أردوغان والإنتخابات: سباق بين الرئيس والسلطان!

لم يعدْ رجب طيب أردوغان يكتفي بلغة الأرقام والنسب لإقناع الأتراك بالتصويت له ولحزبه في انتخابات يوم الأحد المقبل، ولم تعدْ الانجازاتُ الاقتصادية وحدها كافية لاقناع الناخبين، كل الناخبين، بالتجديد لحكم حزب العدالة والتنمية في البرلمان، ذلك أن أردوغان وحزبه يتحريان نصراً كاسحاً، يتيحُ حكم البلاد دون شراكة، كما يبيحُ تعديلاً دستورياً يحوّل النظام السياسي التركي إلى رئاسي يمنح أردوغان ما يصبو إليه من صلاحيات لقيادة تركيا إلى حيث يريد.

يتجاوزُ خطابُ أردوغان المزاج اليومي للأتراك، وينشدُ دغدغة مشاعرهم القومية، نافخاً بهم روح العظمة التي ما برحت العثمانية توفّرها زاداً للنوستالجيين، كما سماداً لحصد مزيد من الأصوات المترددة.

في تسويق العظمة أدواتٌ ضخمة في الشكل. ترأسَ أردوغان منذ اسبوع مهرجاناً كبيراً للاحتفال بذكرى سقوط القسطنطينية (1453) على يد السلطان محمد الفاتح. في المناسبة إحياءٌ لسقوط الأمبراطورية الرومانية (على ما يرى المؤرخون)، واحتفال بقيام الامبراطورية (السلطنة) العثمانية التي حكمت شرقاً وغرباً، ويستدعي أردوغان ذكراها في عزّ حملة حزبه الانتخابية. وفي عظمة المناسبة وضخامة الحفل ينفتحُ أكبر ملصق انتخابي في العالم (على ما شهدت به موسوعة غينيس) يحمل رموزاً كثيرة، أهمها الثنائي الحاكم للبلاد: رجب طيب أردوغان، رئيس الجمهورية وأحمد داوود أوغلو، رئيس الحكومة. أنه موسمُ المقامرة بما هو كبير وعظيم من أجل الفوز بما سيكون كبيراً وعظيماً للحاكمين.

باعَ أردوغان وصحبه الأمن والاستقرار والنمو مادةَ نجاح لا تكذّبها الأرقام. انتقلت تركيا خلال الثلاثة عشر عاماً من حكم حزب العدالة والتنمية إلى مستويات متقدمة في عالم الاقتصاد. صارت تركيا رقماً أساسياً من بين الدول العشرين الأولى في العالم، فيما أضحى رجال الأعمال سفراء تركيا الحقيقيين المرافقين لأردوغان في جولاته الدولية. باتت المؤشراتُ المالية التركية دليلَ صحة توجهات الحكام الجدد. تأسست الخيارات الإقتصادية على أخرى سياسية ارتأت وفق مبدأ أحمد داوود اوغلو اعتماد “صفر مشاكل” مع الجيران. فكان أن ولى زمنُ الهدوء الذي أباحَ الازدهار وترجل زمن الصخب الكبير.

في زمن “الربيع العربي” ارتبك أداء اردوغان وحزبه. باتت أولويات الرجل جليّة في دعم الإسلام السياسي في العالم العربي اتساقاً مع خلفية حزب العدالة والتنمية الإسلامية المتناسلة من تجارب نجم الدين أربكان في هذا المضمار. قدّم الحزب أداءً في إدارة الحكم في تركياً أراده اردوغان نموذجاً بالإمكان تسويقه بنسخة عربية إذا ما توفّرت ظروف ذلك. سوّق الرجل ذلك لدى الحلفاء الغربيين، وراح في القاهرة وتونس، بعد اندلاع “الربيع”، يبشّر بالنموذج التركي مرجعاً.

أصيبت خيارات اردوغان بالنكسة الكبرى منذ إزاحة الاخوان عن الحكم في مصر، ومنذ أن حملت صناديق الاقتراع في تونس فيما بعد ما يفرجُ عن مزاج شعبي عربي جديد. ومع ذلك بقيت خيارات أردوغان ملتصقة بالتيارات الاسلامية معوّلاً عليها رافعةً وحيدة لسياسات أنقرة في العالم العربي.

تعمّد أردوغان الحفاظ على سقف عالٍ في خلافه مع القاهرة برئاسة عبدالفتاح السيسي على الرغم من تقاربه اللافت مع السعودية بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز. يوحي الأمرُ أن ذلك الخلاف بات ضرورة انتخابية، بغضّ النظر عن مصالح تركيا العليا، وأن زوال الحاجة الانتخابية الملحّة، هذه الأيام، قد يخفّض ذلك السقف إذا ما استدعت مصالح مستجدة ذلك.

في خطاب العثمانية التي يلوّح بها أردوغان يصطدمُ الرجل حكماً بصفوية قد تلوّح بها طهران. وإذا ما كان الصدام الصفوي العثماني تاريخي عتيق، فإن تناقضَ مصالح تركيا وإيران، في سياق التنافس على النفوذ في المنطقة، يعيدُ للخصومة الغابرة وجوهها. لكن أنقرة وطهران، للمفارقة، تقاربان التناقض بنفاق متبادل خبيث لا يعترف بخلاف، أو يقلل من وطأته، فتستمر أشكال الصدام متوازية مع تبادل تجاري نشط وعلاقات دبلوماسية متينة وحملات اعلامية ودّية لا يشوبها اختلالات كبرى.

في خبث تلك العلاقة أن العبث الميداني الذي يزدهرُ مع مسميات داعش والنصرة والحشد الشعبي وألوبة أبو فضل العباس وحزب الله.. إلخ، هي فعلياً وليدة صراع متعدد الأطراف أهمه ذلك التركي الإيراني. أخذ ذلك الصدام شكله العلني من خلال وصلات ردح انفجرت بين اردوغان ونوري المالكي، قبل سنوات، تبادل فيها المسؤولان تهم المذهبية. كما أن خطب أردوغان المتّصلة بالشأن السوري لطالما اتخذت اشكال الدفاع عن السنّة بما يضعه في الخندق المقابل لإيران الراعية الحصرية للخيارات الشيعية. ومع ذلك فإن الحملات الإيرانية تنصبُّ ضد السعودية دون تركيا، على نحو يطرح أسئلة كثيرة حول حكمة طهران وأنقرة من كتم صدامهما.

لا يمكن لأردوغان أن يبيعَ الأتراك نعمةَ الأمن والاستقرار والازدهار. أمر ذلك لم يعدْ براقاً داخل تركيا، فالحرب في العراق وسوريا تتداعى على الداخل التركي بشكل مباشر في تدفق اللاجئين، وما يحمله تواجدهم من ضغوط اقتصادية وأمنية واجتماعية وسياسية، كما أن المؤشرات الاقتصادية سجّلت تراجعاً ينسجمُ موضوعياً مع البيئة المقلقة المحيطة بتركيا، كما مع وقائع الداخل منذ صدامات ساحة تقسيم في اسطنبول، مروراً بالصدام مع تيار الشيخ فتح الله غولن داخل مؤسسات الدولة والقضاء، انتهاء بفضائح الفساد المزعومة التي طالت حزب أردوغان ومقربين منه شخصياً.

يتراجعُ حزب العدالة والتنمية عما حققه سابقاً من نسب وصلت إلى نحو الخمسين بالمئة (2011). قد يحقق يوم الأحد ما حققه في الانتخابات المحلية قبل أشهر (مارس)، أي نسبة 45 بالمئة من الاصوات، لكن الاستطلاعات لم تعد مؤشراً ذا مصداقية دقيقة منذ المفاجآت التي حملتها الانتخابات التي جرت مؤخراً في إسرائيل وبريطانيا، والتي أهدت نتنياهو وكاميرون وحزبهما نصراً كبيراً على عكس ما توقعت الاستطلاعات. ربما على تلك المفاجآت السارة يعوّل اردوغان لتتجدد “البيعة” بنسب كبرى تتناسب مع طموحات أردوغان الأمبراطورية.

لا يرى أردوغن أن النظام الرئاسي التذي يدعو له يؤسس لديكتاتورية متسائلاً “هل هناك ديكتاتورية في الولايات المتحدة أو المكسيك أو البرازيل؟” يحتاجُ حزب العدالة والتنمية الى الفوز بثلثي المقاعد في البرلمان (أكثر من 367 مقعداً) لتمرير التعديل الدستوري الذي يتيح لاردوغان أن يكون رئيساً فوق العادة للجمهورية. وإذا ما فاز بأقل من ذلك، فأنه سيشكّل الحكومة ويسعى لسوّق البلاد إلى خيارات مناسبة (رئاسية أو برلمانية وفق رؤية داوود أوغلو). أما توقّع نتائج متراجعة تدفعه لتشكيل حكومة إئتلافية فأمر غير وارد في مزاج الحزب، على الرغم من غياب أردوغان (الرئيس) وقيادات الحزب التاريخيين (عملاً بقاعدة عدم الترشح ثلاث مرات) عن خوض غمار الانتخابات، وعلى رغم من تكتل قوى المعارضة وقوة التنسيق في ما بينها.

في حسابات أردوغان القديمة تصفية حساب مع تحديات الداخل.

تمكّن الرجل وحزبه منذ الارتقاء إلى الحكم (2002) من قضم العراقيل ابتداء من الأحزاب العلمانية المنافسة، مروراً بالمؤسسة العسكرية، انتهاء بـ “لوبي” جماعة غولن. وفي حسابات أردوغان الجديدة مواجهة مع ثوابت دولية وإقليمية يذوق مرارة مقاربتها وتحديها. يروم الرئيس التركي الخروج من النزال الانتخابي بقامة عملاقة يطلُّ بها على الحلفاء والأصدقاء قبل الخصوم. يتدثرُ أردوغان بشعبوية مارسها في مناكفة شمعون بيريز في دافوس، وتحدي سفينة مرمرة في ابحارها صوب غزة، وفي الدفاع عن حقوق السنّة في العراق وسوريا، وفي الدعم العلني لجماعة الإخوان المسلمين، لعلها ترفع من زاده الانتخابي المقبل.

سيستقيلُ أحمد داوود أوغلو من رئاسة حزب العدالة والتنمية إذا ما خسرَ الحزب موقعه الأول. هكذا وعد الرجل. لكن الرئيس رجب طيب أردوغان سيقودُ تركيا، أيا تكن نتائج الانتخابات، داخل أنواء إقليمية قادمة ستحددُ تاريخياً شكل المنطقة المقبل. أمرُ تركيا قد يستلزم ظهور “أردوغان جديد”، في مواقفه وتحالفاته وخياراته، على نحو قد يبتعدُ عن ذلك الذي نعرفه وعهدناه. قد يترجل الرجل عن عثمانية طموحة ليلج دروب البراغماتية التي تفضرها معادلة الممكن والمستحيل.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى