تاريخ

ظهور التلفزيون في سورية (*)

ظهور التلفزيون في سورية (*) ظهر التلفزيون، وتطور أداؤه في العالم، في العقد الرابع من القرن العشرين ، وكان هذا الظهور ثورة مهمة على صعيد إيصال الصورة إلى الناس سيجري العمل على تطويرها يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، ففي عام 1936 كان باستطاعة أجهزة الاستقبال التلفزيونية في مدينة نيويورك (( التقاط الإشارات عن بعد ميل واحد ، وفي عام 1937 بدأ استعمال الهوائي المثبت على مبنى الأمبايرستيت من قبل الجمهور، وقامت شركة آر سي إي وإن بي سي بإيصال التلفزيون إلى عامة الشعب. وأصبح بإمكان عابر الشارع الوقوف ومشاهدة عمل الاختراع الجديد وذلك بترتيب خاص في بعض الشوارع )) (1).

وفي السابع من تموز عام 1938 بُثت مسرحية ( سوزان والله ) من (برود واي) عبر استوديوهات إن بي سي “وفي العام نفسه أعلن دافيد سارنوف رئيس مجلس إدارة شركة آر سي إي أمام مؤتمر لجمعية مصنعي أجهزة الراديو طرح أجهزة التلفزيون للبيع للجمهور عند افتتاح المعرض الدولي عام 1939. وخلال ذلك العام أمكن بث الإشارات التلفزيونية مسافة 160 ميلا من مدينة نيويورك وحتى مدينة سينيسكتادي بولاية نيويورك، وفي السنة اللاحقة وبتاريخ واحد فبراير(شباط) 1940 تمت أمام أعين أعضاء من مؤسسة الاتصالات الفيدرالية عملية بث صور تلفزيونية من مدينة نيويورك إلى مدينة سينيسكتادي، ثم جرت إعادةُ بثّها إلى نقاط أخرى في أعالي ولاية نيويورك، ورغم أن هذه العملية تمت على مستوى تجريبي صغير إلا أنها شكلت ميلاد أول شبكة تلفزيونية في العالم..” (2)

إن الغاية من المقاطع السابقة حول ظهور التلفزيون في أميركا هي التمهيد لمسار شبيه يمكن الرجوع إليه عن ظهور التلفزيون في سورية بعد نحو ربع قرن ، وقد مهدت الصحافة في سورية لذلك بمقال ، من أجمل المقالات التي لها علاقة بالموضوع وأطرفها ، فقبل شهرين من بدء البث التلفزيوني، وتحديدا في 1حزيران 1960 نشرت مجلة فنية سورية مقالا بعنوان: ((مايجب أن تعرفه عن جهاز التلفزيون قبل انتشاره))، وينصح المقال المواطنين بشراء جهاز كبير لأنه الأنسب “ولكن بشرط أن تتوفر لديك المسافة اللازمة لرؤيته بشكل جيد . إن الحجم الكبير يجب أن يكون بعيدا عن عينيك مسافة تتراوح بين 3.5 ــ4 أمتار .. ويجب أن يعمل جهازك على توتر 110 فولط أما إذا كان توتره 220 فيجب الاستعانة بمحول (ترانس)..” (3) وحذر المقال من مخاطر هذا الجهاز ، فمنع منعا باتا قاطعا ” أن تمد يدك إلى الجهاز والتيار متصل به لأي سبب كان لأن التيار يتراوح بين 9 و18 ألف فولط وهذا التيار يستطيع أن يصرع فيلا في ثانية واحدة أو أقل .. ممنوع منعا باتا قاطعا أن تنقر على شاشة الجهاز حتى ولو استبد بك الطرب . لأن الشاشة سريعة العطب وإذا تعرضت لنقر من هذا النوع فإنها تنفجر ..” !! (4)

وبعد شهرين من هذا التحذير الصحفي، الذي يذكرنا بتصورات الخيال العلمي، بدأ ((التلفزيون العربي السوري)) إرساله فعلا مساء يوم السبت 23 تموز عام 1960 من قمة جبل قاسيون في دمشق، وفي كلمة بثت على الهواء قال مديره الأول الدكتور صباح قباني مخاطبا المشاهدين ” إن التلفزيون هذا الصديق الجديد الذي تحتفون به اليوم إنما له ما لأصدقائكم من ميزات كثيرة وهنات صغيرة ، فاغفروا هذه الهنات فنحن في أول الطريق . وسنبذل خير ما عندنا لنصل إلى خير ما ترضون وإلى خير ما يدعم وحدتنا الكبرى” (5) ، ولأن تلفزيون دمشق كما يسميه الدكتور قباني كان تؤام التلفزيون المصري ، فإن مجلة الاذاعة والتلفزيون القاهرية ” خصصت حيزا كبيرا في أحد أعدادها (عدد13 آب / أغسطس 1960) للتحدث عن برامج هذا التلفزيون وجعلت غلاف هذا العدد يحمل بكامله صورة مبنى تلفزيون دمشق على قمة الجبل واختارت لها عنوانا هو كلمة (المعجزة) ..” (6)

أقيمت أول محطة إرسال بقوة / 10 / كيلو واط ، واستمر الإرسال لمدة ساعة ونصف فقط في اليوم الأول من داخل استديو متواضع شُـيِّـدَ بجانب محطة الإرسال تلك ..

كانت المواد التلفزيونية تبث في دمشق في اليوم الأول ثم تبث محافظات حمص وحلب الأشرطة المسجلة في اليوم التالي، وبعد سبعة أعوام أي ” في عام 1967 تم لأول مرة ربط محطات دمشق وحمص وحلب وصلنفة بشبكة وصل ميكروية بحيث أصبح التلفزيون يبث برامجه في آنٍ واحد من استوديوهاته في دمشق إلى جميع المناطق ” (7) . كانت الخطوة في سورية رائدة فعلا، وقد أوكلت مهمة تأسيس التلفزيون العربي السوري للدكتور صباح قباني، “وفوق قمة قاسيون جبل دمشق الخالد ، وعلى ارتفاع ألف ومائتي متر عن سطح البحر أقيمت محطة الإرسال التي كان عليها أن تغطي في المرحلة الأولى مدينة دمشق، ومن غرفة لايتحاوز طول جدارها الأكبر عشرة أمتار قدمت البرامج ونشرات الأخبار والتمثيليات والفقرات التلفزيونية المنوعة على الهواء مباشرة “(8) ، وفي هذا المكان المتواضع لصناعة التلفزيون وقف الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل يراقب الأداء الفني لواحد من طواقم العمل في التلفزيون الوليد ، ويقول صباح قباني : “وأذكر أن أحد زوارنا من الصحفيين المرموقين، وهو الصديق محمد حسنين هيكل تجشم عناء الصعود إلى الاستوديو في الطريق الوعر، ذات ليلة شتائية قارسة البرودة في شهر آذار /مارس 1960 ليشهد معي في غرفة المراقبة إخراج برنامج فني ثقافي أثارت جاذبيته في نفسه الدهشة والإعجاب ” وفي معطى آخر يتعلق بإطلاق البث التلفزيوني السوري، انتقل التلفزيون إلى مبناه الجديد في ساحة الأمويين بعد أقل من سنة على انطلاقة التلفزيون “واستلم استوديوهاته الجديدة .وهذه الاستوديوهات تختلف اختلافا يسر القلب عن ذلك الاستديو القائم في قمة جبل قاسيون والذي عمل فيه التلفزيون أكثر من سنة.

إن أحدا من المتفرجين لم يشعر بأن التلفزيون كان في حالة نقلة منذ شهر , ولكن العاملين فيه شعروا وكانوا يكيفون عملهم حسب الأجهزة التي كانت تنتقل بالتدريج ” .

و ثمة ملاحظة على غاية الأهمية تتعلق بالطرف الآخر من البث، أي المشاهد ، فإذا كان البث قد بدأ فعلا، فهل كان لدى المشاهدين أجهزة لمتابعته؟ والجواب أنه لم تكن تلك الأجهزة متوفرة ” سوى تلك التي وزعتها الدولة في بعض الساحات العامة بدمشق وكان هناك أجهزة أخرى امتلكها بعض أصحاب المحلات التجارية الكهربائية وعدد يسير جدا امتلكه بعض المواطنين في دمشق “.

عمليا كان التلفزيون يحتاج إلى مادة يعرضها للجمهور الذي هو الطرف الآخر في معادلة الاتصال، ومنذ اللحظة الأولى ، كان من الضروري الالتفات إلى الصورة التلفزيونية، لأنها الجديد في ظهور التلفزيون كوسيلة اتصال جماهيري تميزه عن الراديو والإذاعة، فالراديو كان موجودا وكان يمتلك شعبية عارمة في العالم، وكان من الصعب التوقع بأن ثمة شيئا آخر قادر على منافسته، ففي الوقت الذي كانت تجري فيه ولادة التلفزيون التدريجية ومحاولات حل مشكلة اتساع رقعة البث، كان يجري الحديث عن الراديو كأفضل وسيلة ذات مصداقية بين الجمهور لأنه ” يخترق .. جميع سكان العالم تقريبا، بوجود أكثر من 10000 محطة عاملة في الولايات المتحدة وحدها ” ..

في ذلك الوقت لم يكن عصر السينما بعيدا عن تلك القفزات المتتابعة في وسائل الاتصال ، فمنذ عام 1895 عندما أنتج الأخوان لوميير أول فيلم لهما بعنوان (( مغادرة مصنع لومبير)) ، وصولا إلى عصر السينما الناطقة ، ومرورا بالسينما الصامتة ، كان واضحا أن حضورا آسرا للسينما سيشهده العالم، وساعد عليه ظهور روائع الأفلام السينمائية كذهب مع الريح والمواطن كين وانتهاء الحرب العالمية الثانية ، واتجاه العالم إلى تناسي الموت والدمار بحضور الأفلام السينمائية الآسرة ..

ولأن الصورة هي ميزة وسيلة الاتصال الجديدة، التي سميت بالتلفزيون، فإن السينما ستطل برأسها سريعا، وتحاول إيجاد مقعد لها عبر الشاشة الصغيرة، التي بدت وكأنها ابنتها ، فهل ستشهد السينما عصر أفولها الذي هو عصر الانتقال للتلفزيون، أم ستكون الأقوى في المنافسة إلى النهاية؟ وهناك سؤال ذو معنى : “ماذا تعمل صناعة الأفلام لمواجهة شاشة صغرت إلى 21 أنش ووضعت في غرفة المعيشة؟ كيف تستطيع السينما منافسة مسلسل : أنا أحب لوسي، و تكساسو مسرح النجوم ، الذي يلعب دور البطولة فيه إدسو ليفان وملتون بيرل ؟ .. ”

شق التلفزيون طريقه، وسريعا كان اقتناؤه يزداد إلى أن صار يرتبط بتأثيث البيت أو المنزل أو حتى المكتب، وبيعت ملايين الأجهزة في العالم ، وتنافست الشركات على تطويرها ، ثم دخلت الوكالات الإخبارية على الخط وصار التلفزيون مصدر الخبر الأول والمباشر! ..

وفيما كان التلفزيون يغزو العالم، كانت وجهات النظر المناوئة له لاتزال تراوح في مكانها *مخدوعة بمجد السينما والمسرح، “إلا أن هناك حقيقة لاشك فيها ، وهي أن هذه الوسيلة الإعلامية أصبحت إحدى أقوى وسائل الاتصال في تاريخ الحضارة الإنسانية “.

أمام هذه الحقيقة، ظهر التلفزيون، وفي سورية وصفته الصحافة العربية بالمعجزة، كما ورد قبل قليل، وبهمة لافتة رسم العاملون خطة عملهم ، ولم يترددوا في إعداد البرامج وتصويرها، وعلى الرغم من كل المصاعب التي اعترضتهم ” شقت الدراما التلفزيونية السورية طريقها وتضافرت الجهود فأخرج خلدون المالح الإجازة السعيدة ، وأخرج نزار شرابي رابعة العدوية.. ” ورابعة العدوية هي مسرحية كان أعدها نزار شرابي للإذاعة !

1. مقدمة في الاتصال الجماهيري ــ جون آربايتنر ــ مركز الكتب الأردني ــ ص 176
2. مقدمة في الاتصال الجماهيري ــ جون آربايتنر ــ مركز الكتب الأردني ــ ص 179
3. مجلة هنا دمشق ــ مايجب أن تعرفه عن جهاز التلفزيون قبل انتشاره ــ العدد 168 تاريخ 1حزيران / يونية 1960
4. مجلة هنا دمشق ــ المصدر السابق ..
5. د صباح قباني ــ كلام عبر الأيام (كتابات في الفن والتراث والسياسة) دار طلاس دمشق ط1 ــ2010ــ ص29
6. صباح قباني ــ من أوراق العمر ــ ص167
7. راجع موقع الهيئة العامة للإذاعة و التلفزيون :SRTV@rtv.gov.sy
8. المهندس معن حيدر المدير العام للإذاعة والتلفزيون ــ 50 ونستمر ــ كتاب وثائقي مصور صدر بمناسبة العيد الذهبي للتلفزيون العربي السوري ــ إعداد سعد القاسم .
9.صباح قباني ــ من أوراق العمر ( مسيرة حياة في الاعلام والفن والدبلوماسية ) دار الفكر ط1 ص 2007 ــ ص 167..
10. مجلة هنا دمشق العدد 197 تاريخ 16 /اب /1961
11. رياض ديار بكرلي ــ الأبيض والأسود في عمر التلفزيون العربي السوري ــ هنا دمشق /مجلة الإذاعة والتلفزيون ــ 15 تشرين الثاني 1977
12.حون بايتنر ــ مقدمة في الاتصال الحماهيري ــ ص 174
13.جون بايتنر ــ مقدمة في وسائل الاتصال الجماهيري ــ ص 278
14.مقدمة في الاتصال الجماهيري ــ جون آربايتنر ــ مركز الكتب الأردني ــ ص 176
15.عماد نداف ، محمد نداف الدراما التلفزيونية التجربة السورية نموذحا ــ دار الطليعة الجديدة ــ ص22

(*) هذه المعلومات مأخوذة من كتاب قيد الطباعة تصدره وزارة الثقافة في سورية للكاتب عماد نداف ، والكتاب بعنوان : التلفزيون والكتابة الدرامية ــ الجزء الأول ــ “التكثيف التاريخي”

خاص بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى