… ورحلت أسماء البكري الجريئة المشاكسة
تكشف تجربة المخرجة المصرية الراحلة أسماء البكري (1941 – 2015) والمقارنة بين ردود الفعل النقدية بعد عرض فيلميها الأساسيين – «شحاذون ونبلاء» 1991 و»كونشرتو درب سعادة» 1998 – ثم ردود الفعل المشيدة بأعمالها، والتي أكدت على أنها «كانت معبرة عن الواقع المصري»، عقب خبر وفاتها أخيراً، أن أعمال الفنان أبقى مهما كانت قليلة العدد، وأن النقد السلبي – غير الموضوعي والمتطرف – أحياناً تذروه الرياح مع مرور الزمن. أسماء البكري مثل معظم مخرجي أفلام الإنتاج المشترك – خصوصاً في نهاية التسعينات ومستهل الألفية الثالثة عندما كان التمويل الأجنبي للسينما المصرية والآتي خاصة من فرنسا محل تشكيك وإدانة وخاضع لنظرية المؤامرة – وقتها نالت البكري حظها من الهجوم الشديد واللاذع. وكانت إحدى التُهم الجاهزة المُوجهة إلى أفلامها أنها: «مثل أفلام هذا التيار المصُنوع بتمويل فرنسي، موضوعاتها لها نصيب من القتامة الفكرية والمعنوية التي تسيء للمجتمع المصري فتسلط الضوء على الفقر والجهل والمرض وتنشر غسيله القذر». يومها تمادى البعض في «نقد» الفيلم إلى حد وصف سيناريو «شحاذون ونبلاء» – المأخوذ عن رواية ألبير قصيري – «بالمفكك، والحوار بالغامض، والشخصيات بغير المفهومة»، مؤكدين وجود خلل غير متوقع في السياق الدرامي للأحداث، مايوصل الى القول ان «رؤية المخرجة غربية في جوهرها لا تعبر عن الواقع المصري في تلك الفترة». واعتبروا أن الشخصيات تبدو وكأنها مستوردة من عالم آخر إذ يخيم عليها الشذوذ، وتبدو أقرب إلى فئران التجارب بل إن سلوكها أقرب إلى المسوخ البشرية،» مع انه لا يتعين علينا ان ننسى هنا أن عددا ليس بالقليل من الأفلام المصرية من الإنتاج المحلي الخالص فيها مشاهد تزخر بعشرات الشخصيات السلبية الممسوخة وعوالم المهمشين، ودون أن ننسى أن الواقع ذاته يتفوق على السينما.
شهادة ميلاد مبدعة
وعلى رغم كل ما كتب وقيل يومها، من المؤكد ان فيلم «شحاذون ونبلاء» كتب شهادة مولد مخرجته بأجوائه المصرية شديدة الخصوصية في عام 1945 والمحمّل بالدلالات الرمزية للواقع الحالي، بإيقاعه وتشكيلاته البصرية والسمعية، وبأداء أبطاله. فهو يدور حول ثلاث شخصيات رئيسية: جوهر (صلاح السعدني) أستاذ التاريخ الذي ترك التدريس بالجامعة عندما اكتشف أن العالم مليء بالكذب والزيف، بما في ذلك دروس التاريخ والجغرافيا، مستنتجا ان الدول الكبرى تُحاول باستمرار تغيير خريطة العالم بالاستيلاء على أراضي دول أخرى. وإذ يرى كنتيجة لهذا ان القنبلة الذرية والحروب قتلت الملايين ونشرت الخراب، يستولي عليه الزهد ويكتفي بالإقامة في غرفة قذرة لا تحتوي إلا على أوراق الجرائد والجرذان ومخلفات مياه تغسيل الأموات. الشخصية الثانية: يكن (أحمد آدم) الشاعر الحالم والفقير المعدم، الرافض هو الآخر للواقع شديد القسوة، فيعيش بصحبة أشعاره في عالم الخيال، ويُحب أستاذه (جوهر) إلى درجة الهوس. أما الكردي (محمود الجندي) فهو موظف في وزارة الأشغال تشغله قضايا الشعوب المضطهدة، ومَنْ يضطرون إلى ممارسة أعمال لا يحبونها ولا يرضون عنها، ومن بينهم فتيات الليل اللائي يتردد عليهن وينوي الزواج من إحداهن. يسعى الفيلم إلى تصوير هؤلاء الشحاذين على أنهم نبلاء بأخلاقهم وبتصرفاتهم، ببحثهم عن المعنى الحقيقي للحياة وللوجود. أما الشخصية الرابعة في الفيلم فليست محورية لكنها لا تقل أهمية عن الأخرى وهي: ضابط البوليس نور بك (عبد العزيز مخيون) إنسان غير سوي ومليء بالتناقضات والزيف، يسعي إلى كشف الحقيقة، وكل ما يهمه هومطاردة المجرمين وتطبيق القانون.
رقابة وجوائز
قبل تصوير الفيلم حصل السيناريو الذي أُعطي عنوان «جوهر» على ترخيص الرقابة 1989 ثم تغيير الاسم إلى «شحاذون ونبلاء» 1991. رُفض السيناريو في البداية، فلجأت المخرجة إلى صديقها الناقد مصطفى درويش وذهبا معاً إلى مسؤولي الرقابة وقالت لهم، على حد تصريحها لكاتبة هذه السطور: «إذا رفضتم رواية ألبير قصيري وسيناريو أسماء فيجب أن تسحبوا كل روايات نجيب محفوظ من الأسواق، لأن ما هو موجود عند محفوظ موجود في هذه الرواية».. فكانت حجة الرقباء أن السيناريو يذكر وجود بيت دعارة سنة 1945 وفي ذلك العام كانت هناك مقاومة شعبية في البلاد، فأجابهم درويش: «أسماء ليست مؤرخة، إن فيلمها عن رواية يحدث مثلها في أماكن كثيرة»، فانتهى الموضوع، ووافقت الرقابة، لكن بالطبع بعد حذف بعض الألفاظ واللقطات.
عندما عُرض «شحاذون ونبلاء» في فرنسا قامت إحدى الجامعات بتدريس القصة فكان الطلبة يقرأون الرواية ويشاهدون الفيلم. كذلك حصل الفيلم على أربع جوائز من مهرجان «مونبلييه» في فرنسا هي: جائزة النقاد، جائزة الجمهور، جائزة السينما التجريبية، وجائزة الجمهور لأقل من 18سنة. لكن البعض اتخذ من تلك الجوائز مبرراً جديداً للهجوم قائلين: «الفيلم اعتبرته بعض المهرجانات الدولية في الغرب نوعا من التبشير بسقوط رموز الشرق وانهيار مقوماته فرحبوا به ومنحوه الجوائز.» وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل: إذا كان الاتهام السابق صحيحاً فيما يتعلق بجائزة السينما التجريبية فبماذا نُفسر حصول الفيلم على جائزة الجمهور، والنقاد، والجمهور تحت 18 سنة؟!
كونشرتو
أما فيلم أسماء الروائي الثاني «كونشرتو في درب سعادة» – المأخوذ عن قصة قصيرة بعنوان «الأنغام» كتبها حسام الدين زكريا ونُشرت عام 1972 – فيتحدث عن تصدع المرء تحت وطأة المعرفة، عن المشكلة الناجمة عن الهوة السحيقة بين القدرات الحقيقية للإنسان وبين أحلامه وطموحه، عن الكارثة المتحققة عندما تُصبح الطموحات أكبر من القدرات الفعلية للإنسان. مع ذلك اتهم الفيلم هو الآخر بأنه فيلم للمثقفين، وأنه يُخاطب المشاهد الغربي ووضع في اعتباره مهرجانات الغرب، وأنه «يُعظّم ثقافة الغرب على حساب حضارة الشرق». وظل التساؤل يطارد المخرجة: لماذا المبالغة في تجسيد الفقر داخل الحي الشعبي المصري في عملها؟ وكان دوماً ردها: «لم أبالغ أبداً، بل قدمت الصورة كما هي في الواقع، لكنني راعيت جماليات مواقع التصوير وقمت – بمشاركة الأهالي وبعد دفع رسوم إدارية للحي – بتنظيف تلك المواقع ورفع تلال القمامة من أماكن أثرية تحولت إلى مقالب زبالة ومبولة. أما الشخصية التي جسدتها عائشة الكيلاني والتي نالت نصيبها من الهجوم، فهي نموذج للمرأة المصرية التي لم تنل حظاً من التعليم، وتُقيم في الأحياء الشعبية لتُنجب عدداً كبيراً من الأبناء، وتحشر نفسها في كل شيء، وتقحم أنفها في حياة جيرانها، ففي الأحياء الشعبية لا تُوجد أسرار، الجميع يعرف كل شيء عن الآخرين».
بعد رحلة طويلة مليئة بالشغب، وبالجرأة في التعبير عن رأيها، ومحاولاتها الدؤوبة للحصول على تمويل لأفلامها التي رفضها المنتجون والموزعون في مصر، وقدرتها على ممارسة سياسات تقشفية في الإنتاج واللجوء إلى أصدقائها في أحيان أخرى لدعم أفلامها، فجأة وجراء أزمة قلبية، رحلت المخرجة المصرية فتحية محمد سيف الدين، الشهيرة بأسماء البكري، يوم 5 كانون الثاني (يناير) الحالي عن عمر يبلغ 67 فهي من مواليد العام 1947. رحلت دون أن يعرض في دور العرض السينمائية فيلمها الثالث «العنف والسخرية» الذي انتهت منه 2006 والمأخوذ بدوره عن رواية لألبير قصيري. رحلت أسماء البكري وفي أدراج مكتبها وفي خيالها تسكن مشاريع وأحلام سينمائية كبيرة بعضها عن الحضارة الإسلامية، وعن التسامح بين المسلمين والمسيحين.
تخرجت أسماء في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية جامعة الإسكندرية عام 1970. بدأت حياتها الفنية مساعد إخراج منذ عام 1973 مع المخرج سعد عرفة، ثم مع يوسف شاهين في «عودة الابن الضال»، و»وداعاً بونابرت»، ثم مع خيري بشارة. عملت مع عدد من المخرجين الأجانب منهم الأميركي جون غليرمن في فيلم «جريمة على النيل»، ومع المخرج الأميركي فرانكلين شافنر.
أخرجت البكري عدداً من الأفلام التسجيلية منها: «قطرة ماء»، الذي حصل على ثماني جوائز، و»بورتريه» والفيلمان من إنتاجها الخاص، أما فيلم «دهشة» فتحقق بدعم الأميركية ماري دوجن ويتحدث عن صناعة المراكب الخشبية التي تُوشك على الانقراض في النيل، فالمراكب المصنوعة من الحديد والتي تسير بالجاز حلت محلها. كما أخرجت أسماء للتلفزيون المصري ثلاثة أفلام: «الرخام»، عن تاريخ الرخام في مصر، و»الضاهر»، ثم «الفاطميون».
وأنتجت لها السفارة الفرنسية في القاهرة فيلم «بيت الهراوي» الذي يرصد مراحل ترميم هذا المشروع الفرنسي المصري المشترك، ثم فيلم «النيل» من إنتاج القناة الثانية الفرنسية ضمن سلسلة عن الأنهار العظمى في العالم. أما فيلم «المتحف اليوناني الروماني» بالإسكندرية والذي تم إنتاجه لمناسبة مرور مئة عام على إنشاء المتحف (1893ـ 1993) فأنجز بدعم مصري – فرنسي مشترك، إضافة إلى إخراجها بعض العروض في الأوبرا المصرية.
صحيفة الحياة اللندنية