلح لأن يكون رئيسا للولايات المتحدة. ولكن هكذا أدار هذا الرجل الذي كان فاز في انتخابات أميركا الرئاسية في غفلة من الزمن وتصرف كأن ديكتاتور قميء، جهول وأحمق من ديكتاتوريي دول العالم الثالث. وهو يتصرف هكذا في شهريه الأخيرين في السلطة ويرفض حتى الآن الاعتراف بمشروعية الانتخابات التي أتت بمنافسه الديمقراطي جو بايدن إلى السلطة. ولكن الحقيقة أن ترامب خسر وأن ترامب هُزم وهو سيخرج من البيت الأبيض صاغرا، مذلولا، مهزوما وسيلقى به في سلة مهملات التاريخ في النهاية سواء أقر بهزيمته أم لا. كل ذلك سيأتي إما يوم 20 كانون الثاني/يناير، يوم تنصيب بايدن رئيسا أو قبل ذلك.
ولكن الأهم أن ترامب لن يستطيع مواصلة هدم أركان الديمقراطية الأميركية التي هي في النهاية مهمة لل لأميركا فحسب بل ولديمقراطيات العالم كله. أميركا، وهي الديمقراطية الأقدم في العالم، مهمة للعالم حتى لو كان لنا عليها ألف تحفظ. هذه حقيقة. أميركا أكبر من أية قضية سياسية خارجية ووجودها كمنارة للحرية والديمقراطية هم أمر مهم لمسيرة الديمقراطية العالمية. في عهد ترامب تراخت المؤسسات الدولية نتيجة غياب القيادة الأميركية، وفي عهد ترامب غاب ملف حقوق الإنسان عن الأجندة العالمية، وفي عهد ترامب تغول الحكام الديكتاتوريون في العالم على حريات وكرامة شعوبهم المقهورة. هذه حقيقة.
الذين حزنوا على خسارة ترامب في الانتخابات قبل أسبوعين هم الجهلة والمتشددون الدينيون في أميركا والديكتاتوريون في بقية العالم فقط. هؤلاء، خصوصا الذين تأخروا في تهنئة الرئيس المنتخب بايدن، لا ينامون الليل منذ خسارة ترامب، وبعضهم هنأ بايدن خوفا وليس فرحا بمقدمه. بعض هؤلاء اشترى مواقف أميركا في عهد ترامب بالمال وبعضهم اشترى صمته عن ممارساتهم الوحشية ضد شعوبهم بالتطبيع مع إسرائيل. يا للعار!! هؤلاء الآن هم أيتام ترامب فعلا. ترامب كان يبيع مواقف السياسة الخارجية الأميركية بالتجزئة، أي بالمال لمن يملك المال وبالتهديد والابتزاز للتطبيع مع إسرائيل لمن لا يملك الكثير من المال. هؤلاء يدركون أن بايدن لن يبيع السياسة الخارجية الأميركية بالتجزئة كما ترامب، وهم يدركون أن أمامهم أياما عصيبة. ملف حقوق الإنسان سيعود، وملف حرية الصحافة سيعود وملف التصدي للاعتداء على حريات الناس بلا عقاب سيعود وملف وقف الحروب التي لا معنى لها سيعود وملف محاسبة الديكتاتوريين في العالم كله سيعود. لقد انتهى عهد شراء “تغطية المؤخرات” بالمال، كما اعترف ترامب صراحة في كتاب الصحافي المشهور في صحيفة واشنطن بوست بوب وودورد!!
نعم، ستعود أميركا إلى دورها التقليدي في المشهد الدولي، وقريبا جدا. دعوني أختم بما قاله رئيس هيئة الأركان الأميركية المشترك الجنرال مارك ميلي بعد يومين من إقالة ترامب لوزير الدفاع إيستر: “نحن فريدون بين الجيوش. نحن لا نقسم بالولاء حين ننضم للقوات المسلحة لملك أو ملكة أو طاغية أو ديكتاتور. نحن لا نقسم اليمين بالولاء لفرد. لا، نحن لا نقسم بالولاء لبلد أو قبيلة أو دين. نحن نقسم بالولاء للدستور. كل جندي، وكل بحار، وكل طيار، وكل فرد في سلاح مشاة البحرية، وكل فرد في سلاح خفر السواحل، كل منا يقسم بأن يحمي ويدافع عن تلك الوثيقة، بغض النظر عن الثمن الشخصي “.هذه هي أميركا التي أعرفها وأفتخر بها وأدافع عنها. وليس أميركا ترامب.
خمس نجوم