وطني نقرة السّلمان وهويّتي عراقيّة والهوى أممي
عبد الحسين شعبان*
“أنت غير عراقي. لقد أُسقطتْ عنك الجنسية… اكْتُبْ رسالة إلى أهلك تطلب منهم ما تحتاجه قبل تسفيرك إلى خارج العراق…”، قال ذلك مدير السجن لـ”آرا خاجادور”، بلهجة أوامرية استعلائية باردة، بعد صدور (المرسوم رقم 17) في 22 آب/ أغسطس العام 1954.
وكانت وزارة نوري السعيد الثانية عشر قد تشكّلت في 3 آب/أغسطس وعُرفت لاحقاً بـ”وزارة المراسيم” وقد جاء تشكيلها تحضيراً لحلف بغداد، وأهم مراسيمها “إسقاط الجنسية” و”مكافحة الأفكار الهدّامة” (المرسوم رقم 16)، وإغلاق النقابات وحلّ الأحزاب وإلغاء امتيازات الصحف، وقد أصدر وزير الداخلية سعيد قزاز في حينها تعليمات تقضي بمراجعة من شملهم قانون إسقاط الجنسية أقرب مركز للشرطة وتقديم تعهّد خطي بنبذ الشيوعية خلال شهر واحد لمن كان داخل العراق وشهرين لمن كان خارجه.
وضمّت قائمة إسقاط الجنسية العراقية شخصيات سياسية معارضة متنوّعة، بينهم: كامل قزانجي وتوفيق منير (اللّذان سُفّرا إلى تركيا) وعزيز شريف الذي كان متوارياً عن الأنظار، وظنّت السّلطات أنه كان في سوريا، فكتب رسالة من مخبئه يُعلن فيها أنه موجود في العراق تحدّياً لها، وعدداً من السجناء الذين صدرت بحقهم أحكاماً غليظة مثل: زكي خيري وبهاء الدين نوري وأكرم حسين وجاسم حمودي وعبد الرزاق الزبيدي وصادق الفلاحي وكامل صالح السامرائي ومحمد عبد اللطيف وعلي الشيخ حسين الساعدي، وبعض الذين كانوا في الخارج بينهم الشاعر كاظم السماوي والشاعر عدنان الراوي والدكتور صفاء الحافظ وآخرين. وتعكس حكاية آرا خاجادور الدرامية هشاشة الوضع القانوني في العراق، والذي عانت منه الدولة العراقية، حيث كان قانون الجنسية العراقية (رقم 42 لعام 1924) قد صدر قبل صدور القانون الأساسي (الدستور) العام 1925، ووضع القانون درجتين للجنسية (أ) و(ب) واشترط وجود شهادة جنسية وليس جنسية فقط، الأمر الذي جاءت تداعياته لاحقاً واستثمر لأسباب سياسية، فـ”آرا” الأرمني اكتسب الجنسية العراقية منذ ولادته، وفي سنة صدور القانون، ولأنه كان محكوماً بتهمة الشيوعية حكماً مؤبداً، فقد جرت محاولات لمساومته سياسياً تحت حجة عدم عراقيته، وبالطبع فإن كل حالة عوملت على انفراد.
ولعلّ حكاية آرا خاجادور حول الجنسية تلك، تفتح أمامنا خزّان حكايات عديدة، منها نفق بعقوبة الذي ساهم في حفره، وأطلق السجانون عليه لاحقاً اسم “نفق آرا”، وكان د. موفق فتوحي قد زار بعقوبة في أوائل السبعينات في إطار مشروع لوزارة التخطيط العراقية، وهناك استمع إلى مرافقه وهو يتحدث عن عدد من مباني المدينة ومن ضمنها سجن بعقوبة، وحين وصلوا إلى السجن همس محدثه في أذنه: “هنا كان نفق آرا خاجادور الشهير”.
قلت لـ”آرا”: كيف تعاملت مع طلب مدير السجن؟
وما أن بدأ يتحدث عن ذكرياته حتى بدأت المعلومات تتدفّق وكأنها أقرب إلى محفوظة اختزنت في الذاكرة. وقد اختلطت هنا الأريحية وخفّة الدم في جوابه رغم الأجواء الثقيلة والسوداوية التي كان يعيشها، فقال: لقد كتبت رسالة إلى الأهل أطلب منهم إرسال الشاي والسكر والتتن (التبغ – السجائر)، وذلك بدلاً من طلب بدلة وملابس ونقود وما شابه ذلك. وما أن اطّلع مدير السجن على ما كتبته، بصق بوجهي، وعلّق بشراسة على ما كتبت قائلاً: أتمزح معي؟ فقلت له: أنا “آرا” الأرمني العراقي الشيوعي، “وطني نقرة السلمان، وهويّتي العراق، وإنني أممي وأحبُّ الإنسانية”.
استعدت تلك الحكاية الدرامية لأفتح نافذة جديدة لحكاية أخرى في ذاكرة آرا خاجادور، وهي حكاية لا تقلّ غرابة وإثارة عن حكاية الجنسية، وإن كان ظلّها أخفّ من الحكاية الأولى. يومها كان آرا وعدد من رفاقه، ولا سيّما عمر علي الشيخ ومهدي حميد، قد شرعوا بحفر نفق بعقوبة الشهير، العام 1954 وقد هرب منه السجناء، وبعد فشل العملية وإلقاء القبض على الهاربين جاءه أحد الجنرالات للتحقيق معه، وكان سؤاله المحيّر:
“يا آرا الأرمني، كيف حفرت النفق؟ بالله عليك أخبرني؟ وأين ذهبت بالتراب؟… قل لي فقط لمعلوماتي العسكرية… كيف فعلتها؟”، كرّر النقشبندي – كما يذكر آرا اسمه – سؤاله، لكن آرا استخفّ بسلطوية السائل حيث ناكفه: “إن ذلك سرّ المهنة، فكيف تريدني أن أفشي السرّ”، فما كان من الجنرال إلاّ أن ازداد حيرة وشعوراً بالخذلان. وكان آرا ورفاقه قد بدأوا بحفر النفق، وكما يقول: “إن الحاجة أم الاختراع”، فقد كانوا ينقلون التراب “بالكونية” ويعملون منه مخاديد (وسائد) ودواشك (أفرشة) ينامون عليها، لكي لا يلفتوا نظر الحرّاس. أما أدواتهم التي استعملوها فكانت أدوات المطبخ البسيطة (الجفاجير والسكاكين والملاعق).
استعدتُ مع آرا تلك الاستذكارات، عسى أن نبتعد ولو قليلاً عن أوجاع عراقنا الحاضر الذي أصبح مرتعاً للزبائنية ونظام الغنائم والمحاصصات الطائفية والإثنية والإرهاب والعنف والفساد والرشا، ولعلّ آرا ما يزال كما عرفته منذ نحو خمسة عقود من الزمان، يُتابع كل صغيرة وكبيرة، على الرغم من أنه في الثالثة والتسعين من عمره المديد، ويعيش وحيداً بشقة في قلب العاصمة التشيكية براغ، لكنه لا يزال يتمتّع بحيويّته، وأستطيع القول إنني لم أقابل شخصاً بأريحيّـته وفي سنّه، فهو ما أن تبدأ معه الحوار حتى يأخذك بعيداً لعوالمه الخاصة وأحلامه الكبيرة ومغامراته ومتعه، وكما يقول اللبنانيون إنه “عيّيش” (أي يحب الحياة)، على الرغم من مراراته المعتّقة والظّلم الذي حاق به، لكنه لم يتراجع قيد أنملة عن الأمل الذي ظل رفيقه الأول والأخير حتى وهو يقضي عشر سنوات عجاف في السجون، قسمها الأكبر في سجن صحراوي اسمه “نقرة السلمان”، مثلما يقضي نحو 5 سنوات أخرى في الجبال الوعرة متنقلاً بين ناونزنك ونوكان وبشتاشان، ومن سوران إلى بهدنان، ومن موقع إلى آخر لقيادة حركة الأنصار الشيوعيين.
وكان سلام عادل الذي استشهد تحت التعذيب في العام 1963 قد اقترح استبقائه في المنفى، حيث كان في العام 19599 سكرتيراً عاماً لاتحاد نقابات العمال وعمل في براغ في سكرتارية اتحاد نقابات العمال العالمي، واستمر هناك بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 الذي نجا منه، وعاد سرّاً إلى العراق في مطلع العام 1965، واضطرّ إلى المنفى ثانية في العام 1970 وحتى العام 1974 ممثلاً للحزب الشيوعي في مجلة “قضايا السلم والاشتراكية”، وفي أواخر الثمانينات وانتهاء مهماته في قيادة قوات الأنصار الشيوعية، عاد إلى منفاه براغ. وكانت السجون والجبال والمنافي قد أعطت الرجل حيّزاً من التسامح والاعتراف بالآخر، حيث مارس رياضة نفسية للتغلّب على آلامه وعذاباته، ولكي لا يتحوّل الاختلاف والخلاف إلى نوع من الكراهية والحقد، وقد ساعدته في ذلك بيئته العائلية ونشأته الأولى الانفتاحية.
وحين تعرّضت الحركة الشيوعية إلى التصدّع والانحسار أصابه ما أصاب العشرات من القيادات والكوادر، بسبب ضيق مساحة الرأي والخلاف الذي سرعان ما استبدل الحوار والجدل بالعقوبات والتهميش والعزل لدرجة اعْتُبِر آرا خارج إطار الحزب، وبدأت تلك الخلافات تتعمّق خصوصاً عند توغل القوات الإيرانية في الأراضي العراقية، ولاحقاً بسبب الحصار الدولي والرهان على العنصر الخارجي والمشاركة في جوقة مجلس الحكم الانتقالي وتشكيلات ما بعد الاحتلال، وكان قد عبّر عن جزء من آرائه في كتابه “نبض السنين” الذي قدّم له رفيقه الذي ظلّ مخلصاً له د. عبد الحميد برتو.
آرا خاجادور وغيره العشرات من الشيوعيين، سواء كانوا من موقع المسؤولية أو خارجها، ما زالوا يتصرّفون ويتعاملون بكونهم مرجعية شيوعية خارج نطاق الأوامرية والبيروقراطية ويميّزون أنفسهم عنها بمواقف مختلفة، لأن حياتهم وتضحياتهم تأسَّست على أحلامهم لوطنهم أولاً وللقيم والمثل التي ضحّوا من أجلها، وليس عبثاً حين يكون حوار آرا مع مدير السجن أن وطنه نقرة السلمان وهويّته عراقية وانتماءه أممي، وهو لم يخفِ ذلك، وكان يعتقد ولا يزال أن علاقته مع المركز الأممي، سواء كانت شخصية أو حزبية، هي من باب وحدة الأفكار والأهداف، ويمكن أن تكون من باب وحدة الوسائل والأساليب، أو تكاملها وتفاعلها، وربما الآن أصبح أكثر حريّة في انتقاد بعض توجهات الرفاق الأشقاء، لأنه حسب تعبيره لا يعرفون ظروفنا، وعلينا نحن أن نقرّر ما يخصّنا. ولعلّ التعويلية والاتكالية كانتا أحد أسباب إخفاق الحركة السياسية في بلادنا بمختلف تياراتها.
آرا الأرمني كما يسمّيه السجانون، الشيوعي الوطني الأممي وقائد حركة الأنصار الشيوعية العربية التي تأسّست من أربعة أحزاب شيوعية عربية (العراقي والسوري واللبناني والأردني) وأحد طاقم الرعيل الأول يستعيد حكاية هروبه من سجن بعقوبة التي مضى عليها ستة عقود ونيّف من الزمان، والذي ترك الجنرال يضرب أخماساً بأسداس: “كيف فعلها آرا الأرمني؟ وأين أخفى التراب؟”.
يقول آرا: إن النفق الذي تمّ حفره طوله 27 متراً وعرضه حوالي متر واحد، لكننا بالصبر الشديد والسريّة التامّة تمكّنا من إنجاز مهمتنا واستكمال حفر النفق بأدوات بدائية، وربط داخل السجن بخارجه عبر استطلاعات كنّا نقوم بها، حيث نرسل عمر علي الشيخ “المتمارض” إلى المستشفى خارج السجن، فيعاونه أحد الأطباء القوميين ويسهّل مهمّته، لأنه كان يتعاطف مع السجناء، ويعطيه الفرصة لمراجعته أكثر من مرة في الأسبوع، وهكذا تمكّنا من رسم الخطة وتنفيذها.
وعندما حانت ساعة الصفر باتفاق بين الحزب في الخارج والقيادة السجنية في الداخل التي اضطرت إلى تأجيل الموعد لثلاثة أيام، وذلك بسبب حساب الليالي المقمرة، وكانت لحظة التنفيذ بالغة الرهافة والدقة والحذر، مثلما هي بالغة البطولة والشجاعة، حيث ظلّت حديث العراق كلّه، فقد استطاع الشيوعيون الخروج من تحت الأرض وكأنها قد انشقت لتدفع بهم إلى الحريّة.
يقول آرا كان سجن بعقوبة حديثاً ومبنيّاً من الكونكريت، ومكان الحفر ليس مناسباً، لكننا بدأنا بالحفر في مكان طيني واعتقد رفاقي أنه سينهار علينا، لكن خبرته التي اكتسبها من أماكن العمل المختلفة التي اشتغل فيها من مكاتب لتنظيف طائرات مطار الشعبية في الصحراء العام 1941، وفيما بعد في النفط، كما عمل نجاراً مع والده العسكري السابق في أيام العطل كلّها، مكّنته من اكتساب مهارات عدّة.
وحين سألته متى اهتديت إلى طريق الشيوعية؟ قال: إن أول خلية انتظم فيها، ضمّت آرام ميلكونيان وآرديشست وسيروب وهو كهربائي، وآرا خاجادور، ويومها كان فهد “يوسف سلمان يوسف” أمين عام الحزب قد علّق بقوله: نصبنا وتداً في مقر الاستعمار. وكان المسؤول ستيبان سترايكيان، قبل تأسيس الفرع الأرمني للحزب الشيوعي في العام 1943، مثلما كان كريكور بدروسيان هو مسؤول الفرع الأرمني وهو لبناني الأصل وعربيته ضعيفة، وكان يتبادل الحوار مع فهد بالفرنسية أحياناً، ومع حسين محمد الشبيبي بالإنكليزية، كما يقول آرا، وقد أصبح آرا مسؤولاً للفرع الأرمني وهو في مطلع العشرينات من عمره. وقد حكم عليه بالسجن المؤبد في العام 1948، وبقي في السجن حتى ثورة 14 تموز/ يوليو 1958.
وقد سألت آرا خاجادور عن لقاءاته مع فهد، فقال: التقينا في دار الحكمة في الشورجة، مرّة بدون موعد، وأخرى بموعد وبطلب منه، حيث كنت أتردّد على دار الحكمة للقاء بزكي بسيم، وكان الأخير مسؤول الدار، وهو الشخص الثاني في الحزب عملياً، وكانت لقاءاتي معه مستمرة، كما التقيت حسين محمد الشبيبي الذي كان مسؤول التثقيف.
وعن أعضاء قيادة الفرع الأرمني قال إنهم: أنترانيك ستراليان وشقيقه ستيفان وآرام بوكوس وآرا، وكانت بعض اللقاءات تتم عند زكي بسيم وفي إحداها التقوا حسين محمد الشبيبي الذي كان لتوه قد خرج من المعتقل. ويقول آرا: إن الشبيبي كان واسع الاطلاع وعميق الثقافة، وله باع طويل باللغة العربية، وكان مسؤولاً عن حزب التحرّر الوطني الذي حاول الحزب الشيوعي تشكيله كواجهة له، حين أجاز سعد صالح جريو وزير الداخلية 5 أحزاب وطنية العام 1946 وكان الحزب الشيوعي قد شكّل عصبة مكافحة الصهيونية التي ضمّت عدداً من اليهود في صفوفها بينهم سكرتيرها يعقوب مير مصري، (عادل مصري) وكان مسؤولها محمد حسين أبو العيس. وقد أشرت إلى ملاحظة آرا حول إرسال حسين الشبيبي إلى سعد صالح يستفهم منه، لماذا لم يرخّص لحزب التحرر الوطني؟ وحين شرح صالح للشبيبي الأسباب التي دعته لمثل ذلك الإجراء، تفهّم الحزب موقفه. وقد أدرجت معلومة آرا الجديدة بالنسبة لي في الطبعة الثانية لكتابي عن “سعد صالح – الوسطية والفرصة الضائعة”.
وحين سألته: كم دامت عملية الحفر؟ فأجاب: دامت العملية بضعة أشهر، وكنّا نضطر للتوقف أحياناً لأسباب تتعلق باحتمال انكشاف العمل، ثم نعاود الحفر وأحياناً في الظلام، ونقوم بتكسير الحجر، ثم استعنا لاحقاً بسلك كهربائي لغرض الإضاءة الداخلية، وكنا ننقل التراب إلى الغرف لنعمل منه وسائد وأفرشة، حتى إن السجناء الآخرين لم يشعروا بأي شيء غريب. وكنا قد اتفقنا مع الحزب خارج السجن في إحدى الزيارات العائلية على موعد التنفيذ، حيث أرسل الحزب 3 أشخاص بالدراجات يأتون ويذهبون لمدة 3 أيام يترقبون بدء العملية وليقوموا بمساعدة الهاربين، لكن عملية التنفيذ تأخّرت، الأمر الذي كان مرور هؤلاء لعدّة مرات أمام دائرة السجن سيثير الشبهة عليهم.
ولم نكن ندري ما الذي حصل وقرّرنا التنفيذ خوفاً من انكشاف العملية. ويضحك آرا ويقول: بعد عدّة سنوات سمعت من عامر عبدالله يردّد في وصف الوضع السياسي بقوله: هناك “بصيص من النور في نفق مظلم”، وكلّما كان يقول ذلك كنت أستعيد لحظة تدفق حزمات الضوء إلى داخل النفق، فأضحك في سريّ. وكنّا قد حضّرنا دشاديش، وخرجنا إلى الهواء الطلق، وكنت أنا آخرهم.
كان زكي خيري بصحبة عزيز الحاج وبعد مشي طويل ومرهق وجدا مقهى عند عبور السكّة، فجلسا فيه بعد أن أخذ التعب منهما مأخذاً، وسألهم الجالسون: من أنتما أيها الغريبان، وهل تطلبان مساعدة؟ فأجابا: نحن سمّاجة “أي صيادو سمك”. وكانت المدينة قد استنفرت بالكامل، وجاء عبد الرزاق عبد الغفور من التحقيقات الجنائية لمتابعة ملاحقة الهاربين، حيث ألقي القبض عليهما بعد ساعات من هروبهما، وظلّت الدوريات تبحث وتفتّش باستنفار عن اثنين آخرين. وفي مسيرهما آرا وعمر علي الشيخ صادفا شخصين واقفين، حيث بادراهما هذان الشخصان بالقول: “حوّلوا” (أي تفضلوا – أو قرّبوا)، وين رايحين: (إلى أين ذاهبان)؟ أجابا “آرا وعمر علي الشيخ”: لعبور دجلة، قالا لهما: لماذا لا تعبران الجسر؟ ثم سألوهما: جاتلين (قاتلين)، أو ناهبين (أي سارقين)، فأجاب عمر علي الشيخ: نحن شرفاء، فأجابه الفلاّح: “جا الينهب بنية موشريف؟” أي (الذي يختطف امرأة ليس شريفاً).
سألوا آرا: يبدو عليك أنك غريب، ربما شعروا باللهجة أو اللكنة غير العربية، فأجاب: إنني من خانقين حيث تختلط اللغات واللهجات، لكن الخبر انتشر في القرية مثلما تنتشر النار في الهشيم، ليس هذا فحسب، بل إن عمر علي الشيخ سألهم: من انتخبتم؟ هل أنصار السلام؟ الأمر الذي زاد في تأكيد هويّتهم السياسية.
وبعد حين جاء شاب بيده بندقية وسلّم عليهم وقال لهم: رفاق نحن من مؤيدي أنصار السلام، وهناك اثنان ألقي القبض عليهما (واحد طويل وضخم والثاني قصير ونحيف)، وعرفوا بأن زكي خيري وعزيز الحاج قد تم إلقاء القبض عليهما. واضطرّ آرا وعمر علي الشيخ أن يبيتا ليلتهما في البساتين. ويقول آرا: إنه كان يدخن، ولكنه توقف عن ذلك لكي لا يستدلوا عليه، بناء على محادثة مع عمر علي الشيخ، لكن الشرطة طوّقت القرية وشاهدوا أفرادها يحومون حولهم، خصوصاً بعد تسلّل خيوط نور الفجر الأولى من بين الأشجار، ثم سمعوا رمية إطلاقة في الهواء وصوت يصرخ: هذا آرا الأرمني الجثيث أي (العريض المنكبين). طالبهم آرا بعدم الاعتداء قائلاً: أنا آرا، وهو ما ذكرني بما قاله يوم ألقي القبض عليه في العام 1967 في بغداد وردّدناه حينها باعتزاز: أنا آرا خاجادور (يا ناس كولوا للحزب آرا انلزم)، أي يا ناس قولوا للحزب إنني اعتقلت، وهي وسيلة إخبار لدرء الاحتمالات السلبية التي قد تتبع اعتقاله.
وإذا كان لي أن أضع القارىء أمام هذه اللّقطة المملّحة، فإنها جزء من لقطات عديدة احتواها دفتر لخزّان معلومات لا ينضب اسمه آرا خاجادور وحسبي أن أختم هذه اللقطة بالقول: لا يصنع القائد بقرار ولا يتكوّن بناءً على رغبة أو لإملاء فراغ أو لاختيار حزبي وإنما تنجبه ظروفاً وأوضاعاً بعضها موضوعي وآخر ذاتي، منها كارزميته ومؤهلاته الشخصية والأدوار التي لعبها في حياته والخبرات التي اكتسبها وقدرته على اتخاذ القرار في اللحظة المناسبة، سواء كان صائباً أو خاطئاً، إذْ ليس هناك أقسى من التردّد والانتظار، لا سيّما حين يستوجب الحسم، ومثلما على القائد اتخاذ القرار، فلا بدّ من المرونة في التنفيذ.
وإذا كانت قيادة فهد قد امتلكت كفاءة نظرية وفكرية وأخرى عملية وتنظيمية، وتمكّنت من رسم استراتيجيات وإدارة تكتيكات تبعاً للظروف الملموسة، فإنها في الوقت نفسه كانت وراء تشجيع قيادات شابة لتولي المسؤوليات برز فيها سلام عادل وجمال الحيدري وأبو العيس وآرا خاجادور وآخرين، إذْ ليس هناك أسوء من اختيار قيادات غير مؤهلة.
*أكاديمي ومفكّر عربي
صحيفة الزمان العراقية