يوم كانت الجزائر «مكّة الثوار»!
الجميع يعرف مصطلح «الأقدام السُّود»، الذي كان يُطلق على المعمرين الأوروبيين الذي استقروا، على مدى أجيال، في شمال افريقيا، قبل ترحيلهم مع جلاء الاستعمار. لكن قلة نادرة فقط تعرف مصطلح «الأقدام الحُمر»، الذي أُطلق على فئة أخرى من الوافدين الأوروبيين. فئة سلكت منحى معاكساً تماماً. في الوقت الذي كانت فيه سفن الإجلاء المحملة بآلاف النازحين من «الأقدام السود» تحط الرحال في موانئ الجنوب الفرنسي، كانت آلاف أخرى من متطوعي «الأقدام الحُمر» تعبر نحو الضفة الجنوبية للمتوسط. يتعلق الأمر بمتطوعين يساريين (محامون، أطباء، مدرسون، مهندسون، كوادر إدارية…) انخرط أغلبهم في تأييد نضالات شعوب المستعمرات السابقة من أجل التحرر و«تقرير المصير». وكان منطقياً أن يتطلع هؤلاء، فيما بعد، للإسهام في دعم «معارك البناء الوطني» في الدول الفتية التي تحررت من نير الاستعمار.
استقطبت الجزائر القطاع الأوسع من تلك «الأقدام الحُمر». ولم يكن مردّ ذلك فقط الى الصدى العالمي لثورتها، التي شكّلت رأس الحربة في نضالات شعوب العالم الثالث ضد الهيمنة الغربية.
شكلت تجربة «التسيير الذاتي» التي اعتمدتها الحكومة الجزائرية الأولى، في عهد الزعيم أحمد بن بلة (1962-1965)، عامل جذب إضافياً. تجربة رائدة اعتبر تشي غيفارا، غداة زيارته الى الجزائر، عام 1963، أنها تؤسس لـ «اشتراكية ذات نفَس إنساني».
ملحمة متطوعي «الأقدام الحُمر»، الذين هجروا رخاء (وكسل) الحياة الغربية، لينخرطوا في المعركة المضنية (والطوباوية) لبناء الدولة الجزائرية الفتية، تستعيدها الروائية الفرنسية، آن صوفي ستيفانيني (1982) في «سنواتنا الحمراء» (منشورات غاليمار ـ باريس). تتناول الرواية قصة «كاترين»، المدرّسة الشيوعية ذات الاثنين وعشرين ربيعاً، التي تحلم بترك كل شيء خلفها من أجل التفرغ للعمل الإنساني، وتتطلع للعب دور فاعل في الحراك العالمي، الذي بزغ أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، والهادف إلى «بناء عالم أفضل». تجد ضالتها في جزائر بن بلة، التي تحوّلت في أشهر قليلة، خلال صيف 1962، من مجرد مستعمرة فرنسية سابقة الى «مكة الثوار»، التي باتت تستقطب آلاف اليساريين الثوريين من كل الجنسيات.
تستقر كاترين في العاصمة الجزائر، في أيلول (سبتمبر) 1962، كمدرّسة متطوعة. تُغرم، بداية، بـ «هذه المدينة الساحرة التي تعبق أملاً وحرية». ثم تقع في غرام «علي»، أحد الرفاق الذين يقاسمونها أحلامها الثورية، وإن كان أقل طوباوية منها. فهو يستشرف باكراً ملامح الكارثة القادمة، متنبئاً بأن «أخطاء حروبنا ستظل تلاحقنا لتنقلب علينا».
في 19 حزيران (يونيو) 1965، يطيح العقيد بومدين بالرئيس بن بلة، ضمن انقلاب عسكري سمي بـ «التصحيح الثوري». «تصحيح» سرعان ما تحوّل الى حملات تصفية ممنهجة طالت الآلاف من الثوريين الأمميين الذين استقروا في البلاد للإسهام في بنائها، وبات أسياد الجزائر الجديد ينظرون إليهم بريبة، متوجسين أنهم «يشكلون طابوراً خامساً يهدد نقاء الثورة وأصالتها».
تجد كاترين نفسها، على غرار غالبية «الأقدام الحُمر» ورفاقهم المحليين من اليساريين الجزائريين، في واحدة من زنازين العقيد بومدين. قبل إبعادها نهائياً من البلاد، تطل بأسى من نافذة سجنها على المدينة التي طالما عشقتها، وغاب عنها عبق الحرية والأمل فجأة. تقف في مواجهة الواقع المرير، في مراجعة قاسية لتجربتها الطوباوية. وإذا بها تكتشف أن «الحلم الأحمر بدأ يتخذ لوناً داكناً وقذراً»، ليتبخر معه «العمر الأزرق الحالم، عمر يقينياتنا الثورية. فإذا بِنَا نشيخ فجأة، ونفقد كل شيء، لنجد أنفسنا نسير عراة»!
صحيفة الأخبار اللبنانية