الإسلامويون العرب وما بعد الإسلاموية (ريتا فرج)

 

 
ريتا فرج

يطرح تعثر الإسلامويين في العالم العربي وعزل الرئيس المصري محمد مرسي، والاضطراب الذي تمر به «حركة النهضة» في تونس، والانشقاق الذي دشنه بعض قيادات «الإخوان المسلمين» في الأردن عبر إرساء مبادرة «زمزم»، أسئلة كثيرة ومعقدة حول مآل الحركات الإسلامية التي اختارت العمل السياسي.
في موازاة الحديث عن فشل الإسلام السياسي العربي بسبب ارتباط بنيته العقدية بالطابع الإيديولوجي الأحادي، برغم الحمولة الزائدة من ادعاءات التغيير، التي رافقت صعوده إلى الحكم والحديث عن الدولة المدنية والتعددية، تشي التحولات الأخيرة، لا سيما إثر تداعيات (30 حزيران)، بحال الإرباك والعطوبة التي يتخبط بها الإسلامويون نتيجة عدم قدرتهم على تطويع خطابهم وافتقادهم للنقد الكافي الذي يعتبر خطوة إلى الأمام تواكب أي تحول جوهري يفرضه الواقع المتغير.
وعليه، هل التحديات التي تواجههم ستدفعهم إلى حقبة ما بعد الإسلاموية، وهل سنشهد مزيداً من الانشقاقات في صفوفهم كالتي حصلت مع الإخوانية الأردنية، وما السيناريوات المتاحة أمامهم والتي يمكن أن تتراوح بين المراجعة الجادة أو القطبية/ العنفية أو الكمون؟
برغم الضبابية التي تحيط نشأة مفهوم «ما بعد الإسلاموية» Post-Islamism ظهرت إرهاصاته بداية تسعينيات القرن الماضي في الأدبيات الأكاديمية الأوروبية بشكل غير منضبط. وقد خلص الباحث الفرنسي أوليفييه روا في كتابه «L’échec de l’Islam politique» الصادر في العام 1992 إلى أن حركات الإسلام السياسي فشلت سواء في إقامة الدولة الإسلامية أم لجهة تقديم رؤية اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية خاصة بها، وتلاه زميله جيل كيبل في كتابه «Jihad: expansion et déclin de l’islamisme» (2000) حيث قارن بين الإسلام السياسي والتجربة الشيوعية التي انتهت إلى الانهيار.
يفضل بعض المختصين الأوروبيين في قضايا الحركات الإسلامية استخدام مفهوم «الإسلامويون» للدلالة على الانتماءات السياسية الإيديولوجية، على اعتبار أن كلمة «الإسلاميين» تشمل كل من يدين بالإسلام كمعتقد ديني. ينهض منظور الإسلامويين على أن الإسلام نظام سياسي نموذجي كامل، له أسس ثقافية، وهياكل قانونية، وقواعد اقتصادية، تجعله قادراً على الاستجابة للمشكلات كافة. (رضوى عمار، ما بعد الإسلاموية أبعاد الصراع بين القوى الإسلامية في الشرق الأوسط).
يُعَدُّ أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط في جامعة إلينوي (الولايات المتحدة) آصف بيات من أوائل الباحثين الذين درسوا واستخدموا مصطلح «ما بعد الإسلاموية» في مقاله «The Coming of a Post-Islamist Society» المنشور في العام 1996 وطوره في كتابه الصادر في العام 2007 تحت عنوان «جعل الإسلام ديموقراطياً: الحركات الاجتماعية والانعطافة ما بعد الإسلاموية» ( Making Islam Democratic: Social movements and the Post-Islamist Turn).
تنهض مقاربة المفكر الإيراني آصف بيات لـ«ما بعد الإسلاموية» على مسألتين: حالة ومشروع. أما الحالة، فهي ذلك الظرف الاجتماعي والسياسي الذي يلي مرحلة تجربة الإسلاموية، تستنفذ فيها جاذبيتها وطاقتها ومصادر شرعيتها حتى بين مؤيديها المتحمسين. وهي تلك الحالة التي يكون فيها الإسلاميون على وعي بأوجه القصور والشذوذ في نظامهم، حيث يحاولون تطبيع ومأسسة حكمهم. وهي بالنسبة له تمثل مسعىً لمزج التدين بالحقوق، والإيمان بالحريات، والإسلام بالحرية الفردية، وتحويل المبادئ الإسلامية الكامنة فيها، بتأكيد الحقوق بدلاً من الواجبات/ المسؤوليات، والتعددية عوضاً عن الصوت المنفرد المتسلط، وعلى ربط النص بالزمن، وعلى المستقبل عوض الماضي. ما بعد الإسلاموية في فهم بيات كمشروع عبارة عن مواءمة بين الإسلام والاختيار الفردي والحرية، وبينه وبين الديموقراطية والحداثة وذلك للوصول إلى ما أسماه البعض «الحداثة البديلة». وهي قائمة على كسر احتكار الحقيقة الدينية، وقد تعبر عن نفسها في شتى الممارسات الاجتماعية، والأفكار السياسية، والحركات الطلابية والشبابية، والممارسات النسوية، وحتى في الفكر الديني والبحوث النظرية العقدية. وباختصار، فإن ما بعد الإسلاموية عنده، هي ارتباط التدين بالحقوق، في مقابل التحام الدين بالمسؤوليات في الفهم الإسلاموي؛ حيث يرى الإسلامويون أن الدولة هي أقوى المؤسسات وأكثرها فاعلية في نشر الخير والقضاء على الشر. لذلك المواطنون في نظــرهم رعايا مطيعون، مع التشديد على التزاماتهم تجاه الدولة الصالحة، والقليل من الاكتراث لحقوقهم. (انظر: إسماعيل الإسكندراني، الثورة المصرية كلاحركة بعد إسلاموية: دراسة مفاهيمية تفسيرية للحالة العربية الراهنة، «مراصد»، مكتبة الإسكندرية، عدد 8، 2012).
لم يكن بيات بعيداً عن ثورة «25 يناير»، التي أعطاها زخماً «ما بعد إسلاموي»، معتبراً أن الإسلام كـ«سياسة» لم يكن حاضراً فيها، وهي ثورة «ما بعد قومية»، إذ لم تكن معادية للغرب أو لاسرائيل، بل ركزت على الداخل المصري بشكل واضح. وفي مقال له تحت عنوان «حلقة في الثورة الطويلة» (تموز/ 2013) قال: «يحدث الانقلاب، عندما تطيح مجموعة من النخبة الحاكمة مثل الجيش مجموعة أخرى وتنتزع قهراً السلطة منها بدون أدنى مشاركة من الشعب. وما حدث فى مصر في 30 حزيران كان أكثر من ذلك بكثير. كان «إكراهاً ثورياً» أكثر مما كان «انقلاباً»؛ وشكل تدخل الجيش لعبة النهاية لانتفاضة هائلة فى ثورة طويلة حدثت عندما خرج إلى الشوارع حوالى 17 مليون مواطن من كل الفئات (مسلمين، مسيحيين، رجالاً، نساءً، متدينين، علمانيين) مستعرضين نضالهم الجماعي بشكل غير مسبوق فى نضالات الأمم. لقد قاموا بهذا لإطاحة حكومة إسلامية رأوا أنها مشغولة في بناء «ثيوقراطية انتخابية» أكثر من تحقيق مطالب الثورة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وهي المطالب التي قدمت تضحيات كبيرة، وسالت دماء غزيرة من أجلها».
أخطأ الإسلامويون العرب، لا سيما في النموذج المصري، فلم يتمكنوا من تجاوز «الشمولية الإسلاموية» ونسفوا شعاراتهم الملتبسة التي تمخضت إبان الثورات في شأن الدولة المدنية والتعددية. عملت جماعة «الإخوان المسلمين» على إستراتيجية التمكين، وسعت إلى أخونة مؤسسات الدولة، وإلى الدمج الحاد بين الديني والسياسي، وتصادمت مع الليبراليين والأزهر والأقــباط والجيش، وسقط جناحها السياسي في خطاب شعبوي، واتجهت بعد «30 يونيو» وعزل محمد مرسي باتجاه القطيعة والعنف برغم الدعوات المتكررة للحوار.
أما «حركة النهضة» التي تسعى إلى تلافي السيناريو المصري، فلم تتخط هي الأخرى الإيديولوجية الإسلاموية، وإن أوحى خطابها بالطابع المدني. وبصرف النظر عن نجاح الحوار مع المعارضة التونسية أو العكس، صمتت الحركة عن الانتهاكات المتكررة للسلفيين بحق كل مظاهر الحداثة، ولم تخرج عن منطق التنظيم إلى منطق الدولة.
فترة ما بعد الإسلاموية في العالم العربي لم تتضح معالمها بعد؛ والإسلاموية لم تنته فصولها، غير أن المرجح أننا قد نشهد مزيداً من الانشـقاقات والتشظي والجهاد العنفي المعاكس لدى الإسلامويين الذين لا يريدون وضع حدٍ لتديين السياسي بهدف مكاسب سلطوية. فشلوا وهم في الدولة في الوقوف على مسافة متساوية وحيادية إزاء التنــوع، وفي إدارة الاستحقاقات التي تفرضها المرحلة الانتقالية، وكان «إخوان» مصر رفضوا دعوة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لضرورة اعتماد دستور علماني.
ما الذي يمكن أن يفعله الإسلامويون العرب في المرحلة المقبلة؟ الأكيد أنهم خسروا الكثير على المستويين السياسي والشعبي، وهم مطالبون بتكريس خطاب مدني/ حداثي يقطع مع اللاهوت السياسي ومع تقديس «الجماعة» وأدْلجة الإسلام.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى