«الرئيس الضرورة» اختيار شعبي يبحث عن «عسكري … يلمّ البلد» … و«يخلينا نأكل عيش» (أمينة خيري)

 

أمينة خيري

كان يُفتَرض أن يكون السؤال الأسهل والمحتوى الأيسر، وكان يُتَوقع أن يُسهب الجميع في الإجابات، ويصنّف في النوعيات، ويركّز على الطموحات. كما كان يُرتَقب أن يغالي الكل في المواصفات وتبالغ الأغلبية في الاشتراطات وتمعن الأقلية في الحسابات، لكن جاء المزاج العام متسامحاً إلى أقصى الحدود، ومال الرأي العام إلى العمومية في أعتى الأمور، وجاءت الاختيارات موحّدة متطابقة مستنسخة لدرجة تنافس الخيال العلمي في التنظيم والخيال الروائي في التحليق والخيال الشعبي في التخليق.
تخليق المتطلبات وتصنيع المواصفات وتوظيف الأفكار الجارية رحاها على قدم وساق في كل ركن من أركان مصر، خرج بـ «كراسة شروط» وقائمة مواصفات عجيبة فريدة غريبة لرئيس مصر القادم، هذا الرئيس المعروف المجهول، المتكهّن المتغيّب، المجزم المقلقل، الحنون الصارم، المحبوب المكروه، المختار المفروض.
وفرض الواقع المصري بحلوه ومره، بزعابيبه وحمامات سلامه، بمواطنيه الراغبين في استقرار استعصى على التحقيق ومواطنيه الباحثين عن شرعية فقدت شرعيتها وشريعة ضيعت بوصلتها للخروج بـ «كراسة شروط عامة ومواصفات فنية» أقل ما يقال عنها إنها غير اعتيادية.
«أي حاجة غير ده» ذُكِرت غير مرة بطرق مختلفة، مرة مصحوبة بإشارة إلى «إللي ما يتسمى»، ومرة مذيّلة بتساؤل مأثور له، حيث «القرد لما يموت القرداتي يشتغل إيه؟»، وثالثة معنونة بـ «رئيس الإخوان»، وأخرى مدمجة بـ «الراجل بتاع سبعة ثلاثة خمسة أربعة»، ومرات باسم العائلة «مرسي العياط». «أي حاجة غير العياط» لم تعد في الفولكلور الشعبي مجرد إبعاد لشخص رئيس مصر المعزول الدكتور محمد مرسي بل تحولت رفضاً جارفاً وإقصاء عارماً وكرهاً صارخاً لكل ما يتعلق بجماعات التأسلم الممسكة بتلابيب مصر.
تلبيب السياسة الذي أفقد الجماعة عقلها وعمى العشيرة عن بصيرتها، لقّن المصريين درساً عاتياً من دروس الحكم غير الرشيد وديموقراطية الصندوق غير المقدس حتى تبدلت وتحورت مواصفات الرئيس القادم لدى المجموعات نفسها التي كانت تردد عبارة واحدة لا ثاني لها وشرطاً يتيماً لا أتباع له في الانتخابات السابقة، ألا وهو «نريد رئيساً يراعي ربنا فينا». وبزغت عبارة جديدة وتولدت شروط فريدة، فرئيس مصر القادم يجب أن يكون «مصرياً ابن مصري خالياً من الجماعة منزوع العشيرة لا يعرف من الطيور إلا الواقعي فلا طائر نهضة افتراضياً بجناحين ومؤخرة ولا مشروع يحمل الخير لمصر بعد تفتيتها، ولا يتحدث من العربية إلا المفهوم منها شعبياً، فلم يعد هناك مجالٌ للَجْلَجَ أو حيزٌ لأَبْلَجَ».
وأبلجت شمس مواصفات رئيس مصر القادم عبر مجالس شعبية ومحافل حوارية تجري على قدم وساق في المقاهي البلدية والباصات المصرية والزنقات المرورية وليس فقط في البرامج الحوارية. حوارات المصريين هذه الأيام تتمحور حول طموحات وترتكز على تخوفات وتبنى على مقارنات ومتضادات. وحيث إنه بضدها تُعرف الأشياء، فقد عمد المصريون إلى وضع رؤساء مصر السابقين من مرحومين (نجيب وناصر والسادات) ومخلوع (مبارك) في كفة ومعزول (مرسي) في كفة أخرى، إذ بات تقييم «كل هؤلاء في كفة وهذا في كفة مغايرة تماماً» شائعاً وذائعاً.
ذيوع المقارنات أزال عن البعض حرج التنويه بأن «مبارك في عزّ فساده لم يفعل ما فعله مرسي، وفي قمة جبروته لم يأثم كما أثم مرسي»، ورفع عن البعض الآخر حساسية الاعتراف بأن المصريين باتوا مجبرين على المقارنة بين السيء والأسوأ، أو الباطل اللجلج والباطل اللجلج جداً، والرئيس الذي حاد عن الحق في سنوات حكمه الأخيرة والرئيس الذي حاد عن الحق في أيام حكمه الأولى.
المقارنات الشعبية الدائرة رحاها بين الملايين من سكان قلب الهرم الطبقي وقاعدته العريضة جداً لم تعد تخجل من المجاهرة بصب لعنة هنا على ثورة رفعت سقف أحلامهم إلى سماء المثالية الثورية ثم هبدتها على أرض الواقعية المصرية، أو تتهكم هناك على «بتوع حقوق الإنسان» الذين يطالبون الرابضين على خط الفقر وأسفله بالمطالبة بالحق في التظاهر والإصرار على حرية التعبير التي ليس من دونها حرية، والتأكيد على الكرامة الإنسانية التي لا تتحقق إلا بدسترة حرية الاعتقاد واحترام الخصوصية، أو تسخط هنا وهناك على نخب ونشطاء ينعتون عموم المصريين الكالّين المنهكين المالّين المطالبين برئيس «عسكري» أو ذي خلفية عسكرية «يلمّ البلد» و «يعيد الفئران إلى جحورها» وربما يجتثها و «يخلينا نأكل عيش»، بالمنبطحين قصيري النفس أو المذلولين محبي الاستبداد أو المهياصين عاشقي الخلاص السريع.
رغبة المصريين الكامنة في الخلاص بعدما تفجرت بالوعات الإسلام السياسي قاذفة بعقائد مشوّهة ونيات مبيتة، وتبينت المسافات الشاسعة بين جهود حقوقية بعضها صادق وبعضها خبيث من جهة، وبين واقع مصري بات ينظر تحت وطأة صعوبة الموقف إلى الحريات الإنسانية باعتبارها رفاهية لا يقوى على الحلم بها في زمن الإرهاب ومواجهة الجماعات المسلحة من جهة أخرى، وفي ظل أزمة الاقتصاد ومجابهة الإفلاسات من جهة ثالثة، وتبلورت الهوّات العميقة بين أحاديث نخبوية بعضها افتراضي على أثير العنكبوت وبعضها تلفزيوني على أثير القمر الصناعي، تؤدلج الثورات لتتحول صراعات فكرية أو تُمنهج المواجهات لتصبح جدليات أنثروبولوجية أو تصنّف الترشيحات الرئاسية لترتقي بها إلى «الرئيس الفكرة» بديلاً من حيّز «الرئيس الضرورة»!
إلا أن «الرئيس الضرورة» هو ما يتفق عليه المصريون هذه الآونة. حلم البعض بتسلسل رئاسي يحمل هذا الرئيس مرة وذاك مرة بناء على برامج انتخابية وحصيلة إنجازات واقعية، وتصور آخرون أن الرئيس المدني القادم من خارج المؤسسة العسكرية بات واقعاً في عصر ما بعد الثورة، واعتقد فريق ثالث أن رفاهية الاختيار ودلال التفحيص والتمحيص ورغد التجربة الرئاسية والتقييم الشعبي باتت تحصيلاً حاصلاً.
لكن ما حصل هو إن الأحلام والتصورات والمعتقدات ارتطمت على واقع إرهاب متشددين لهم تحالفات خارجية ووضعت مصر والمصريين في خندق واحد في مواجهتهم كأولوية قصوى ومسألة حياة أو موت، مع وضع الأحلام الحقوقية والتصورات المدنية والمعتقدات الحداثية على خاصية انتظار «الرئيس الفكرة».

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى