“بروفة” عن يالطا جديدة قد تغير اللعبة في “الشرق الأوسط الكبير” (جورج ساسين)

 

جورج ساسين

 

من المرجح أن تستمر "عملية الكباش" الاستراتيجي بين المعسكرين الدوليين على سوريا في أروقة مبنى الأمم المتحدة في نيويورك الأسبوع المقبل بانتظار تبلور قرارات مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول، وإعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني. فما هي العوامل الحاسمة في هذا الصراع الذي قد يغير قواعد اللعبة الدولية؟
ستلتئم الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 أيلول في دورتها الـ 67 في ظل معركة مفتوحة بين القوى الدولية المتصارعة بين إتجاهين: الأول دفاعي يتمحور حول التشبث بما ورثه جراء الحرب العالمية الثانية من مكانة وحيثية لتوسيع مدى نفوذه على المسرح الدولي والإقليمي، والثاني هجومي لأنه لم يعد يقبل بما حققته له إتفاقية يالطا من مكاسب استراتيجية وسياسية، و/ أو لأنه فرض نفسه على أرض الواقع كقوة اقتصادية جديدة ناشئة يحسب لها حساب في الحاضر والمستقبل.
ولئن ظهرت إرهاصات ذلك في السنوات القليلة الماضية في معالجة عدد من الأزمات الدولية إلا أن "الربيع العربي" بخلفياته واستهدافاته في مختلف أنحاء الإقليم، والانقسام العمودي سواء في مجلس الأمن أو في الجمعية العامة للأمم المتحدة في ما يطلق عليه تسمية "المجتمع الدولي" لجهة التعاطي مع هذه المتغيرات والثورات لاسيما على خلفية الحرب التي أطاحت العقيد الليبي معمر القذافي، وتلك المفتوحة لمحاولة تكرارها في سوريا ضد الرئيس بشار الأسد، ظهَّرا تصادم الاستراتيجيات الكبرى بين الدول الغربية النافذة وبين الدول الصاعدة المتنوعة.
ثمة استشراف لابد منه اليوم لاستنباط الخطوط العريضة وإرهاصات التحولات المرتقبة من خلال الخطب التي سيلقيها رؤساء هذين المعسكرين في حضرة ممثلي الدول الأخرى لتبيان المآل الذي سيسلكه "النظام الدولي" في المقبل من الأيام. وأصبح من الجلي في الوضعية الدولية الحالية أن الصين وروسيا جمدتا اللعبة الاستراتيجية حول سورية في مجلس الأمن، لأنهما وضعتا شرطين: الأول، فرض قواعد جديدة لتوازن القوى الدولية. والثاني، وضع أسس دولية مختلفة لإدارة أمن الطاقة من نفط وغاز. في هذا السياق، تدخل الدول الصاعدة أو الناشئة كرديف استراتيجي في إطار دول "البريكس" لمحاولة إحتلال المكانة التي تستحقها على مسرح الأحداث في خلال العقدين المقبلين.
في المقابل، ترفض الولايات المتحدة والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي والدول العربية في الخليج رفضاً قاطعاً "إعادة النظر بقواعد اللعبة الكبرى في الشرق الأوسط الكبير" التي أرساها الحلف الموقع بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على ظهر سفينة "يو إس كوينسي"الحربية عام 1945.
ويتمثل رد الفعل الدفاعي هذا باتجاهين أساسيين اليوم في واشنطن: الأول يضم دعاة ما تسميه المعاهد العسكرية في العالم "الحرب الانقلابية التخريبية"، التي تتوسل نشر الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي من خلال تطبيق استراتيجية "القوة الذكية" عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووزارة الخارجية الأميركية والمخابرات المركزية الأميركية. ويبدو هذا الاتجاه قريباً من الرئيس باراك أوباما بشكل خاص، ذلك أنه يفضل المقاربات الناعمة عبر الأمم المتحدة، ولو فشلت هذه المنظمة في مساعيها، ويلعب لعبة الوقت لإمرار الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، سواء في المفاوضات مع إيران حول ملفها النووي، أو مع تركيا للإمساك باللعبة الطائفية في سوريا وبالتوازن المركب بين الأقليات والإخوان المسلمين والجهات الفاعلة في الميدان. أما الاتجاه الثاني فيضم كبريات شركات تصنيع الأسلحة وأبرز شخصيات تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل، التي تحض على شن "الحرب الاستباقية" على غرار العمليات ضد العراق وأفغانستان بهدف الدفاع عن "العالم اليهودي ـ المسيحي" لمواجهة المخاطر التي تشكلها دول "محور الشر" وتنظيمات "القاعدة"، وذلك عبر بث الفوضى في الإقليم لتعميم الخراب من الناحية التكتيكية.
أما المسألة الأساسية التي هي محل نزاع جيو ـ سياسي خفي فهي الانتقال المقبل لمركز الثقل في تدفق الطاقة وتأمينها من الجزيرة العربية إلى آسيا الوسطى وبعدها إلى القطب الشمالي. ويكفي النظر إلى خريطة أنابيب النفط الموعودة حتى يمكن كشف المستور عن جانب استراتيجي في الصراع على سوريا. فالاستشراف العلمي لمنابع الطاقة الهائلة في شمال العراق وكردستان والقوقاز والبحر الأبيض المتوسط اي في محاذاة الشاطئ السوري واللبناني والقبرصي والاسرائيلي يغير المعادلة القائمة اليوم. ويدفع الأطراف جميعها إلى الحلبة.
وتتلاقى الصين وروسيا في تشبثهما في رفض استمرار هيمنة الدول الغربية الأساسية على هذا الجزء من "الشرق الأوسط الكبير" بالتعاون مع حليفتيها، المملكة العربية السعودية وقطر. ذلك أن هاتين الأخيرتين تولتا رعاية إيصال "الاسلام السياسي" إلى السلطة من خلال ما يسميها البعض "ثورات القصور" والتي إتخذت طابعاً دموياً لم يتحسب له البعض، كما هي الحال في سوريا. والهدف هو الإمساك والتحكم بخطوط عبور الطاقة من نفط وغاز إلى الأسواق العالمية في السنوات المقبلة.
من هنا نفهم أكثر بعض دوافع الفيتو المزدوج الذي استخدمته بكين وموسكو ثلاث مرات لإيقاف مشاريع قرارات في مجلس الأمن حول سوريا تقدمت بها الدول الغربية في هذا المجلس.
وبما أن الغرب، بحسب العديد من المنظرين الاستراتيجيين، يعيش حالة ترهل وانقسام وعدم استقرار نتيجة تضارب رؤاه في كيفية حل أزماته الداخلية، ولإنكفائه في عمليات نشر قواته العسكرية على مسارح العمليات الخارجية، فهو يترك المجال لأجهزة مخابراته ووحداته الخاصة للعمل بعيداً عن الأضواء إلى جانب المتمردين لإدارة عملية السيطرة على دمشق بطريقة ناعمة وبأقل كلفة. أما الصين فهي تكتفي الآن بتعداد النقاط في هذه المنازلة حول سوريا وتنتظر المناسب المؤاتية لدعوة الجميع إلى طاولة "الحوار" لفرض قواعد اللعبة الكبرى الجديدة عليهم.
فالشكل الجديد للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا التي نشهد "بروفة أولية " عنها اليوم، وتوظيف طموحات اللاعبين الاقليميين حول نقاط الارتكاز التي يمكن أن تشكلها سوريا بالنسبة لإيران والسعودية وتركيا وإسرائيل، تفترض منا المتابعة الحثيثة لما قد يحدث من مفاجآت قد تخلط الأوراق في الفترة الفاصلة من الآن لغاية يوم عيد الشكر في الولايات المتحدة ، أي 22 تشرين الثاني، ومروراً بالانتخابات الرئاسية في السادس منه.
كما لابد من النظر إلى ما يمكن أن تسفر عنه إجتماعات المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول المقبل، وتأثيره في اتجاه السياسات الكبرى في المنطقة. وفي سياق المفاجآت، تدرج احتمالات تنفيذ اسرائيل لخطتها في ضرب المنشآت النووية الإيرانية. وفي كل الأحوال، يبقى الصراع الأساسي حول الحوكمة الجديدة والتحكم بخريطة النفط والغاز الجديدة الذي قد يهدد بإطاحة اتفاقية يالطا وملحقاتها في "الشرق الأوسط الكبير".

 موقع الالكترونية اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى