السوريون ممنوعون من التقاط الأنفاس

تعبر الحرب السوريّة نحو عامٍ جديد «بمنتهى الثقة». لا ملامح واضحة تُبشّر بقرب انتهاء أشدّ المراحل دموية في تاريخ البلاد الحديث، ولا مؤشراتٍ تضع أي كلامٍ من هذا النوع خارج دائرة التفاؤل المُفرط. وإذا كانت المعاركُ قد غادرت أجزاء من الجغرافيا السوريّة، فإنّها قد حطّت رحالها السوداء في أجزاء أخرى من دون انتظار. ومع دخول عدّاد الموت عامه النشط الثامن يبدو صُنّاع الحرب منهمكين في استيفاء شروط إعادة إنتاجها في صورة أخرى تليقُ بـ«حرب عالميّة». أوضحُ سمات العام المنصرم كان النزوع التدريجي نحو «تنظيم الحرب» إلى درجةٍ بات معها التّنبؤ بنهايات أي معركة ممكناً بمجرّد انطلاقها، إلى حدّ يوحي بأنّ معظم معارك العام السابع كانت قائمةً على توافقاتٍ وخرائطَ معدّة سلفاً. ويمكن تعداد أمثلة كثيرة في هذا السياق، بدءاً بمعارك تقويض سلطة تنظيم «داعش» العسكريّة، مروراً بتقدّم الجيش السوري داخل محافظة إدلب، وصولاً إلى معارك عفرين وغوطة دمشق. وفتحت معارك تصفية «داعش» الباب أمام مرحلة جديدة شهدت انحسار المدّ «الميليشياويّ» لمصلحة الجيوش النظاميّة. ولا تقتصرُ ثمار هذه المرحلة على تضييق رقعة انتشار الرايات السوداء، بل تتعدّاها إلى فشل المجموعات المسلّحة على امتداد البلاد مرّة تلو الأخرى في تحقيق اختراق حقيقي ومؤثّر.

ويستحق الانتباه انهماك أنقرة في عمليات «مأسسة» بعض المجموعات المسلّحة في الشمال، تمهيداً لإعادة تصديرها في صورة «جيشٍ» معارض، مع ما يفتحُه هذا التطوّر من احتمالات تتعلّق بمستقبل الحرب و«وحدة» البلاد. ولا يبدو مستغرباً أنّ المعركة الأولى التي انخرطت فيها تلك المجموعات كانت تحت راية الجيش التركي وبغطاء جويّ من طائراته الغازية ضدّ «الخطر الوجودي الكرديّ». وجاءت معارك عفرين لتكون نموذجاً «مثاليّاً» لدور الطيران في ترجيح كفّة طرفٍ على الآخر وإسهامه الجوهري في موازين القوى. ويفرضُ تراجع «وحدات حماية الشعب» الكرديّة مقارنةً واجبةً بين حال «الوحدات» اليوم وحالها قبل سنوات إبّان معارك عين العرب (كوباني). وعلى الرغم من أنّ معارك عفرين جاءت في خضم صعود نجم «الوحدات» بوصفها عموداً لـ«قوّات سوريا الديمقراطيّة»، فإنّ افتقادها الغطاء الجوّي (للمرّة الأولى منذ سنوات) يترك أثراً شديد الوضوح على أدائها العسكري. ودأب «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة على توفير التغطية الجويّة لـ«الوحدات» منذ معارك عين العرب، واستمرّ بعد تشكيل «قوات سوريا الديمقراطيّة» التي تحوّلت ذراعاً بريّة له وأفلحت في السيطرة على مساحة قاربت ثلث البلاد، قبل أن يتغيّر الحال بصورة جذريّة في الشهور الأخيرة ويُترك حلفاء الأمس تحت سماء احتلّتها تركيّا الأطلسيّة.

ومع التسليم بأهميّة القوّات البريّة في أي معركة، يقدّم الميدان السوري دليلاً جديداً على مركزيّة سلاح الطيران. ففضلاً عن العدوان التركي، سبق أن شكّلت السماء السوريّة بوّابة أولى للدخول الأميركي المباشر. وتحت راية «التحالف الدولي» وعنوان «الحرب على الإرهاب» استضافت السماء السوريّة طيراناً «متعدّد الجنسيّات». كما كان توفير الغطاء الجوّي للجيش السوري هدفاً أساسيّاً للتدخل العسكري الروسي المباشر أواخر عام 2015، فيما اقتصر الحضور الجوي الإيراني على الطائرات من دون طيّار. واستمرّت إسرائيل في اعتماد الطيران وسيلةً لاعتداءتها المتكرّرة التي أفضى آخرُها إلى اعترافها العلني بإسقاط الدفاعات الجويّة السوريّة واحدةً من الطيارات المعتدية. وما زالت الولايات المتحدة تعتمدُ الطيران وسيلة أساسيّة لحراسة «الخطوط الحمراء» في الشرق السوري على وجه الخصوص. ووسط ازدحام السماء السوريّة تحضر أسئلةٌ واجبةُ الطرح في ما يتعلّق بالحدود البريّة للبلاد، شمالاً وشرقاً وجنوباً. وفيما تبدو «غصن الزيتون» حلقة في سلسة تعاظم الدور التركي وقضمه مزيداً من الأراضي المحتلّة، يصعب تصوّر تخلّي الولايات المتحدة عن مناطق نفوذها شرق الفرات وسط جنوحها نحو تدعيم ذلك النفوذ بقواعد احتلاليّة مستمرّة في التزايد. وعلى نحو مشابهٍ تُظهر واشنطن اهتماماً بالجبهة الجنوبيّة، تشاركُها في ذلك بريطانيا التي حوّلت أخيراً كلّ أشكال الدعم الذي كانت تقدّمه لـ«المجتمع المحلي» المعارض في الشمال تمهيداً لتجيير هذا الدعم لمصلحة «المجتمع المحلي» في الجنوب. ورغم حسابات عمّان التي تحول دون استنساخها النهج التركي في الشمال، فإنّ الكلام المُثار أخيراً حول احتمال إحياء غرفة «الموك» يبدو جديراً بالاهتمام. وسُجّل خلال العام الأخير انخفاضٌ ملحوظٌ للتأثير السّعودي المباشر في الحرب، ولا سيّما مع تطوّرات الغوطة الشرقيّة مع ما تعنيه من خروجٍ متوقّعٍ لـ«جيش الإسلام» من معادلات محيط دمشق. ويلعب انسداد الأفق السياسي دوراً في تضييق الفرصة أمام اختراق كبير يُمهّد لانعطافة نحو حلول توافقيّة في العام الثامن، لا سيّما مع التعثر المتتالي لـ«مسار جنيف». ولا يبدو «مسار سوتشي» مؤهّلاً لتحقيق هذا الاختيار في ظلّ إحجام القوى الغربيّة (حتى الآن) عن تقديم الدعم له.

واشنطن و«الخطّة ج»؟

«لا يجب الافتراض أن الأسد سوف يقاتل حتى النهاية». كانت هذه أشبه بخلاصةٍ انتهت إليها دراسات كثيرة أعدّتها مراكز بحثيّة أميركيّة في العام الأوّل من عمر الأزمة السوريّة. من بين تلك الدراسات ما صدر عن مراكز تُعدّ مؤثّرة في صناعة القرار الأميركي، مثل «مركز الإجراءات الوقائيّة» التابع لـ«مجلس العلاقات الخارجيّة/ cfr». المركز كان قد أوصى في تشرين الأول 2011 بجملة توصيات مثل «التركيز على العقوبات الاقتصاديّة»، و«تشجيع الانشقاقات»، و«دعم المعارضة المسلّحة في حال تشكّلها»، مع التركيز على أنّ الرئيس السوري إذا «استنتج عند نقطةٍ ما أنّ استمراره بالحكم لا يمكن الدفاع عنه أو على الأقل في موضع شك كبير، فقد يسعى إلى إيجاد ملجأ آمن لعائلته». في السنوات التالية طُبقّت كل التوصيات، لكن الغاية المنشودة لم تتحقّق ولم يسعَ الأسد إلى إيجاد «ملجأ آمن». قبل عامين بدا أنّ واشنطن قد اختارت التوجّه نحو «الخطة ب» التي تقوم في الدرجة الأولى على إطالة أمد الحرب ودعم «المعارضة المفحوصة». (راجع «الأخبار» العدد 2962) . لكنّ تطورات العام الأخير توحي بأنّ «المعارضة المفحوصة» لم تحقّق نجاحاً يُذكر، فيما عملت واشنطن على زيادة حضورها العسكري المباشر سواء عبر زيادة عدد القواعد، أو عديد الجنود، ثم الإعلان عن خطط لتشكيل «قوّة حرس حدود». اليوم، يبدو أن سؤال الحرب الأهم: ما هي «الخطة ج»، وهل تنطوي على تصعيد أميركي غير مسبوق في العام الثامن؟

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى