الحرب ليست حلاً والتسوية ليست مثالية (جيمس زغبي)

 

 
جيمس زغبي

خلال الفترة التي تولت فيها إدارة بوش الرئاسة في أميركا كنت دائم الانتقاد لأيديولوجية المحافظين الجدد، معتبراً أنها في كثير من جوانبها نسخة علمانية للأصولية المسيحية القديمة المتطرفة. فالأيديولوجيتان معاً تقتسمان الرؤية الثنائية للعالم، القائمة على عقيدة الصدام الحتمي بين الخير والشر. كما أن الاثنتين تتبنيان نظرة إطلاقية ترى في المساومة والتفاوض علامة ضعف واستسلام لقوى الشر المتربصة. والنتيجة أن المحافظين الجدد والمسيحية الأصولية يعتبرون العنف أمراً ضرورياً ومرغوباً، ولذلك لا يتردد مناصرو أيديولوجيتيهما في البحث عن النهايات الخلاصية التي – برغم ما تفضي إليه من دمار- تؤدي في رأيهم إلى انتصار الخير على الشر! واستناداً إلى هذا التفكير الحدي الرافض للحلول الوسط، مضى المحافظون قدماً في تفكيك المنظومة الديبلوماسية الأميركية التي انطلقت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وركزوا خصوصاً على تقويض الجهود التي قام بها الرئيسان بوش الأب وبيل كلينتون، عقب انتهاء الحرب الباردة لتعزيز الديبلوماسية والحد من استعمال القوة بحصرها في الحالات الضرورية فقط، من خلال بناء التحالفات في مسعى لحل النزاعات الإقليمية عبر التفاوض والحوار. وعلى امتداد الشرق الأوسط كانت لأيديولوجية المحافظين الجدد انعكاسات مدمرة سواء في لبنان أو العراق، أو حتى في محاولة إنقاذ المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.
وبالطبع لم تقتصر أيديولوجية المحافظين الجدد على الولايات المتحدة، كما لم تنته بانقضاء فترة إدارة بوش، بل إنها ما زالت موجودة سواء في أميركا، أو الشرق الأوسط، وهي أيضاً تنشط حالياً من خلال السعي لإشعال فتيل الصراعات في مصر وسوريا، وبين الفلسطينيين وإسرائيل، وبين الغرب وإيران. فالأفكار المدافعة عن العنف باعتباره الحل، والتي تنظر إلى المفاوضات على أنها حالة من حالات الضعف، وأن الحلول الوسط مجرد استسلام، وأن ما يصنف على أنه شر يجب تدميره ومحقه، ما زالت مظاهرها ماثلة أمامنا على امتداد الشرق الأوسط. والنتيجة أن الفاعلين في الأزمات الحالية بالغوا في مطالبهم لتستمر الصراعات التي انخرطوا فيها من دون حل في الأفق؛ والحال أن الدرس الذي يتعين استيعابه من وحي تجارب الماضي الأليم هو أن سيناريو المنتصر والمنهزم في الصراعات الدولية مجرد وهم لا يؤمن به سوى المتعصبين الذين يريدون استمرار المعارك والصراعات حتى اندحار ما يرونه عدواً، وهو ما يفسر لماذا ترفض جماعات مثل «حماس» و«الجهاد الإسلامي» مفاوضات السلام، برغم إخفاقاتها المتكررة، ويفسر أيضاً لماذا يستمر النظام السوري في معركته ويرفض التفكير في الخيارات البديلة، مصمماً على وصم معارضيه بالإرهاب، كما ينطبق هذا التفكير المتعصب كذلك على المتشددين الإسرائيليين الذين يعتبرون مصادرتهم لأراضي الفلسطينيين واحتلالهم لها، هي الأمر الصائب الذي يجب الدفاع عنه حتى النهاية. ونجد منطقاً مماثلاً عند قادة إيران الذين يصرون على تصدير الثورة والتبشير بها، فيما حاول «الإخوان المسلمون» في مصر الاستيلاء على الدولة وإحكام قبضتهم على السلطة، قبل أن يثور عليهم الشعب المصري في النهاية.
لقد بات التفكير الإطلاقي الحدي سائداً بين الجميع، بمن فيهم أيضاً الرافضون للمفاوضات مع إيران، علماً بأن هذه المفاوضات لو كتب لها النجاح ستعم فائدتها المنطقة ككل، أو من يعترضون على جهود المصالحة في مصر باعتبارها الطريق الأمثل لدعم التجربة الديموقراطية، بل حتى من يرفضون مسبقاً الذهاب إلى مؤتمر جنيف 2 وهو الخطوة الضرورية لإنهاء نزيف الدم في سوريا وتقريب المواقف بين الأطراف المتصارعة، حيث يستحكم لدى الأطراف جميعاً ذلك الوهم القائم على الإمعان في استخدام العنف والقوة، ظناً بأنه هو الطريق الوحيد لتحقيق النصر ودحر الطرف الآخر. والحقيقة انه كما يعلمنا التاريخ الحديث انه لا وجود لانتصار ناجز، بل فقط عمليات تصعيد مستمرة للصراعات، فكل جرعة إضافية من العنف تصب الزيت على النار وتؤجج لهيب النزاعات، ولعل الدليل الأبرز علي ذلك هو الحرب الأهلية الطويلة في لبنان التي لم تنتهِ سنوات عنفها الخمس عشرة إلى حل للإشكالات اللبنانية بمنطق القوة، والأمر نفسه ينسحب على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم ينجح طيلة سنوات لا في إنهاء الاحتلال ولا في وأد المقاومة الفلسطينية. ويمكن قول الشيء نفسه أيضاً عن الحرب الدائرة في سوريا التي مهما اشتد أوارها فلن تقود إلى الحل لتبقى المفاوضات هي السبيل الأوحد لتسوية الصراع. ولذا وللخروج من هذه المعادلة الصفرية التي تعمقها الأيديولوجيات الإطلاقية والمتعصبة لا بد للجميع من أن يدرك أن اللجوء إلى العنف باعتباره الملاذ الأول لا يسهم في تسوية الصراعات، بل يعمقها فقط، ومن الضروري الاحتكام للمفاوضات والحلول الوسط للمضي قدماً في إيجاد تسويات حقيقية.
وفي هذا السياق، يتعين دعم ومساندة كل الجهود التي تسير في هذا الاتجاه مثل عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، والمفاوضات الجارية بين إيران والدول الخمس زائدا واحدا، ومؤتمر «جنيف 2» الذي يجري التحضير له الآن بين فرقاء الصراع في سوريا، أو جهود تحقيق المصالحة الوطنية في مصر، وإذا تطلب الأمر ممارسة ضغوط على الأطراف فيجب على المجتمع الدولي ألا يتردد في ذلك، فمع أن الحلول الوسط والصيغ التوافقية التي سيتم التوصل إليها لن تكون مثالية، وربما لن تحل الخلافات كلها، إلا أنها على الأقل ستوقف نزيف الدم المتدفق وتنهي الخسائر الفادحة في الأرواح والأموال، كما ستخفف من حدة التوتر وتفسح المجال أمام التغيير المنشود كي يتحقق بما يستجيب لتطلعات جميع الأطراف.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى