الحرب على سوريا تُطلق نظام “السلم الدولي البارد”

الراجح أن ما نشهده هذه الأيام هو استراتيجية ــ أميركيه بخاصة وغربية عموماً ــ ترمي إلى تطويع روسيا والصين تحت السقف الغربي، وفرض حصار عليهما، عبر انتشار الحلف الأطلسي على الحدود الروسية و عبر الحصار الأميركي لبحر الصين، وذلك بالتنسيق مع اليابان وكوريا الجنوبية والفليبيبن وتايوان. وضبط حركة البلدين في الإطار الدولي وفق نتائج الحرب الباردة، مقابل تمنّع روسي صيني جاذب لمجموعة من دول العالم، والسعي إلى إرساء قواعد جديدة في العلاقات الدولية تستند إلى التعدّد القطبي.

أرجع الإنذار الروسي بالرد على مصادر النيران الأميركية إذا ما أطلقت على سوريا، أزمة خليج الخنازير الكوبية إلى الأذهان. وطرح مرة أخرى احتمال اندلاع حرب عالمية أو نووية فاتحاً باب النقاش أمام سيناريوهات هذه الحرب. هل يقف العالم حقاً على حافة نزاع كوني مدمّر انطلاقاً من الأرض السورية؟ يبدو للوهلة الأولى أن القياس على الأزمة الكوبية باعث على الاطمئنان. فقد انتهت إلى تفاهم بين الطرفين، ولم تتسبّب بحرب دمار شامل، علماً أن المقارنة بين الحدثين لا تضمن بالضرورة النتائج نفسها.

للتذكير اندلعت أزمة “خليج الخنازير” في أكتوبر من العام 1962 إثر تركيز صواريخ نووية سوفياتية في كوبا لحمايتها من عدوان أميريكي مُعلن، يرمي إلى إطاحة نظام فيدل كاسترو الموالي لموسكو. تمت هذه العملية بعد فشل غزو بحري نظّمته وكالة المخابرات المركزية الأميركة لـ “كوماندوس من الكوبيين البيض” الذين قُتلوا أو أُسروا جميعاً، الأمر الذي حمل واشنطن على التهديد بالتدخل المباشر لإنقاذ ماء الوجه ولقلب النظام الكوبي بطبيعة الحال.

انتهت الأزمة كما هو معلوم بسحب الصواريخ الروسية من كوبا وبسحب صواريخ جوبيتير الأميركية المنصوبة في تركيا ضد الأراضي السوفياتية، وإنقاذ النظام الكوبي من العدوان الأميركي المباشر، مع استمرار الحصار البحري الخانق على الجزيرة وتصعيد الحرب الباردة بين الطرفين.

في الحال السورية، يأتي الإنذار من الطرف الروسي، وهو يرمي إلى إخراج سوريا من الحرب التي يشنها تحالف دولي بزعامة الولايات المتحدة على دمشق منذ 7 سنوات، لكن هذا الإنذار يتجاوز سوريا إلى وقف تمدّد الحلف الأطلسي على حدودها المباشرة. فقد نشرت واشنطن درعاً صاروخية للتصدّي للقوّة البالستية الروسية، ودعت جيورجيا وأوكرانيا إلى الانضمام للحلف الأطلسي، كما تسعى عبر سياسة طاقة عدائية إلى إضعاف القدرة الروسية على المناورة والحؤول دون استخدام الطاقة الروسية كسلاح سياسي. والمُلاحَظ في هذا الصدد أن أميركا أرسلت كميات ضخمة من الفحم الحجري إلى أوكرانيا حتى تسمح للحكومة الأوكرانية بمقاومة الضغوط التي يمارسها التيار المنشق في “غامباس”، الواقعة تحت النفوذ الروسي على الحدود المشتركة بين البلدين.

وفي السياق نفسه صوّت الكونغرس الأميركي الصيف الماضي بما يشبه الإجماع على فرض عقوبات اقتصادية على روسيا ، في حين لا يتورّع الرئيس الأميركي عن تصنيف موسكو وبكين كعاصمتين منافستين “للنفوذ والقِيَم والثراء الأميركي” كما ورد في خطابه الأخير عن “حال الأمة”.

بالمقابل ردّت موسكو على الإجراءات الأميركية بقوة. فقد طردت 755 دبلوماسياً أميركياً من أراضيها ودفعت حلفاءها إلى طرد القواعد الأميركية من آسيا الوسطى وكثفت العلاقات مع الصين ودول البريكس ومجموعة شنغهاي. وكان بوتين قد عبّر مراراً عن ندمه على خسارة الاتحاد السوفياتي وأطلق في حوار شهير مع المخرج الأميركي أوليفر ستون عبارته التاريخية “لن يبقى أحد على قيد الحياة بعد الحرب النووية”.

على الرغم من مظاهر التوتّر التي أشرنا إليها للتوّ، لا يمكننا الحديث عن استئناف الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو. فالاتحاد السوفياتي الذي كان طرفاً في هذه الحرب، وكان يسيطر على نصف العالم، ما عاد قائماً اليوم، فيما روسيا الاتحادية تحتفظ بدخل سنوي يوازي دخل إسبانيا ويعادل إنفاقها العسكري إنفاق بريطانيا. أما تحالفاتها مع الصين والبريكس وشنغهاي فهي مهمة جداً لكنها ليست حاسمة قياساً على العلاقات بين ضفتي الأطلسي. ناهيك عن غياب الصراع الأيديولوجي بين الماركسية والليبرالية الذي ميّز الحرب الباردة وطرحها بوصفها صراعاً بين عالمين ليبرالي وشيوعي.

الراجح أن ما نشهده هذه الأيام هو استراتيجية ــ أميركيه بخاصة وغربية عموماً ــ ترمي إلى تطويع روسيا والصين تحت السقف الغربي، وفرض حصار عليهما، عبر انتشار الحلف الأطلسي على الحدود الروسية و عبر الحصار الأميركي لبحر الصين، وذلك بالتنسيق مع اليابان وكوريا الجنوبية والفليبيبن وتايوان. وضبط حركة البلدين في الإطار الدولي وفق نتائج الحرب الباردة، مقابل تمنّع روسي صيني جاذب لمجموعة من دول العالم، والسعي إلى إرساء قواعد جديدة في العلاقات الدولية تستند إلى التعدّد القطبي.

بالمقابل يبدو لي أن الاستراتيجية الدفاعية الروسية ــ الصينية مبنية، بين عوامل أخرى، على إخفاق الولايات المتحدة الأميركية في حربي العراق وأفغانستان وفشلها في إدارة “الربيع العربي” وتمرّد القسم الأكبر من أميركا اللاتينية عليها فضلاً عن مشاكلها الداخلية العويصة.

هذا التقدير لطبيعة الصراع بين الطرفين يتيح رسم حدود لتدخّلهما في الأزمات الدولية، ومنها الأزمة السورية، وذلك عبر ربط المصالح بالتهديد النووي الذي تضعف معه الأحجام والمواقع كما بدا ذلك جلياً في المثال الكوري الشمالي الذي سينتهي إلى الجلوس إلى طاولة الحوار بين ترامب وكيم جونغ أون.

ربما صار بوسعنا القول بقدر من المغامرة، إن التهديد النووي الذي أطلقه بوتين مزوداً بالصوَر والأدلّة وأرفقه من بعد ملوحاً بالرد على مصادر النيران الأميركية التي قد تطلق على سوريا، هذا التهديد وضع الأزمة السورية تحت السقف الروسي وربما يتيح الخروج منها بشروط روسية وإيرانية وتركية جزئياً.

ثمة قائل بأن واشنطن والدول الغربية لن ترضى بفرض الإرادة الروسية في الشرق الأوسط، وبأنها سترد بقوّة على هذا التوجّه الروسي. هو قول صحيح وقد بدأنا نلمس طلائعه في قضية الجاسوس الروسي في بريطانيا وفي العقوبات الاقتصادية الجديدة على روسيا. هذا يعني أن العالم بات مهدداً مرة أخرى بالموت النووي ولعلّه سيعيش من الآن فصاعداً مرحلة من السلم الدولي البارد بدءاً من سوريا ومنها إلى أربع بقاع الأرض.

الميادين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى