الأشقياء الثلاثة: سوريا، لبنان والعراق II(نصري الصايغ)


نصري الصايغ

إذا انتهت الحرب السورية بلا غالب ولا مغلوب، أو إذا ذهبت الأطراف المتنازعة، أو من تبقى منها، أو من ورثها من صلبها، إلى مفاوضات جدية للبحث في إعادة بناء الدولة السورية، واختبار النظام السياسي البديل، وإقامة السلطة وحدود صلاحياتها وواجباتها، وأجْلَت العسكر عن السلطة وحرصت على الأمن ألا يمس حقوق الإنسان وحقوق المواطن… إذا حصل ذلك، فكيف ستكون سوريا في الواقع مستقبلا؟
لن تشبه سوريا الغد، سوريا اليوم أو الأمس القريب والبعيد. سيعاد تشكيل سوريا، وفق صيغة توافقية، وديموقراطية محاصصة، وتمثيل نيابي تتولى صناديق الاقتراع تظهيره، طائفياً ومذهبياً وأقوامياً، تماماً كما حصل في لبنان، وكما يحصل في العراق. فالحرب الأهلية التي لا ينتصر فيها أحد على أحد، ستورث سوريا نظاماً تتقاسمه قوى الأمر الواقع، وسيكون لكل دولة إقليمية، حصة في النظام والسياسة، برعاية ثنائية، روسية وأميركية.
التجربة اللبنانية كررت إنتاج هذا النموذج، والتجربة العراقية تؤكده. هنا الحلقة الثانية والأخيرة من المقالة.

I ـ لبنان الثاني

ولد لبنان الثاني بعد اتفاق الطائف. الحرب اللبنانية أنهيت، بعدما بلغت الخامسة عشرة. كانت قد قضت على الصيغ السياسية كلها، أسقطت المؤسسات، هزمت الدولة، بددت الجيش، أفلتت العصبيات القبلية، انتزعت السلطة من أصحابها الدستوريين، وأخذت إلى أمراء الطوائف في الشوارع والمناطق والمعارك، ونشأت في كنف الركام الذي طال بنية الدولة، قوى سياسية تستمد قوتها من عصبيتها وبندقيتها معاً.
الحلول التي سعى لها اللبنانيون بمعية القوى الإقليمية والدولية، لم تفلح في لجم الحرب وابتداع حل. تكفلت المعارك بملء الفراغ السياسي. أسقطت الميليشيات كل حل لا يناسبها. دخلت في مرحلة حروب الأخوة الأعداء، داخل المذهب الواحد، والطائفة الواحدة. ولكل ميليشيا حاضن إقليمي ودولي، يزوده بالسلاح والمال، ويغطيه سياسياً. وبعض الحواضن الإقليميين، حَضَنَ الأضداد معاً. فكان إلى جانب المسيحيين فيما هو يدعم القوى الإسلامية.
ولد لبنان الثاني بعد إفلاس الميليشيات، وفراغ جعبها من القضايا. الحروب الداخلية تقتل بداياتها، وتغتال قضاياها، وتصل في نهاية المطاف إلى المطالبة بتحقيق الحد الأدنى. فالحروب الداخلية يخسرها من ينهزم فيها، ويخسرها كذلك من يربحها.
الحل الذي ابتدع في الطائف قام على توزيع السلطة على الطوائف، عبر انتزاعها من رئاسة الجمهورية اللبنانية (المارونية عرفاً) وإيلائها مجلس الوزراء، الذي يضم ممثلين عن الطوائف والمذاهب كلها، وفق أحجامها. ولم ينشأ في لبنان الثاني مركز تقوم فيه سلطة عليا جامعة، وهي في مقام السلطة الوطنية ذات الإمرة، حفاظاً على الوحدة.
اقتسام السلطة أسهل من تقسيم الأرض. ودخل لبنان هذه المغامرة، ومارس القسمة، ولم يبق من سلطة الدولة، إلا ما تسمح به سلطات قيادات الطوائف، التي يمكن ان تنتقل بحصتها في السلطة من المؤسسات إلى الشارع. ولبنان راهناً، سلطته في أزقته، لا في أروقته، حيث المؤسسات مقفلة وفارغة ومؤجلة.

II ـ عراق "بريمر"

غزو العراق أطاح بصدام حسين. دمّر الدولة العراقية. بدّد القوة العسكرية وسرح الجيش، فاستيقظت شياطين الأقوام والطوائف والمذاهب. قبل الغزو، ثار الأكراد مراراً، وانتزعوا "حكماً ذاتياً" ضمن دولة "العراق الموحد" بقيادة بونابرتية، تحكم سيطرتها على العراق، وتحاول ان تهيمن على إمارات وسلطنات الخليج. غزو الكويت، ثم تحريرها، أتاح للشيعة إعلان ثورة سُحقت على مرأى من "محرري" الكويت من احتلال صدام وضمها إلى "أرض العراق الأم".
فأي نظام ينشأ بعد كل هذا؟ أي دولة يمكن إعادة تركيبها، وأي سلطة يمكن إيلاؤها أمور الحكم فيها؟ وما حصة قوى الخارج وما مقدار تناسبها مع القوى الجديدة، القادمة من أحضان دولة إقليمية كبرى ودول خليجية وسطى، ودولة عظمى بقوة الولايات المتحدة الأميركية؟
لم يخلف الاستبداد بعد سقوطه من يرثه، ولم تتأهل غير فصائل عصبوية مذهبية ودينية و"أحزاب" عاشت في كنف دول راعية وحامية لها. من طبيعة الاستبداد، تجريف الأحزاب، ومن طبيعة الاستبداد أن يحيل الشعب إلى "قاع صفصف" مجدب لا تنبت فيه نبتة في الضوء. غير ان الدين، وهو القوة الأقوى في مجتمع معطوب سياسياً ومعدوم مدنياً، سيكون الحاضن الآمن نسبيّا للناس. فلا حماية إلا لمن تديّن واستتر.
من هذا السديم السياسي وفوق "أرض محروقة" بالاستبداد والغزو، قبض بريمر على العراق، حاكماً مطلقاً. وأعطي حق تشكيل "العراق الجديد"… المادة الأولى بين يديه، هي الجماعات التي عادت من هجرتها القسرية إلى إيران والسعودية ودول الخليج والولايات المتحدة الأميركية مروراً ببريطانيا. عادت هذه الجماعات، إما على ظهر الدبابة أو بشكل طوابير قتالية قادمة من إيران.
هذه المادة الجديدة، سترث صدام و"بعثه" وجيشه، فاستخرج منها بريمر مداميكه لإعادة ترتيب العراق، كقوة مخلعة، لا قدرة لها على حماية نفسها من نفسها.
الشيعة أولاً، السنة ثانياً، الأكراد دائماً، إلى جانب هيئات وأحزاب (قديمة وجديدة) أعطيت فرصة الإقامة داخل الفسيفساء المشتت، غير القادر على تشكيل "لوحة" سياسية متماسكة داخل "إطار" الدولة الواحدة.
اقتسم هؤلاء السلطة، اقتسموا المناطق، تقاسموا النفوذ، تصارعوا على كل شيء، وكل ذلك يجري، باحترام الآلية الديموقراطية، حاضنة التفتيت والساهرة على تظهيره، كشكل من أشكال التعبير عن "التعدد"، بحريه لا ترتكز إلى أصول مدنية وإلى قواعد تبقي للدولة وحدتها وهويتها.
كان من نصيب العراق، بعد الحرب، الاعتراف بالتقسيم الفيدرالي في الشمال، والنزاع على قسمة ما تبقى من الأرض، في الأقاليم والمحافظات، كل ذلك سار جنباً إلى جنب، مع موجات العنف المذهبي وعمليات التفجير الانتحارية، التي حصدت آلاف القتلى وعدّلت من طبيعة الديموغرافيا، وحكمت على العراق ان يعيش دائماً، وسط الرعب.
فشلت الديموقراطية المنقولة على ظهور الدبابات، نجحت أميركا في بناء هيكل من الركام السياسي/ الإثني/ المذهبي/ على الركام الاجتماعي. وحدة العراق، بقيادة مركزية بونابرتية، تفتتت عندما أعلن المجتمع عن نفسه. كأن الاستبداد يوحد بالقوة والديموقراطية تبدد بالحرية. والديموقراطية في مجتمع متعدد طائفياً وإثنياً ومذهبياً، لن تكون إلا شكلاً غير قادر على ضبط النزاعات وتأطيرها وإيجاد الحلول لها. الديموقراطية في مجتمع منقسم عمودياً أداة لإدارة الفوضى ومواكبة العجز.
لا شفاء للعراق، بترياق الديموقراطية المعبدة بالمحاصصة والمشرعنة بالانتماءات المذهبية والإثنية. ولا خلاص، ببقاء الخارج حاضناً لهذه الانتماءات وداعماً لها ومؤيداً لمطالبها ومانعاً عنها الإبعاد والإقصاء.
حروب لبنان الصغيرة والمديدة، لم ينتصر فيها أحد على أحد. الحل جاء على قاعدة خسارة الجميع، والتعويض عليهم بنصيب في السلطة. حروب العراق الكبيرة والمدمرة، هزمت فيها الدكتاتورية وانتصرت فيها مكونات اجتماعية ضد الدولة بوحدة ترابها وشعبها، فعبرت عن نفسها بكيانات مذهبية وإثنية، داخل ديموقراطية مخلعة.
لبنان، بعد ربع قرن من "الحل العجائبي" لم يشف من الاقتسام والعنف المصاحب له والضياع المستمر في التوجه خارجياً، والعراق، بعد عقد من "حل بريمر" لم يصل إلى استعادة وحدته، والتصرف بحريته بأسلوب يتيح للديموقراطية أن تبرهن عن جدواها.
لبنان مريض مزمن والعراق عليل… فما حال سوريا غداً؟

