العودة إلى الجذور (مصطفى الفقي)

مصطفى الفقي

 
يفتش المرء في أعماقه عن مشروعه الفكري كما تبحث الأمم عن هويتها، إذ لا مستقبل لمن لا تاريخ له، ولن يستشرف شعب غده إلا بدراسة أمسه ويومه، لذلك فإن “العودة إلى الجذور” أمر لازم من أجل فهم ما يدور حولنا والتطلع إلى ما يأتي بعدنا، ولقد حاولت شخصياً أن أقارن بين الفترة الليبرالية (1919-1952) والحقبة الناصرية (1952-1970) فوجدت أن انتمائي لكلٍ منهما قائم، بل أيضاً إلى بعض فترات ما بعدهما، خصوصاً عصر الرئيس الراحل السادات، ووجدت في كل فترة ما يستهويني وفي كل منها أيضاً ما يدفعني بعيداً عنها، ولكي أبسط ما أوجزت فإنني أتعرض للنقاط الآتية:
 
* أولاً: إن التاريخ المصري وحدة متكاملة تسلم كل حقبة منها لما بعدها، التي قد تكون امتداداً لها أو رد فعلٍ عليها، فثورة يوليو 1952 جاءت رد فعلٍ للعصر الملكي بما له وما عليه، ولكن حكم الرئيس السادات جاء امتداداً لعهد عبد الناصر من حيث الشكل دون المضمون، وأنا ممن يؤمنون بالوحدة العضوية والتواصل بين مراحل التاريخ الوطني المختلفة، ويدركون أهمية المصالحة بين فتراته المتعاقبة، شريطة أن نكون محكومين بنظرية الثواب والعقاب التي يجب أن تكون معياراً للحكم على البشر حكاماً ومحكومين، خصوصاً أن الأمم تبقى حيّة والشعوب تظل مستمرة ولكن أصحاب السلطة هم الزائلون دائماً .
 
* ثانياً: إن الفترة الليبرالية ما بين ثورتي 1919 و1952 هي وعاء الحركة الوطنية المصرية ومخزن القيم الذي لا ينتهي، ومعين التقاليد الذي لا ينضب، والذين تحدثوا عن “الدولة العميقة” فاتهم أن يتذكروا أن الدولة المصرية هي واحدة من أقدم الدول على الأرض، حيث عرفت الكنانة الإدارة المركزية منذ طفولة التاريخ، لهذا فالدولة المصرية أكبر من كل الثورات وأقدم وأعرق من كل النظم والحكومات، وعلى الجميع أن يدركوا ذلك، خصوصاً أن الثورة منهج للتغيير، أما الدولة فهي سر الديمومة وروحها الباقية، لذلك فإنني أقول لنفسي ولغيري إن الدولة المصرية يجب أن تكون فوق الجميع تنحني لها الرؤوس الشامخة وتنخفض أمامها الهامات العالية مهما يكن سلطانها أو سطوتها أو نفوذها .
 
* ثالثاً: إن تعاقب الحضارات على الأرض المصرية، وتداول الثقافات على ضفاف النيل، قد أعطى مصر خصوصية تربط بين الجذور والفروع، لذلك فإنه واهم من يتصور أننا يمكن أن نمضي في طريقنا منقطعي الصلة بجذورنا، وليتذكر الجميع أن مصر دولة مؤسسات رسمية وشعبية ومدارس فكرية ومهنية، أليس لدينا أقدم وأكبر مؤسسات للديانات السماوية في المنطقة كلها؟ إننا نفاخر “بالأزهر الشريف” و”الكنيسة القبطية” مع وجود ستة “معابد يهودية” في العاصمة المصرية وحدها حتى الآن، ألا يكون ذلك مصدر فخرٍ واعتزاز لنا جميعاً؟ وهل نسينا أن لدينا مدارس راسخة في “القضاء” و”الدبلوماسية” و”العسكرية” و”الأمن” و”التعليم”، بل و”الري” أيضاً وغيرها مما يطول المقام في شرحه؟
 
* رابعاً: إن لكل فترة في تاريخنا ما لها وما عليها، دعونا على سبيل المثال نتذكر مآثر الأسرة العلوية في تاريخ مصر الحديث، فمحمد علي هو المؤسس، والخديوي إسماعيل هو المطور، وفؤاد الأول بكل جهامته هو المحدّث، وحتى فاروق وإن كان فاسداً، إلا أنه كان وطنياً، ولنتذكر الأمراء عمر طوسون وعباس حلمي ويوسف كمال ومحمد عبد المنعم، والأميرات اللاتي وضعن لبنات المجتمع المدني الحديث في مصر لكي نقول كلمة حقٍ في أسرةٍ لم يبرز فيها من الخونة إلا الخديوي محمد توفيق الذي فتح الأبواب للاحتلال الأجنبي بعد أن أطاح ثورة الجيش المصري بقيادة الضابط المصري الفلاح أحمد عرابي . وإذ جئنا إلى العصر الناصري، فإننا نجد ذلك الرجل ذا القامة العالية والشخصية “الكاريزمية” الذي يحفل سجله بفتوحات يستحيل إنكارها في الداخل وفي الخارج، كما أن له أيضاً أخطاء يصعب نسيانها، أما رجل الدولة الداهية أنور السادات فقل فيه ما تشاء فهو واحد من أخطر من جلسوا على مقعد الحكم في مصر برؤيته وتفرده ومفاجآته، إنني أقول ذلك لكي أثبت للجميع أن التعميم في الأحكام جريمة، وأن المضي وراء المشاعر الشخصية وهم لا مبرر له ولا جدوى منه .
 
* خامساً: إن الشعب الذي يكون منبت الصلة بجذوره قد يطفو على سطح الماء أحياناً، ولكنه لا يستمر طويلاً ولا يدوم أبداً، وعلينا أن ندرك دائماً أنه لا يصح إلا الصحيح ولا يبقى إلا الأصيل، وكلنا في سفينة واحدة هي الوطن الأم، فإذا عصفت بها الرياح وضربتها الأمواج، فإننا جميعاً غارقون ولن ينجو فصيل دون آخر، وأنا لا أنكر شخصياً أنني نتاج أحقابٍ ثلاث هي “العصر الليبرالي” الذي كان مادة أطروحتي في الدكتوراه من جامعة لندن عن “الأقباط” أبناء الوطن المصري وشركاء الحياة والقدر، و”العصر الناصري” الذي عشته طالباً وشاباً صغيراً، ثم “العصر الساداتي” الذي أدركت فيه طبيعة المتغيرات الدولية والتحولات الإقليمية والتطورات المحلية، أما عصر الرئيس السابق مبارك فقد جلسنا فيه جميعاً في “الدور المسحور” أبناءً لجيل مسروق نعلق آمالنا ونجتر أحلامنا، نلعن الزمان ونهجر المكان ثم ننعى ما نراه من فرصٍ ضائعة وأحلامٍ مجهضة .
 
. .إن “العودة إلى الجذور” ليست شعاراً مبهماً أو أسلوباً فلسفياً، إنما هي تأكيد للهوية وإحساس بالانتماء، واستجماعٌ لعناصر تراكمت في العقل الجمعي بفعل الأزمنة والعصور فخلّفت شعوراً ذاتياً بالتعددية المقبولة التي صنعت سبيكة متميزة للمصريين على اختلاف معتقداتهم وأفكارهم ومشاربهم، لذلك فإنني أقول لكل من يساوره القلق على مصر الوطن والهوية ليس هناك مبرر لذلك، فالدولة المصرية أعرق من أي توجه طارئ وأكبر من أي فصيلٍ عابر، إنها تحتوي الجميع ولا يقدر عليها إلا أبناؤها المخلصون لها الذين يقفون على أرضية وطنية لا تذوب في إطار فكر مغلق أو رؤية مبتسرة أو مشروع حالم .

صحيفة الخليج الإماراتية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى