يحيا الملل
يخطر في بالي أحيانا أن أحضن كل من يصادفني في الطريق، أقبّله (أو أقبلها) وأقول له: شكرا لأنك لم تتعرض لي بالإساءة.
وفي حالة الضيق، أتمنى أن أصفع حتى نفسي في المرآة، وأوبخها على ما وصلت إليه.. أكره أول من اخترع المرآة، ماكينة الحلاقة ومعجون الأسنان.
أمشي وألبس الناس أسماء وحكايات، أتوقّع لهم نهايات ومصائر قد أندم عليها، ثم أعود إلى البيت مثل قاض صارم، يعد الساعة الثانية ظهرا.
الحياة ورطة، لكنها ممتعة مثل سكرة.. من أول من ابتدع عبارة ” سكرات الموت”؟
الكتابة عبرة لدى المتزوجين.. لا تكتب إلا بعد إنجاب طفلك الثاني، وسوف لن تتسع الكنبة في صالون بيتك لأكثر من شخص واحد.
الملل يصنع أعظم المعجزات ـ بما فيها الكتابة وحتى القراءة ـ فانظر عزيزي القارئ، كم فعلا جميلا ترتبكه كل يوم، بدافع الملل، كأن تقول ” شكرا” أو “عفوا” أو ” نسيت”.
الملل يجعلك تحب وتكره، تغير من ثيابك وإعجابك وآرائك.. ولا تملّ الملل.
كم مرة يستبد بك الملل إلى حالة السأم ثم تمسك بالريموت كونترول أمام شاشة التلفزيون لتستقر عند برنامج ممل وتتابعه بانتباه.. أليس الملل هو من ينسيك الملل؟
الملل يجعل المنتحرين ينتحرون، والمتفائلين يتفاءلون.. إنه أول المحرضين والقائلين بنعمة الأمل.
حين ملّ الإنسان من المشي على قدميه، اخترع الدراجة، وحينما ملّ من ثيابه اخترع السباحة.. وحينما ملّ الوحدة، اخترع الصداقة.
الملل أصل الأشياء، وعلّة كل شيء، فلولا الملل لما كانت الرفاهية، ولما خلقنا الله كائنات محبة للضحك والسخرية والاستهزاء.
ما أصعب أن تعايش نفسك كل يوم، تنصت إليها، بانتباه، وكأنها تقول الحقيقة المطلقة ثم تمضي إلى نفس الوسادة كديك ملّ الفجر المتنفس كل صباح.
أحب أن أملّ، أعشق الألوان حين تبهت، الزهور حين تذبل.. والأشياء حين تنتهي.
لا تقولي كرهنك.. قولي مللتك.. قولي ثمة رائحة أخرى للحب ووجه آخر للحقيقية.
الملل يجعلني أتجدد كل صباح، أقبل على جميع من يمشي على اثنين وأربعة وثلاث، أبتسم للزهور قبل أن تتفتح، وأفتح راحتي للسماء.
الملل صديقي الذي يخلق مني كائنا غير ملول، يملأ العابرين تحيات وابتسامات، يفتح أحضانه لكال جديد.. ويقول لكل مساء ” امض إني غير آسف على محياك”.
لولا الملل لما تجددت اليشرية، ولما كتب البتو مورافيا، روايته “السأم”.. ولما أحببتك أيتها الشمس التي لا تشبه شمس البارحة.. يحيا الملل رفيقا أبديا للذين سوف أفتح أحضاني وأقبلهم صباح الغد.