واقعية سحرية بنكهة شرقية في رواية “الجمال جرح”
تعد رواية “الجمال جرح” للأندونيسي إيكا كورنياوان، بمثابة اللقاء الأول لنا بالأدب الإندونيسي، فقبل أن يقدم المترجم أحمد شافعي على مغامرته التي تصدت لنشرها دار الكتب خان القاهرية، لم يكن القارىء العربي يظن أن في إندونيسيا من يكتب رواية تحظى باعتراف عالمي يتمثل في ترجمتها إلى سبع وعشرين لغة، والفوز بجوائز مهمة، وأن تقول عنه الصحف الغربية إن روايته تتحدى واقعية جارثيا ماركيز السحرية، وأنه أيضا تلميذ مخلص لسلمان رشدي وجونتر جراس، هكذا أوجد نقاده الغربيون له أسلافا، وأكد هو انتماءه لهؤلاء الأسلاف بأن مارس هواية ماركيز في صنع فخاخ للنقاد، فأتى كورنياوان، في روايته بما دفعهم للمقارنة بينها وبين مائة عام من العزلة، وبأن “هاليموندا” مبنية على غرار “ماكوندو”، أيضا تطير “ما إيانج” محظية أحد الهولنديين الاستعماريين، كما طارت إحدى شخصيات مائة عام من العزلة، كان ذلك كافيا بالنسبة للبعض ليسلموا بالتشابه بين الروايتين، فرأوا أن الكاتب الإندونيسي مجرد مقلد لماركيز، متناسين أن الواقعية السحرية ليست مجرد سرد لحكايات عجائبية، وإنما تتمثل – وفقا لتعريف بالينثيا روث – في “الوعي الأسطوري بالعالم، وفيها نجد العالم مفهوما رغم امتلائه بالأسرار، فليس ثمة أيّ حدث ليس له تفسير“.
ماركيز نفسه قال “إننا نعيش محاطين بأشياء غريبة وخيالية في حين أن الكتاب يصرون على أن يقصوا علينا وقائع غير مباشرة ليس لها أهمية”.
وقدم ماركيز تعريفا عمليا للواقعية السحرية بقوله “كانت أكثر مسألة تهمني هي تحطيم الحدود التي تفصل بين ما يبدو حقيقة وما يبدو فانتازيا”، وهذا بالضبط ما فعله بالضبط إيكا كورنياوان، فهاليموندا ليست ماكوندو بل هي مجرد منطقة ساحلية آسيوية، تحمل كل الخصوصيات المحلية للمنطقة وناسها وتراثها وأساطيرها، وقد اهتمت الرواية بذلك أكثر من اهتمامها بالمكان الذي لم يتعد كونه فضاء تتحرك فيه الشخصيات دون أن تؤثر فيه أو تتأثر به، على العكس من ماكوندو، وبالتالي فالواقعية السحرية في “الجمال جرح” ليست تقليدا لروايات أميركا اللاتينية، بل تحتفظ بخصوصيتها ونكهتها المميزة كأي أدب محلي، وفي إطار تحطيم الحدود بين الواقع والخيال. ولعله تأثر بألف ليلة أكثر مما تأثر بمائة عام من العزلة، خصوصا في ذلك الزخم الإيروتيكي الذي يفعم الرواية.
نساء وفرسان
افتتح كورنياوان روايته بمقتبس من دون كيخوتا لثرفانتس، يقول فيه “ما إن انتهى من تنظيف سلاحه واتخذ من قلنسوة بسيطة خوذة مكتملة، وأطلق اسما على حصانه، وقرر لنفسه اسما أيضا، حتى أدرك أنه لا يعوزه غير شيء واحد، هو أن يعثر لنفسه على سيدة يغرم بها، فما الفارس الجوال بغير حبيبة إلا شجرة عاطلة من الورق والثمر، بل هو جسم لا روح فيه”.
وربما مع الفصل الأخير وليس قبله يتضح لنا أن ذلك المفتتح لم يكن مجانيا، فالفارس الجوال هو الروح الشرير الذي عاد لينتقم، أما السيدة التي أغرم بها فهي “ديوي آيو” التي نهضت من موتها بعد واحد وعشرين عاما قضتها في قبرها، ويكاد الفصل الأول أن يكون رواية كاملة عن ديوي آيو التى نهضت من الموت، وبناتها الأربعة، وعملها كعاهرة لدى الهولنديين واليابانيين وكل الغزاة، وتنتهي بالفتاة القبيحة جمال وقد كبرت بطنها من الحمل.
وفي الفصل الثاني يحكي عن ما إيانج التى اتخذها الضابط الهولندى محظية ففقد حبيبها ماجيديك عقله، تواعدا على اللقاء وقال انه سينتظرها لستة عشر عاما، وفي الموعد المحدد كان قد استعاد عقله ووسامته. ولما جاءته تناكحا فوق صخرة، وهناك أخبرته أنها تستطيع أن تطير لأنها تؤمن بقدرتها على الطيران، ولما وثبت لم يسمع الناس إلا صراخ ماجيديك الذي بقى وحيدا في التل حيث أرسلت إليه ديوي آيو ليتزوجها.
نعرف أن ديوى آيو ولدت نتيجة زنا محارم بين هنرى وأخته آيو ابنى تيد ستاملر الهولندى وهما ابناه من محظيتين. وبعد اكتشاف أمرهما اختفيا في الأدغال وعاشا حياة بدائية وانجبا ديوى آيو. وكأن اللعنة ظلت تطارد ديوي آيو وبناتها أينما حللن. هكذا ربطت الرواية تلك الحلقة بسابقتها، ونعرف أن هاليموندا كان اسمها ماتارام لكن غير الهولنديون اسمها وأقاموا المستشفيات ومزارع الكاكاو وبيوت الدعارة. وعندما نشبت الحرب واحتلت ألمانيا هولندا، قامت اليابان بغزو أندونيسيا فاكتظت هاليموندا باللاجئين والعاهرات.
غزاة وقتلة
يحكي الروائي قصة هاليموندا عبر مائة سنة تقريبا من خلال حكايات العائدة من الموت وبناتها الأربعة، وإن كانت الرواية لا تحدد عمرها بدقة، نقرأ “الجميع كانوا يعلمون أنه قبر ديوي آيو التي توفيت عن اثنتين وخمسين سنة ثم قامت بعد موتها بإحدى وعشرين سنة، فلم يعد أحد يعرف منذ تلك اللحظة كيف يحسب عمرها”.
تتقاطع حياة ديوي آيو ووالديها مع الاستعمار الهولندي ثم الغزو الياباني، فمع سقوط المدينة تم سجن ديوى باعتبارها هولندية، كانت عذراء في السابعة عشرة حينما منحت نفسها لضابط يابانى مقابل أن يأتي لامرأة مريضة بطبيب ودواء، وحينما جاء الطبيب كانت المرأة قد ماتت، لكن الصبية أدركت أنها يمكن أن تحصل على أشياء مقابل جسدها. وفي المعسكر تم إعداد الشابات ليكن عاهرات، هكذا تسرد الرواية حكاية ماخور ماما كالونج الذي تزامنت إقامته مع بناء الثكنات الهائلة لجيش الاحتلال الهولندي.
ويصبح جسد المرأة المحلية كوطنها، يستبيحه المستعمر، وبعد الاستقلال تستمر الاستباحة، فقط يتغير السادة ويبقى البشر العاديون عبيدا أو عاهرات. فها هي الإبنة الكبرى “آلامندا” تقع في غرام المناضل الشيوعي كلايوون، لكنها تتعرض للاغتصاب على يد شوادنتشو القائد العسكري لهاليموندا، وهي تتزوجه لتنتقم منه، فتنتهي قصة حب لتنشأ غيرها بين كلايوون الابنة الوسطى أديندا التي تتعرف عليه على الشاطئ حينما ينقذها من عضة كلب مفترس، وقصة حب ثالثة تنشأ بين البنت الصغرى مايا ديوي والبلطجي مامان جيندنج، كل القصص تنتهي نهايات مأساوية، تجد ديوي آيو بناتها وقد أصبحن أرامل، تلوم الروح الشرير أو الهائل، الذي بدا مبتهجا وهو يرى انتصاراته، فقد ثأر لجميع ضغائنه، ولا يرى في ديوي آيو التي أحبته سوى كونها ابنة الهولندي ستاملر، لذلك تعود إلى الموت، ففارسها لا يحارب طواحين الهواء، لم يكتف بمقاومة المستعمر الهولندي، ولا بخوض حرب عصابات ضد اليابانيين، لكنه يمارس إعمال إبادة جماعية ضد الشيوعيين، فتصبح ديكتاتورية سوهارتو في مثل وحشية الغزاة الذين تعاقبوا على إندونيسيا لثلاثة قرون.
وتقول أديندا “كأننا عائلة ملعونة”، فترد ألامندا “نحن عائلة ملعونة، حقا وتماما”، وهنا تتجلى المفارقة، فأقبح بنات ديوي آيو هي من ولدت بعد الاستقلال، وكانت الأم قد أسمتها “جمال”، ربما كنوع من التحايل على قبحها، فكأن اللعنة هي جرح الجمال الغائر. (وكالة الصحافة العربية)
ميدل إيست أونلاين