III ـ سوريا أخيراً

انتصار حاسم لطرف سوري غير متوقع واستمرار الحال على هذا المنوال مستحيل. وحده الوقوف في وسط الطريق محتمل. وفي الوسط، تلتقي الأطراف السورية، أو من تبقى منها، فيتمثل أمام القوى الدولية، لصياغة الشكل الذي سيعطى لسوريا في المستقبل.
من المرجح، ان سوريا المستقبل لن تشبه سوريا في ماضيها القريب وفي نظامها العسكري الحاكم. فالنظام، بما يتبقى لديه من قوة عسكرية وسلطة على أجزاء من سوريا، سيكون حاضراً إلى جانب إيران وروسيا. "الإخوان المسلمون" سيحضرون عبر ائتلاف أو تنظيم معارض، إلى جانب قطر وتركيا، وسيحضر "السلفيون"، بتعدد تنظيماتهم السياسية والمدنية والعسكرية، إلى جانب المملكة العربية السعودية، وسيستثنى بالطبع، التكفيريون والأصوليون وجماعة "القاعدة"، هذا إن لم تتم تصفيتهم بقوة مشتركة من النظام والمعارضة معاً. وسيحضر "الجيش السوري الحر" متقدماً على شركائه في المعارضة، محتضَناً من أكثرية الدول الداعمة، كأميركا والسعودية وقطر وفرنسا وتركيا. أما معارضة الداخل فستكون مقاعدها ملاصقة لمقاعد ممثلي النظام. حصة الأكراد في هذا المؤتمر ستكون موضع نزاع حاد، قبيل انعقاد الجلسات وإبانها.
من المفترض ان يتناول الحوار عناوين أساسية للدولة السورية الجديدة: 1) هوية الدولة (مدنية، علمانية، إسلامية أو صيغة تجمع المتناقضات لإرضاء المتناقضين. والمرجح الاتفاق على صيغة تلفيقية، يُضحى فيها بالعروبة بنسبة كبيرة وبالإسلامية بنسبة أكبر). 2) شكل النظام (ديموقراطي، تمثيلي، برلماني، رئاسي، توزيع الصلاحيات وإخراجها من الأسر الرئاسي وتعميمها على السلطة التنفيذية والتشريعية). 3) طبيعة الجيش وعقيدته العسكرية والسياسية ودوره في المرحلة القادمة. 4) الأجهزة الأمنية ومرجعيتها ووظائفها وحدود تدخلها والضوابط الكابحة لجموحها. 5) استقلال القضاء وتحصينه ليصبح سلطة غير خاضعة للأوزان السياسية. 6) الاعلام والحريات العميقة. 7) قانون الجمعيات والأحزاب. 8) إصلاح التربية والتعليم وتحرير المدارس والجامعات من التسلط السياسي والغزو الديني. 9) إعادة إعمار سوريا وإنشاء المؤسسات لذلك. 10) موقع سوريا الجيوسياسي. تحديد الأعداء وكيفية التعامل مع واقع احتلال الجولان والتحالفات المصاحبة للخيارات الخارجية.
فلنفرض ان الاتفاق على معظم هذه العناوين سيكون ممكناً، بعد صعوبات وضغوطات.
النصوص لا تحل المشكلات، إلا بمقدار ما تكون شرعيتها نافذة وملزمة للجميع ضمن إطار المؤسسات الموحدة ذات الولاء المبرم للدولة. ليس للجماعات، والمتمسكة بالشرعية الدستورية. غير أن ذلك لن يكون القاعدة. ستتحكم قوى المجتمع كافة، المتنوعة والمتعددة بمسار السلطة والمؤسسات، وستدفع إلى تقاسم البلاد. وانقسام السلطة، يعني محاصصتها، ومحاصصتها ستؤدي إلى تفتيت سلطة الدولة وإلحاقها بقوى الأمر الواقع. وهي قوى مذهبية واتنية وطائفية ووطنية، ذات صلات بدول إقليمية ودولية، من مصلحتها، وضع اليد على خيارات سوريا الاقليمية.
سيكون لكل فريق سياسي حصته. سيكون للفريق المدعوم من السعودية حصة وللفريق المدعوم من إيران حصة وللفريق المدعوم من قطر أو تركيا أو أميركا أو روسيا حصة.
سيحضر نظام المحاصصة بكامل عدته. سيستقوي من هم في الداخل، بالقوى الخارجية الداعمة. ستوظف القوى الخارجية نفوذها، لتحصين حصص حلفائها، لجذب سوريا إلى صفها أو محورها. وسيشتد النزاع على الحقائب السيادية، وتحديداً على الدفاع والداخلية والخارجية والمالية. ستصبح سوريا، بقواها الذاتية، عاجزة عن الممارسة الديموقراطية الصحيحة، بسبب الانقسامات العمودية الحاسمة ذات الصلة بالانقسامات الإقليمية الحادة، بين معسكر "الاعتدال العربي" و"الممانعة" المتمثلة بالنظام الراهن وإيران وحزب الله، وتلك حالة تشبه حالتي لبنان والعراق.
لا تنتج الحروب الأهلية أنظمة ديموقراطية، بل أنظمة محاصصة. فإذا تعذر التقسيم ساد الانقسام. واقتسام السلطة يؤدي إلى شلل المؤسسات وضعف الدولة وضياع الاتجاه.
سوريا غداً… هي شيء من لبنان الماضي، وشيء من عراق الحاضر… وقد يصاحب ذلك، عنف مذهبي وطائفي لا تقوى عليه دولة ممزقة الولاءات والقيادات والتيارات والعقائد.


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

الأشقياء الثلاثة: سوريا، لبنان والعراق -1 (نصري الصايغ)


نصري الصايغ

I ـ موجز لا بد منه

لم تبلغ سوريا بعد عتبة «البحث عن حل». أفق الصراع مفتوح. «الحل الكيميائي» قطع الطريق أمام حرب غير مرغوب فيها من قبل القادرين عليها. المروجون لها والعاجزون عن خوض معاركها، خسروا جولة، يعوضونها بزيادة دعم وتسليح المعارضة. الحسم المفترض سقط. النظام باق، والمعارضة المسلحة مستمرة، والسجال الدامي لا يتوقف، بل تزداد قسوته.
«الحل الكيميائي» سمح للديبلوماسية النشطة غربياً، بأن تعيد صوغ لغة جديدة ومقاربات معقولة، لبدء عملية «البحث عن حل» في «جنيف 2». لا حسابات دقيقة بعد، التفاؤل خجول جداً، الأمل مشكوك فيه، فالوقائع الميدانية لم تنتج بعد فروقات حاسمة، بين النظام الذي يتقدم ولا ينتصر، والمعارضة التي تخسر ولا تنهزم. المعارك لها القول الفصل في التمهيد للحل. لم يولد في الحرب الدائرة في سوريا ميزان قوى جديد. ما يخسره النظام في منطقة أو في معركة، يعوّض عنه بكسب في مناطق رخوة ورجراجة. كذلك المعارضة. تكسب حيث يخسر النظام في مناطق نائية عن مركزه. لم تتغير المعادلة بعد. المعارضة تسيطر على 60 في المئة من الأرض السورية، فيما يسيطر النظام على 40 في المئة من الأرض التي تضم 60 في المئة من السكان. حساب القتلى والمهجرين والنازحين، اختصاص الهيئات الإنسانية الدولية، حتى الآن.
مقدمات البحث عن حل لم يجر الاتفاق عليها بعد، ويصعب ذلك راهناً. العقدة الأساس تكمن في ما يلي: المعارضة تصرّ على ان لا حل بوجود الرئيس بشار الأسد، والنظام يصر من جهته على أن مصير الرئيس، تقرره صناديق الاقتراع في منتصف العام القادم. ما بين البداية هذه ومحاولات رسم خريطة طريق «للمرحلة الانتقالية»، ستسيل دماء سورية كثيرة، وستحدث مفاجآت كارثية، قد تجعل سوريا، بلداً لحراسة الخراب وإعادة تدمير المدمّر مراراً. ليست هذه المرة الأولى التي يمتد فيها الصراع، بكل مآسيه، وتعجز المعارك العسكرية عن إنهائه، ويقصر العالم عن إنجاز التسوية فيه. الصومال نموذجاً، السودان كذلك، قبل وبعد انفصال الجنوب. افغانستان مراراً. ولبنان ظل أسير العنف خمسة عشر عاماً، ولم يصل إلى التسوية، إلا بعد انهيار الجميع في الداخل واتفاق «الجميع» في الخارج.
بعيدة سوريا عن الحل. لا تزال تعيش المعادلة التالية: «لا حل عسكرياً، ولا حل سلمياً». وفي حالة النفيين تلك، المؤكد الوحيد هو التالي: رعاية الحرب من الخارج، ومنع سقوط النظام، مقابل منع سحق المعارضة. محور النظام لن يدعه يسقط عسكرياً، ولكنه لن يتيح له الانتصار، لعجزه عن ذلك. محور المعارضة، لن يدع المعارضة المسلحة لُقْمَةً سائغة في فك الآلة العسكرية للنظام، ولن يتيح لها الانتصار، لعجزها عن ذلك أيضاً. التعادل السلبي هو النتيجة المنطقية لعامين ونصف العام من القتال، أسفرت فقط، عن «حل كيميائي»، لم تربحه المعارضة، إذ جاء لمصلحة إسرائيل فقط. أما استعماله في الداخل، فبات ممتنعاً وإعادة استعماله، يستدعي حرباً تستتبع حروباً، وهذا مستبعد.

II  فرضيات ممكنة

قد تفضي «الميدانيات» الديبلوماسية، في فترة ما بعد «الحل الكيميائي» إلى إنضاج خريطة طريق مفترضة، يلتزم الأقوياء في كلا المعسكرين، بإجراء الضغوطات الواجبة، على الحواضن الإقليمية لطرفي النزاع، وعلى القوى المسلحة المتصارعة، داخل سوريا، لتحقيق الأرضية الهادئة عسكرياً، وتسهيل المفاوضات الماراتونية.
هذه الفرضية تفترض ميدانياً ما يلي:
أولاً: وقف إطلاق النار.
ثانياً: بقاء كل فريق في مواقعه.
ثالثاً: وقف تسليح وتدعيم الطرفين.
رابعاً: تأمين سلامة الهيئات الطبية ومنظمات المساعدات الإنسانية.
خامساً: عودة النازحين إلى ديارهم، وحفظ أمن العائدين.
سادساً: إخراج التكفيريين من المعادلة، وهذا وحده يتطلب جهوداً لا يمكن التنبؤ بنتائجها، لطبيعة هذه القوى وانتشارها وتطرفها والدعم الهائل الذي تتلقاه من دول هيئات ومنظمات تؤيدها في قتالها وفي انتشارها وفي استدامتها.
ومع ذلك، تبقى تلك الفرضيات الميدانية واجبة، ويبقى البحث عن إمكانية تطبيقها ضرورياً، وإلا فإن البديل سيكون أسوأ مما هي سوريا عليه الآن: إقامة مملكة الخراب التي يحكمها أمراء التدمير والركام.
لا جدوى من العمل في تأمين «الحاضنة الأمنية» للحل السياسي، إذا لم يقترن ذلك بعدد من الفرضيات السياسية، التي تشكل ميناء ترسو عليه الأزمة السورية.
فتهدئة الحالة العسكرية تسير جنباً إلى جنب مع البحث الجدي بما يلي:
أولاً: إقامة نظام سياسي لا يلغي أحداً.
ثانياً: إقناع الجميع، في الداخل والخارج، بأن حصته في النظام، ليست بالضرورة على قياس طموحه أو على قياس قوته وحجمه العسكري الميداني.
ثالثاً: تشكيل حكومة انتقالية، تمثل الجميع، بصلاحيات موقتة، تتثبت في ما بعد عبر الاستفتاء على الدستور الجديد.
رابعاً: إجراء انتخابات نيابية ورئاسية وفق الدستور الجديد.
خامساً: إخراج القوات المسلحة والأمنية من الميدان السياسي وإخضاعها للسلطات المدنية.
هذه الفرضيات تبدو غير مؤهلة للنجاح، لأن كل واحدة منها، تفترض تعديلاً في موازين القوى، أو، ضغوطاً هائلة، أو إنهاكا للأطراف مجتمعة، فلا يبقى قوي أو أقوياء، بل يؤدي ذلك الى ظهور الإعياء على القوى المتحاربة فتطلق نداء استغاثة: «أنقذونا». إن بلوغ تهدئة أمنية أو هدنة عسكرية أو مفاوضات فصل قوات أو تبادل مواقع أو سواها، أسهل بكثير من العبور داخل حقل ألغام الحل السياسي المفترض، والذي لن يكون إلا حلاً على علاته.
سوريا لم تكن الأولى في هذا الميدان، ولن تكون الأخيرة.

III  لبنان أولاً

النزاعات اللبنانية، السابقة على تشكل لبنان الحديث، تلقي أضواء على أصناف التسويات الكثيرة، التي تمت تجربتها، قبل أن ترسو صيغة الكيان بحدوده المثبتة في إعلان دولة لبنان الكبير العام 1920، وقبل ان تصبح «الصيغة» اللبنانية مرجعية لـ«ميثاق وطني» رجراج، ونظام سياسي يتقلّب بين مرجعية النص الدستوري من جهة ومرجعية «النص الميثاقي» من جهة أخرى، مع أرجحية الثاني على الأول، على عكس الأنظمة الديموقراطية الدستورية، حيث لا سقف فوق سقف الدستور.
العودة إلى التجارب اللبنانية، أو تجارب القوى والجماعات فيه، تفيد في تلمس الحروف الأولى التي ستصاغ بها التسوية السورية، إذا قيض لها ان تبدأ بقراءتها والتقيد بها، اختصاراً لحقب وعقود.
نوجز: لبنان ليس جزيرة. هو متصل، لا ينفصل عن محيطه، اتصاله حيوي من جهة، ومدمر من جهة. إن اتصل عاش، وإن انفصل تنازع، وإن كان اتصاله بمحيط معافى ازدهر، وإن كان محيطه مريضاً أصيب بانقسام. فهو يشبه مشرقه، بنية واجتماعاً وعلاقات. هويته مشكلة له. خصوصيته تؤكد انفصال بعضه عن محيطه ورغبة باتصال بمن وراء البحار. تلك مشكلة الأقليات في «دول» تفرض هوية سلطتها على شعوبها. وهي في أحيان كثيرة هوية دينية أو عرقية أو طائفية أو عائلية.
لبنان هذا، مذ بدأت «المسألة الشرقية»، كان جزءاً منها. ولبنان هذا، آنذاك، ما كان دولة ولا كياناً. كان حالة في جغرافيا غير مستقرة. جبل بلا ساحل، بلا مدن، بلا بقاع، بلا… ولكنه كان فكرة محمولة من أقلية مسيحية في محيطها.
مثل هذا التوزع، لا التنوع، يوّلد نزاعاً تليه نزاعات، ولا يشهد التاريخ في المشرق نزاعات محلية لم تكن شديدة الاتصال بالقوى الخارجية. وعليه، دخل لبنان في الفتنة مراراً، ولا نجد فتنة لم يكن وقودُها لبنانيين، وقادتها من خارج لبنان. ولقد انعكست الصراعات بين الدول الكبرى آنذاك، على صراعات الصغار في لبنان، وتحديداً في مرحلة ما قبل الكيان.
ولد لبنان من قلب هذا المخاض، ومن رحم أكبر حرب كونية. عرف في حروبه الداخلية، حلولا لم يكن فيها لأبنائه، لا ناقة ولا جمل. نظام الإمارة الشهير، وما عرفه من حروب وفتن ومعارك، كان بحاجة إلى حماية، تستجلب الأعداء إلى جانب الحماة. محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا، احمد باشا الجزار، نابليون بونابرت، لندن، باريس، الباب العالي، القياصرة، الأباطرة… كلهم كانوا هنا، عبر ممثليهم، يسمعون، يقررون، يرفضون ويبرمون، الحلول بمعزل عن الأهالي.
نظام القائمقاميتين نجح في تقسيم اللبنانيين أكثر، وأضفى على الوضع صفة دولية. لم تعد المسألة اللبنانية في اربعينيات القرن التاسع عشر، تخص اللبنانيين. مصيرهم يتقرر من دونهم. موافقتهم ملزمة وتتم بالإملاء. الدول الخمس التي دعيت لبحث مصير جبل لبنان، انقسمت بين مطلب عثماني يعيد سلطة السلطنة إلى الجبل وبين مطلب فرنسي يعيد الإمارة الشهابية المسيحية. ميترنيخ النمساوي ابتدع الحل الوسط، وقضى بتقسيم الجبل بين المسيحيين والدروز. تم الاتفاق على التقسيم. كان الحل بالتجزئة الجغرافية والسكانية، وتجزئة السلطة بالطبع. لم تلجم سلطة القائمقاميتين العنف الطائفي، فدخل لبنان في فتنة الستين، التي شهدت مذابح متبادلة، بين الدروز والموارنة. وثم انتقلت إلى دمشق بين المسلمين والمسيحيين. مذابح الستين في القرن التاسع عشر أنتجت صيغة جديدة لجبل لبنان، نظام متصرفية، بإمرة مسيحي من السلطنة يعينه الباب العالي، ومجلس إدارة يضم ممثلي الطوائف، فيما الجندرمة، من الأهالي، إنما بلباس فرنساوي. وكان لكل قنصلية من قناصل «الدول الكبرى» آنذاك، حق التدخل ووضع «الفيتو». فرنسا ضد بريطانيا، أي الموارنة في مواجهة الدروز. وترجمة ذلك، صراع بين النفوذ الفرنسي في المنطقة والنفوذ البريطاني، بانتظار سقوط التفاحة العثمانية بعد نضجها في يدي واحد من الطرفين أو الاثنين معاً. وعلى هامش هاتين الدولتين، روسيا التي تتطلع إلى «قداس الأرثوذكس» الدافئ، والنمسا المتربصة لدور شبيه بدور مترنيخ. أما الباب العالي، فيكتفي بإرضاء الجميع، شرط الحفاظ على ما تبقى من سلطة السلطنة في جبل لبنان.
من هذا المخاض، ولد لبنان، فكان من حصة الطوائف، مع أرجحية مسيحية. على الكيان أنشئ دستور ونظام، وعملية ضم الأطراف (الأقضية الأربعة) لم تحصل طوعاً. التحق السنة بلبنان قسراً وطمعاً. انفصلوا عن دمشق لقاء حصة. لبنان كيان بحصتين: واحدة للمسلمين وأخرى للموارنة. لبنان غير قابل للتقسيم ولكنه قابل للاقتسام. حصل ذلك إبان الانتداب وبعده. الاستقلال كان مزدوجا: واحداً عن دمشق وآخر عن فرنسا. والولاء ظل لاثنين: واحد للعرب وآخر للغرب.
تلك كانت المادة الصلبة لبناء دولة لبنان الرخو بنظامها السياسي المقفل والمختنق. بعد الحروب الأهلية أو الحروب الداخلية، تولد عصبيات سياسية لا يمكن حذفها أو التغاضي عنها. إشباع العصبيات يتم عبر الاعتراف بها وبحقها في تقرير مصيرها الخاص، داخل المصائر الأخرى، التي، إذا التأمت، اهتمت بالمصير الوطني، وإذا تنازعت أخذت الوطن إلى المصير المجهول. كما حدث مراراً.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى