استحوذت واقعة تعرُّض قوات الاحتلال الإسرائيلي لمدنيين فلسطينيين كانوا متجمهرين أمام قوافل الإغاثة في شارع الرشيد، غربي مدينة غزة، على اهتمام دولي، واستنكار عدد من قادة دول العالم، ولا سيما تلك المحسوبة على «الجنوب العالمي»، كالرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو. أما في الغرب، فقد أثارت المجزرة، ردود فعل متفاوتة، سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي.
وجرياً على عادته حين يتعلّق الأمر بالانتهاكات المختلفة المرتكَبة من جانب كيان الاحتلال، تفتّقت «موضوعية» الإعلام الغربي، عن مقاربة «مهنية» و»حيادية» بين سرد ما يَعتبره وجهة النظر الفلسطينية، المستقاة معظمها من وزارة الصحة في غزة، ومصادر طبية، إضافة إلى روايات شهود عيان «لا يمكن التثبّت من مدى صحتها»، تتّهم الجيش الإسرائيلي بالوقوف خلف المجزرة، وبين رواية الأخير لما جرى، والتي زاوجت مزاعم تعرّض هؤلاء للدهس بشاحنات الإغاثة، وبفعل التدافع في ما بينهم، بالإقرار بتعرّضهم لـ»طلقات تحذيرية» في اتجاههم «فور تحرّك المحتشدين بطريقة باتت تهدّد سلامة عناصر الجيش».
وتناولت صحيفة «نيويورك تايمز» الواقعة بوصفها «حادثاً فوضوياً»، و»إشكالياً» من باب الاستناد إلى مقطعَي فيديو، أحدهما أكدت أنه «مجتزأ، وقد تم إدخال تعديلات عليه»، كان قد نشره جيش الاحتلال (مع اقتطاع اللقطات التي تُظهر بدء التدافع بين الحشود إثر تعرّضهم لإطلاق نار) لجموع المدنيين الفلسطينيين المتجمّعين في المكان، قبل ظهور عدد كبير منهم مطروحين على الأرض، بينما يصار إلى نقل بعضهم على العربات، والشاحنات.
أما المقطع الثاني، فتداولته وسائل إعلام عربية، تُسمع فيه أصوات إطلاق نار، مصدرها قاعدة عسكرية إسرائيلية تبعد مسافة 250 متراً عن المكان. من جهتها، أفردت صحيفة «ذا غارديان» حيّزاً في تغطيتها للحدث، للمزاعم الإسرائيلية، في حين تفرّدت صحيفة «إندبندنت» عن زميلاتها بنقل إفادة شاهد عيان، رفض الكشف عن اسمه، كان قد زعم، في حديث إلى وكالة «أسوشيتد برس»، باقتراب عدد من الحشود نحو إحدى نقاط انتشار الجيش الإسرائيلي، وهي شهادة تستبطن شكلاً من أشكال تبرير ما جاء على لسان الناطقين العسكريين الإسرائيليين.
ما وصفه ناشطون حقوقيون بـ»مجزرة الطحين»، تزامن مع تقارير أممية باتت تقرع جرس الإنذار حول تفاقم الوضع الإنساني في غزة، وخصوصاً شماله، بسبب النقص الحادّ في الغذاء والمياه الصالحة للشرب، وتفشّي الأمراض المعدية، التي تفتك بأكثر من مليون فلسطيني، وذلك في موازاة ما تعكسه إحصاءات تشير إلى أن واحداً من كل 20 شخصاً في غزة قُتل أو تعرّض للإصابة على يد القوات الإسرائيلية.
وفي هذا الصدد، يؤكد المفوّض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وليام فولكر، أن «المساحة التشغيلية للعمليات الإغاثية والإنسانية في شمال غزة، حيث يفتك خطر الموت جوعاً بكثيرين، قد أصبحت شبه معدومة في الوقت الحالي»، موضحاً أن «إيصال المساعدات إلى باقي أنحاء القطاع بات متعذّراً على نحو خطير».
وفي معرض تعليقها على المجزرة، أصدرت منظمة «أطباء بلا حدود»، بياناً وصفت فيه الحادث بأنه «النتيجة المباشرة لسلسلة القرارات غير الحكيمة التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية خلال فترة الحرب»، بينما صرّح رئيس «المجلس النرويجي للاجئين»، يان إيغلاند، إثر جولة قام بها في بعض المناطق في غزة، بأن «المدنيين في غزة يصابون بالمرض، والجوع والعطش بسبب القيود التي تفرضها إسرائيل على الدخول»، مشدّداً على أن سلطات الاحتلال «تمنع دخول الإمدادات المنقذة للحياة، بصورة متعمّدة» إلى القطاع.
وفي إزاء ذلك، لفتت صحيفة «واشنطن بوست» إلى ما أُشيع عن مؤازرة الولايات المتحدة مبادرة الأردن لإسقاط عدد من شحنات الدعم الإنساني والإغاثي فوق قطاع غزة خلال الأيام الماضية، معتبرة أنه يحمل دلالات على «المفارقة المتمثّلة في قيام واشنطن بإسقاط الإمدادات على السكان الذين ينشدون الاستقرار والسلام عقب أشهر من الهجمات الإسرائيلية من خلال ذخائر أميركية الصنع».
ونقلت الصحيفة الأميركية عن مدير الشؤون الإنسانية في منظمة «أوكسفام»، سكوت بول، قوله إن «مثل هذه التدابير ستسهم في الغالب في التخفيف (من حالة الشعور بالذنب التي تنتاب) ضمائر كبار المسؤولين الأميركيين الذين تساهم سياساتهم في الفظائع المستمرة وخطر المجاعة القائم في غزة».
وفي ردود الفعل السياسية، لم يأتِ الموقف الأميركي من المجزرة بجديد، وهو ما تجلّى من خلال عرقلة الولايات المتحدة إصدار بيان في مجلس الأمن الدولي يحمّل السلطات الإسرائيلية مسؤولية الحادثة.
كذلك، تجنّب الرئيس الأميركي، جو بايدن، كعادته، توجيه اللوم المباشر إلى إسرائيل، مكتفياً بوصف ما حدث بـ»المأساوي»، و»المثير للقلق»، إثر مكالمات أجراها مع قادة عرب، أبرزهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مع التحذير من أن ما جرى «قد يقوّض الجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار».
وذلك المضمون حملته أيضاً تصريحات الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر، حين أوضح أن بلاده لا تزال «تسعى بشكل عاجل إلى الحصول على معلومات إضافية» عن المجزرة، زاعماً وجود «تقارير متضاربة» حول الحادثة، مع إشارته إلى أن القافلة المستهدفة ليست تابعة للأمم المتحدة. وتابع أن المسؤولين في إدارته يضغطون على إسرائيل للحصول على إجابات في شأن نتائج التحقيق الذي تجريه، مكرّراً المواقف الأميركية السابقة التي تدعو إسرائيل إلى «إدخال المزيد من المساعدات الإنسانية».
على المقلب الأوروبي، جاءت النبرة أكثر اتزاناً، حين ندّد منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بالمذبحة التي وقعت في شارع الرشيد، ووصفها بأنها «غير مقبولة على الإطلاق»، في حين اعتبرها مسؤولون من بلدان أوروبية عدة، في طليعتها فرنسا، إضافة إلى إسبانيا، والبرتغال، أسوة بالأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بمثابة مؤشّر إلى الأولوية القصوى التي بات يمثّلها وقف إطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية.
فمن جهته، انضم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى المطالبين بإجراء تحقيق مستقلّ، مبدياً «سخطه العميق» من عملية الاستهداف، مع مناداته بأهمية التوصّل إلى «الحقيقة والعدالة» و»احترام القانون الدولي».
وضمن السياق نفسه، وقّع حوالى 200 برلماني من 12 دولة حول العالم، على عريضة خطية شملت تعهّداً من قِبَلهم بالضغط على حكومات بلدانهم بغرض حثّها على عدم تصدير الأسلحة لمصلحة إسرائيل، علماً أن من بين هؤلاء قادة أحزاب حاليين وسابقين، على رأسهم زعيم «حزب العمل» البريطاني السابق جيريمي كوربين، ورئيس حزب «فرنسا الأبية» جان لوك ميلانشون، وزعيمة «حزب بوديموس» الإسباني إيوني بيلارا، ورئيسة «حزب الخضر» في أستراليا لاريسا ووترز، إلى جانب نواب في «العمل» البريطاني، وبرلمانيين آخرين من كندا، وأستراليا وألمانيا وتركيا والولايات المتحدة.
صحيفة الأخبار اللبنانية