و ماذا بعد ؟!
ما من شك بأن الأدباء السوريين ومن يسمى بالمثقفين عموماً قد آثر بعضهم الهجرة إلى الخارج حيث يتوفر الأمان و أنهم أتهموا بفقدان ثقتهم بالنظام الحاكم وصاروا أقرب إلى الذين حملوا السلاح ضد النظام الحاكم منذ أكثر من أربعين عاما وهذه تهمة غير دقيقة . أما الذين فضلوا البقاء في البلاد فقد اتهم بعضهم بولائهم للمعارضة ، وبعضهم الآخر بالولاء للنظام الحاكم وبهذا المعنى فقد الأدباء والمثقفون مكانتهم في الحالتين كفصيل راق في قناعاته و سلوكه سواء أكانوا مع المعارضة سراً أو علناً أو مع النظام .
أنا واحد منهم بالطبع، آثرت البقاء في البلاد بالرغم من أنني في بداية الأحداث ولبعض الأعوام والتي تلت كنت مسكوناً بموقف المعارضة والتعاطف مع الذين خرجوا في المظاهرات السلمية وهم يهتفون بشعارات الحرية والعدالة والكرامة من دون توجيه أي اتهام مباشر للمسؤولين مثلا عن فقدان الحريات العامة وكيف تصرفت السلطة في الأسابيع الأولى من الأحداث بالصبر والدعوة إلى الحوار كما حدث في الإجتماع الموسع للأدباء والمثقفين عموماً الذي سمحت به في إحدى صالات فندق سميراميس في العاصمة و كنت من المشاركين فيه و من المتكلمين الداعين إلى إعتماد الحوار الصريح والمباشر مع السلطة الحاكمة.
أذكر عن ذلك الإجتماع الموسع الذي استمر من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر إلى ساعات المساء الأولى والتي تكلم فيها الجميع على الميكروفون لدقائق معدودات ، أذكر أنني آثرت مغادرة الصالة في الساعة الثالثة بعد الظهر حين لاحظت أن معظم الكلمات التي سمعناها بدأت تتشابه إلى حد مفرط مما دفعني إلى المغادرة ، وحين خرجت من الصالة فوجئت بجملة آلات التصوير التلفزيوني لفضائيات سورية وغير سورية و أنني صرت محاصرا بالتلفزيون السوري الذي سبق الجميع إلي كأول من يخرج من الصالة و هكذا و جدت نفسي ملزماً بالتوقف و الإجابة على الأسئلة التي انهمرت علي حول ما يجري في الصالة وعن أهم القضايا التي طرحت…
أذكر أنني أجبت بشيء من الصراحة في انتقاد موقف السلطة سواء في الحكم أو في التعامل مع المظاهرات السلمية . أذكر إن إجاباتي كانت صريحة مما أقلق المشرفين على التصوير حين أشرت مثلاً إلى إستخدام الدبابات في ملاحقة المتظاهرين أو قطع الطريق عليهم فقال المصور التلفزيوني إن إستخدام الدبابات كان يهدف إلى تخويف المتظاهرين و ليس لإطلاق النار عليهم وهكذا احتدم النقاش بيننا مما جعلني أذكّر جميع الواقفين أن السلطة التي حرمتنا من الحريات الدستورية و ملأت السجون بأصحاب الرأي الناقد للحكم و إن إبداء الرأي المعارض ليس جريمة يعاقب عليها قائل الرأي لأن الدستور العادل يسمح للمواطنين بإبداء آرائهم ماداموا لا يستخدمون العنف وهكذا ختمت المقابلة وخرجت وعلمت فيما بعد أن التلفزيون السوري عرض المقابلة كما جرت من دون أن يحذف شيئاً ولكنني شككت في أن المراقبة الرسمية أشارت بضرورة حذف بعض الجمل ذلك لأنني طالبت بالحصول على نسخة من العرض الذي قدمه التلفزيون كي أتأكد من شكوكي ولكن إدارة التلفزيون رفضت طلبي و على كل حال ومن خلال المكالمات الهاتفية التي جاءتني وبعض اللقاءات مع الناس أدركت أن موقفي كان قد قدّم لبعض المراكز في السلطة وقد وصلت للذين شاهدوا البرنامج التلفزيوني…
أروي هذه الذكريات كي أشهد في نهاية المطاف أن السلطة لجأت إلى العنف المفرط في قسوته لإبطال وتوقيف المظاهرات واعتقال المتظاهرين الذين تغيرت شعاراتهم من المناداة بالحفاظ على حق المواطنين بالحريات العامة و الدستورية إلى شعارات دينية و أن المتظاهرين بدؤوا بتغيير شعاراتهم و هكذا تحولت الأوضاع إلى حرب دامية وإلى تدخل قوات أجنبية وكما توضح أكثر فأكثر أن قوات معارضة مسلحة ومدربة على القتال تحت شعارات إسلامية واضحة يتبناها محاربون أجانب كما لدى “داعش” و “القاعدة ” التي تحول إسمها إلى “النصرة” و هكذا استنجدت السلطة بقوات أجنبية من إيران و روسيا …كما تدخلت تركيا لمنع القوات الكردية من إحتلال شرق الفرات وكأن سوريا باتت مع هذه المتغيرات ساحة لحرب شبه عالمية …
أين إذن نحن اليوم ؟ و أي مصير ندافع عنه أو نعارضه ؟
و ماذا سيحدث لنظام الحريات العامة الدستورية و الديمقراطية الموعودين بها منذ أجيال؟…إلى أين يقود سوريا مقاتلو المعارضة المسلحة والمحاربون الأجانب فيها، والقوات الأجنبية المساعدة لها أو تلك المساعدة للنظام السوري الحاكم منذ أكثر من نصف قرن؟
آه…آه…ياسوريا الحبيبة …أين أنت الآن ؟! ة ماذا بعد كل هذا الدم المسفوح والكرامة الضائعة؟!!!