![إليكَ أيّها الغارقُ بين أكوامِ المحاضرات... خلال هذه الفترة من العام عادةً ما أكون منهمكة في الدراسة للامتحانات وتقديمها كما هُم](https://greatmiddleeastgate.com/wp-content/uploads/2025/01/يمامة-كوسى-1.png)
خلال هذه الفترة من العام عادةً ما أكون منهمكة في الدراسة للامتحانات وتقديمها كما هُم كلّ طلاب الجامعات، ورغم أنّ لديّ يقينٌ تامّ بأنّ الذين اختاروا طريق العلم – وعلى نحو أكبر طريق الكليّات الطبيّة الذي سرتُ فيه – عليهم أن يبقوا طلّاباً في مقاعد الدراسة يتلقّون كلّ ما هو جديد طيلة حياتهم، إلا أنني اليوم وبعد انتهائي من تلك المرحلة، أجدُ نفسي أشاهد العرض من موقع مختلف بعض الشيء، لكنني لا زلتُ معنيّة به كما كنت، وربما أكثر.
ولأنّنا في الطريق إلى ما نريد علينا أن نعبرَ دروباً كثيرة بمفردنا، كما هو الحال عندما نقدّم امتحاناً ما، يحلو لي أن أُخرِجَ ما في جعبتي من حكايات وذكريات ودروس تعلّمتها خلال طريقي الخاصّة، علّك تجدُ فيها أيّها السائرُ المُتعَبُ من طول الطريق وتعرّجاتها ووحشتها بعضاً من الأُنسِ والارتياح.
أذكر أنّنا كنّا في ضيافة شهر أيلول، شهر السفر والزيارات العائلية الكثيرة والاستمتاع الذي لا حدود له بالنسبة للجميع وبالأخصّ لطلاب المدارس، وكطالبة ستصبح في الصفّ السادس تقضي عطلتها في القرية وستعاود الذهاب إلى المدرسة بعد أيام قليلة؛ فكّرتُ وأنا أنظر إلى درّاجة ابن عمّي ذات الدولابين الكبيرين والشرائط الخضراء اللامعة عند المقابض بأنّ الوقت قد حان لتعلّم القيادة على أصولها دون مساعدة الدولابين الصغيرين الإضافيّين ذوي الصبغة الطفوليّة.
طلبتُ من ابن عمّي أن يساعدني فلم يُمانع، وعندما خفّفت الشمس من حدّةِ لهيبها الخانق، خرجنا إلى طريقٍ قريبة كانت أقلّ طرقات قريتنا الباريسيّة امتلاءً بالحفر على حدّ وصفه، حدّدنا المسار الذي سنتدرّب فيه وبدأ يشرح لي عن أقسام الدراجة، متى أستخدم المكابح، كيف أبدأ بالتوازن وما هي اللحظة الأفضل التي عليّ أن أرفع فيها قدمي الثانية عن الأرض، وكان كل ذلك بسيطاً ومفهوماً جداً ولا سيّما عندما كنتُ أراهُ يطبّق الخطوات بسهولة تجعل العجلات تسير بسرعة ويُسر كبيرَيْن كما لو أنّها تطير!
عندما صعدتُ إليها كان الأمر أكثر تعقيداً مما ظننت، واستغرقتْ كل خطوة بدت لي سهلة ساعات من المحاولة وعشرات المرّات من الوقوع أرضاً، فأنا لم أستطع التوازن سوى لبضع ثوان دون أن يسند لي الدرّاجة بيديه، وأمّا النزلة القاسية التي كان يتباهى بقدرته على نزولها فكانت أقرب إلى المستحيل بالنسبة إليّ ولم أجرؤ على تجربتها على الإطلاق.
وهكذا كانت نتيجتَي اليوم الأوّل هما يأسٌ كبير طافح بالإضافة إلى عدّة سحجات كانت كفيلة بجعلي أفكّر طيلة طريق العودة في ترك فكرة تعلّم القيادة من أساسها.
في صباح اليوم التالي كان هناك شيء ما يدعوني للاستيقاظ مبكّراَ أكثر من جوّ القرية المعتاد الذي يُشعِرُ المرءَ بأنّهُ أخذ قسطاً وافراً من النوم بساعات قليلة فقط، إنّ ذلك الشيء كان الدرّاجة ذات العجلتين والشرائط الخضراء عند المقابض المركونة خارجاً.
خرجتُ سريعاً دون أن أوقظ أحداً وسرتُ بها إلى الطريق حيث كنّا الليلة الفائتة، صعدتُ إليها متناسيةً كلّ الخيبات السابقة ولم أحسب كم مضى من الوقت وأنا أسير وأقع وأجوب المكان ذهاباً وإياباً، إلّا أنّ الأمر الوحيد الذي كنت أحسُبُهُ هو المسافة بين كلّ وقوع والذي يليه، وكلما كانت تتضاءل تلك المسافة أكثر كنتُ أزيحُ تعبي جانباً وأعيد الكرّة من جديد، وهكذا وجدتُ نفسي في نهاية المطاف أقود الدراجة حتّى نهاية المسار الذي حدّدناه دون أن أقع، كانت سعادةٌ غامرة تلاحقني ولا سيّما عندما قرّرتُ أن أجتاز النزلة القاسية وفعلت!
لم تنتهِ القصّة بعد فأنا أريد أن أُثبت لمُعلّمي الذي يصغرني بعامين مدى استفادتي من ملاحظاته وتمريناته، فدعوتُه لمشاهدتي وأنا أقود، بعد أن أخبرتهُ باعتزاز بأنني تدرّبتُ في غيابه، صعدتُ إلى الدراجة بثقة وبدأتُ أسيرُ بها بتوازن تامّ وأنا أزيدُ من سرعتي شيئاً فشيئاً، كان يركضُ بقربي كما لو أننّا نتسابق وكانت ابتسامتهُ الكبيرة تشجعني على المواصلة أكثر، كنتُ مصمّمةً على اجتياز ذلك المنحدَر ليعرف جدارتي بحقّ، وبالفعل قمتُ بذلك بنجاح ولكنني بعد أن التفتُّ إليه لتتشاركَ عيوننا روعة اللحظة المهيبة تلك؛ وجدته يلوّح لي بكلتي يديه ويصيحُ بصوتٍ عالٍ لم أفهمه إلّا عندما فتلتُ رأسي إلى الأمام وامتلأت عيناي بأضواءٍ ساطعة!
لم أجد نفسي إلا وأنا أنعطفُ بعيداً إلى جانب الطريق حيثُ الأشواك والحجارة تملأ المكان، لقد نسيتُ لحظتها لماذا تُستخدم المكابح إلا أنّ الحفرة المؤلمة التي صنعها حجرٌ صغير في راحة يدي تكفّلتْ بتذكيري بذلك بعد أن سقطت.
هل تظنّ يا صديقي المُتعَب المرابط فوق أتلال المحاضرات والكتب بأنّ ذلك كلّه كان كافياً لجعلي أتوقّف عن قيادة الدراجة؟! بالطبع لا، عقّمت يدي وضمّدتها ثمّ عدتُ إلى الاستمتاع بركوبها مجدّداً.
هذه المرّة كانت بحذرٍ شديد ومع الكثير من القواعد والتعليمات التي تكوّنت في رأسي، أوّلها هو أنّ كلّ أمر في هذا العالم قابل للتعلّم، ولتتعلّمَ أمراً ما عليك أن تجرّبه بنفسك، لن تُفيدك كثيراً قراءةُ قواعد تطبيقه أو تجاربُ الآخرين حوله. لن يفيدك كثيراً مُعلّمك البارع والمتفاني والعطوف ما لم تتعلّم بنفسك. عليك أن تسير في طريقك الخاصّة، تبذل محاولاتك الخاصّة وتعاني من آلامك الخاصّة، بذلك وحده تستطيع أن تتعلّم!
ثانيها هو أنّ عليك أن تعمل على إتقان ما تتعلّمه لا أن تتعلّمه وانتهى الأمر، لا تعتقد بأنّ أحداً سيقرأُ مشقّة الطريق في عينيك ويربّت على كتفك إن لم يرى إتقانك لما تعلّمته. تسألني كيف أُتقنُ ما أفعل؟ كُن مُخلصاً وصادقاً في أبسط مهمّة تقع على عاتقك وسترى كيف أنّك ستتقنها بلا شك.
ثالثها هو أنّ عليك أن تتصرّف برويّة أمام العوائق التي تقطع طريقك، كلّ العوائق المحتمَلة بما فيها تلك التي تُشعِرك بضبابيّة اختيارك ووجهتك، كُن قويّاً أمامها واعلم أنه ليس عليك أن تتوقّف عن المضيّ قدماً مهما كان، فكّر بمسافة النجاةِ الضيّقة التي قد تكون موجودة وتابع السير مُحافظاً على اتّزان العجلات، تقولُ لي لا أرى مسافةَ نجاة؟ لا بأس إذاً في بعض الأحيان من استخدام المكابح لأخذ استراحة قصيرة لبعض الوقت ولكن لا تخرج عن الطريق أبداً، وإلّا تألّمت كثيراً صدّقني!
آخرها هو أنّك عندما تُريدُ أمراً ما فكن واثقاً بأنّك ستشعر بقوّةٍ خفيّة تطوّعُ الأحداث بين يديك للحصول عليه، وعلى مستوى الأشخاص سيكون هناك مَن يرحّبُ بمساعدتك، مَن يسندك، مَن يترقّبُ وصولك، مَن يُصفّقُ لك، مَن يُحذّرك، مَن يمدّ لك يدهُ لتنهض، تقول لي لا أجده؟ ابحث جيّداً وستجده، ولو كان شخصاً واحداً في هذه الحياة، إنّهُ موجود صدّقني، فقط جِدهْ واشكره بوصولك.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة